الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: تكوين الأسلوب
وهنا نجد فرقًا واضحًا -في تكوين الأسلوب واستكمال عناصره- بين الطالب المبتدئ والأديب المنتهي؛ فالطالب الذي يأخذ في دراسة الكتابة يسلك الطريق الذي يسلكه زميله طالب الموسيقى أو الرسم؛ تجد تلميذ الموسيقى يبدأ درسه بتعرف الأدوات الموسيقية والفرق بينها، وطرق استخدامها، وأنواع الألحان والأنغام التي تنتجها كل أداة، ثم ينتقل من ذلك إلى تأليف الألحان المركبة واستخدام أداتين أو أكثر مع مراعاة الانسجام والتأليف بين الأنغام
…
وآخر الأمر يتعلم كيف يؤلف الدور الموسيقي العام ويتخذ من الأدوات وأنغامها وسائل لتوقيع المقطوعات وقد يصل به الأمر إلى التجديد والابتكار.
كذلك طالب الأدب يبدأ دروسه بتعلم الحروف وتأليف الكلمات منها، ثم تأليف الجمل من الكلمات تأليفًا خبريًّا أو إنشائيًّا فعلية كانت أو اسمية، إيجابية أو سلبية، مع ملاحظة الفروق الدقيقة بينها وينتقل من الجمل إلى الفقرات المؤلفة من الجمل مفصولة أو موصولة حسب مقتضيات المعاني
…
ولا ينسى طرائق المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والمطابقة وحسن التعليل
…
وأخيرًا هذه الأساليب القصصية أو الجدلية أو التقريرية أو الوصفية منثورة ومنظومة
…
ومعنى هذا أنه يبدأ بالألفاظ وينتهي إلى الفنون الأدبية.
أما الكاتب المنتهي فإنه يسير في طريق عكسية، شأنه شأن الموسيقار البارع
تعرض له القطعة الأدبية أو يبدو له تصوير معنى نفسي أو مظهر طبعي فيفهم المراد ثم يسمعك ألحانًا منسجمة منسقة، تؤدي ما وراءها في دقة وجمال، كذلك الأديب إذا شاء قولا في الوصف، أو الرثاء، أو القصص، اختار معانيه، ورتبها، وفسرها طوع مزاجه تفسيرًا فنيًّا، ثم عبر عنها بالألفاظ التي تجذبهاالمعاني.
هذا الكاتب كما رأيت يبدأ باختيار الفن وينتهي بالألفاظ، عكس التلميذ الناشئ.
وسواء أعنينا بحال الطالب أم الكاتب، فإن تكون الأسلوب أهم المظاهر لبراعة الكتاب والشعراء، وأوضح معرض لقوة الإدراك ويقظة الشعور وجمال الذوق؛ لذلك كان الكاتب الأمين ذو الطبع الأدبي الصادق، منصرفًا إلى تخير الكلمات الفصيحة الدقيقة المعنى، المتلائمة مع أخواتها، حتى تطمئن عناصر العبارة في موضعها دون إكراه، وحتى يجمع الأسلوب بين وضوح التفكير وجمال التصوير.
وهذه الدرجة تتطلب من غير شك مرانة دائبة، وصبرًا طويلًا، وذوقًا جميلا صادقًا وتملأ بخير الأساليب الأدبية فهمًا، ونقدًا، وتمثلًا، ويمكن للكاتب أن يلزم نفسه بأمرين اثنين ليوفر لنفسه الفوز بحسن التعبير.
الأول:
الحرص الشديد على الدقة سواء في أداء الفكرة أو صوغ الخيال فلا يسمح بكلمة أو عبارة هي أقل أو أكبر من فكرته كما يرفض استعارة قبيحة، أو كناية غامضة، أو تعليلا غير حسن.
الثاني:
التصرف السديد في بناء الجمل والعبارات بتقديم بعض العناصر
أو تأخيرها، وبالقصر أو الفصل أو الوصل، حتى تكون العبارة صورة صادقة لما في نفسه من المعاني وما في وجدانه من تصور وموسيقى.
ذلك يتلخص في أن يكون الأسلوب للكاتب طبيعته الثانية، وبذلك يكون سهل الإنشاء؛ يصدر عن صاحبه حديثًا أو محاضرة أو تأليفًا، كأنه يتنفس أو يبصر، وهذه آخر درجات القدرة البيانية.