الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: موضوع علم البلاغة
رأينا أن البلاغة العربية انتهت في أبحاثها إلى علمين أساسيين: المعاني، والبيان، وجعلت البديع ملحقًا بهما، كما لاحظنا أن مباحث هذه العلوم لا تخرج في جملتها عن دراسة الجملة والصورة لتغذية قوة الإدراك النفسية، وسنرى هنا -كما بينا من قبل- أن موضوع البلاغة أعم من ذلك وأشمل وأنه لا حاجة بنا مطلقًا إلى هذه الأسماء العلمية: كالمعاني، والبيان، البديع، التي تطلق على نقط جزئية لا تستوجب هذه العنوانات.
يعرف موضوع البلاغة بالرجوع إلى أهم خواصها، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال1، فأبحاث علم البلاغة تدور حول هذه المسألة وبيان ما يناسب وما لا يناسب؛ لأن ما يحسن في خطاب جماعة أو في حال ما، قد لا يحسن مع جماعة أو في حال أخرى، وما قد يصلح لغرض علمي من الأساليب لا يصلح لغرض أدبي، فالمسألة هي بيان الأنسب، لذلك يعترضنا دائما هذان السؤالان: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟
والإجابة عن السؤال الأول تتناول القواعد الخاصة بمادة الكلام البليغ من حيث موضوعاته وأفكاره، وعواطفه وأخيلته، كما أن الإجابة عن السؤال الثاني تقوم على طريقة التعبير عن هذه المادة أدائها.
ويجب أن نلاحظ أن قوانين التعبير تشمل المادة أو تمسها، إذا كانت المادة مقياس العبارة وسبب تنوعها فالأسلوب يختلف خطابة عنه مراسلة، والعبارة
1 راجع 8 Cenung p.
الاستفهامية تخالف الإخبارية، وكذلك دراسة المادة لا تخلو من القول في التعبير، فالمادة لا تدرس على أنها شيء منفصل مستقل، وإنما يراعى أنسبها، وصلته باللغة التي تؤديه تقريرًا كانت أو حوارًا، ومن الناحية النقدية لا أستطيع وصف الكلام بالوضوح أو الجمال إلا إذا نظرت إلى معانيه فهي مقياس هذه الأوصاف كما يمر بك في الكلام على صفات الأسلوب. ومعنى هذا أن ناحيتي الدراسة البلاغية تلتقيان كما رأيت، وقد تفترقان افتراقًا جزئيًّا حين نتأخر إلى الوراء لننظر في مسألة الصحة وحدها، أي حين نبحث في صواب الفكرة في ذاتها، أو في سلامة التركيب نحويًّا لكن الدرس البلاغي لا يرى فصلهما بحال.
ومهما يكن من الأمر فإن الدراسة العلمية تبيح لنا أن نتناول كل جانب ونخصه بدراسة عالية فية، وبذلك ينحصر موضوع البلاغة في بابين أو كتابين: الأسلوب، والفنون الأدبية.
1-
الأسلوب Style وفي هذا القسم من علم البلاغة ندرس القواعد التي إذا اتبعت كان التعبير بليغًا أي واضحًا مؤثرًا، فندرس الكلمة والصورة والجملة والفقرة والعبارة والأسلوب من حيث أنواعه وعناصره وصفاته ومقوماته وموسيقاه، وقد يجد الطالب في هذا الدرس شيئا من التفاصيل المحتاجة إلى أناة وصبر لكنها خطيرة النتائج في فن البيان.
وفي هذا القسم نضع البلاغة العربية، فعلم المعاني يدخل كله في بحث الجملة وعلم البيان وأغلب البديع يدخل في باب الصورة، وتبقى المباحث الأخرى مهملة في هذه الكتب التي انتهت إليها الدراسة البلاغية، نعم إنك واجد بلا شك في كتب الأقدمين كالصناعتين، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والمثل السائر مباحث قيمة تتصل بالعبارة من الناحية الفنية العامة ولكنها غير مستوفاة ولا منظمة.
2-
الفنون الأدبية وقد تسمى قسم الابتكار Invention وهنا ندرس مادة الكلام من حيث اختيارها وتقسيمها وقسميها وما يلائم كل فن من الفنون الأدبية، وقواعد هذه الفنون كالقصة والمقالة والوصف والرسالة والمناظرة والتاريخ وليلاحظ أن الدراسة هنا شكلية كذلك فهي لا تخلق المادة للطالب ولا تعد له الأفكار والآراء؛ فذلك من عمل الطالب وقراءته الخاصة وتجاربه الحيوية التي تمده بالآراء وتكشف له عن الحقائق، وعلى البلاغة أن تشير فقط إلى ما يتبع في تأليف المعاني وتنظيم الفنون أقسامًا لتنتج الآثار المرجوة.
وهنا أشير إلى مسألة هي نتيجة لما أسلفنا، تلك أن علم البلاغة يميل في جملته إلى الناحية الشكلية أو الأسلوبية فهو لن يعرض لقيمة الفكرة بل لملاءمتها ولا يخلقها لكن ينسقها وهو يعنى كثيرًا بالعبارات والأساليب حتى إن بعض الباحثين يطلق عليه كلمة الأسلوب، ومهما تختلف وجهات النظر فقد أصبحت البلاغة تبحث الآن في هذه الموضوعات التي ذكرنا ولن تستطيع الإفلات من الإجابة عن هذين السؤالين: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟
وكما لاحظنا قصور علم البلاغة عندنا في قسم الأساليب كذلك نجدها قاصرة في قسم الفنون الأدبية إلا فقرات مفرقة أو فصول درست لأغراض غير أدبية كما في آداب البحث والمناظرة.
وبالموازنة بين أبحاث البلاغة كما دونتها الكتب العربية الأخيرة، وبين موضوعها كما يجب أن يكون، نستطيع أن نقرر النتائج الآتية:
1-
إن نصف البلاغة النظرية مفقودة في اللغة، أكثره في قسم الفنون الأدبية، وباقية في باب الأسلوب على أن ما ترجم من خطابه أرسطو وشعره إنما نقل على أنه فلسفه لا أدب، وكانت الترجمة قاصرة فلم تفد كثيرًا.
2-
إن شطرًا من الأسلوب قد درست تحت عنوان المعاني والبيان والبديع وهو
شطر على خطورته يعوزه التنسيق، ولا حاجة بنا الآن إلى هذه الأسماء التي تسمى علومًا خاصة لأنها فصول بلاغية يسيره.
3-
إن البلاغة العربية في حاجة إلى وضع علمي جديد يشمل هذه الأبواب والفنون التي أشرنا إليها، ويصل بينها وبين الطبيعة الإنسانية لملابستها الزمانية والمكانية، حتى يخدم الأدب، وذلك كله غير البحث التاريخي الذي يفرد له درس خاص، وقد نوهنا في مقدمة هذه الطبعة بهذا المنهج الجديد الذي ينبغي أن يوضع على أصوله علم البلاغة العربية ونعيد ذلك هنا؛ لا نمل الدعوة إليه فقد مضت القرون ونحن متخلفون في هذا الميدان، وها نحن أولاء ننتظر كتاب البلاغة الجديد حتى لا نعيش على ترديد ما سبقنا إليه في غير فائدة ولا تجديد.
4-
إن الأدباء هم أولى الناس بدرس البلاغة حتى يخلصوها من أساليب الفلاسفة ومذاهبهم وألغازهم فذلك هو الذي أفسد بلاغتنا وحولها بحوثًا لفظية عقيمة أشبه بالرياضة والكيمياء.
وليست أدعى أني أفعل شيئًا من ذلك في هذا الفصول وحسبي أمران:
الأول: هذه الإشارة إلى ما يجب أن ننهض به.
الثاني: أني تناولت الأسلوب من بعض نواحيه العامة فاتخذت الدرس فاتحة لمواصلة البحث علنا ننتهي إلى وضع علم البلاغة العربية.