الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: عناصر الأسلوب
رأينا في الفصل الماضي أن الخطوة الأولى للكاتب إنما هي اختيار الفن الأدبي الذي يعتمد عليه لأداء ما في نفسه من المعاني، فهو مقالة أو قصيدة أو رسالة أو قصة أو خطابة عامة أو محاضرة أو كتاب مؤلف، وبعد ذلك يختار المعاني أو الأفكار والحقائق التي يعتبرها هامة جديرة بموضوعه لجدتها أو قوة تأثيرها أو ملاءمتها لقرائه وسامعيه، ثم يرتب هذه الأفكار ترتيبًا يصل به إلى نتائجها المرادة، سواء اختار طريقة التحليل أم التركيب، فإذا انتقل من ذلك إلى التعبير عنه بعبارات واضحة تكشف عنه فقد تكون له الأسلوب العلمي أو الأدبي بمعناه العام، كما قيل في وصف الشمس:"الشمس كوكب مضيء بذاته وهي أعظم الكواكب المرئية لنا منظرًا، وأسطعها ضوءًا، وأغزرها حرارة، وأجزلها نفعًا للأرض التي نسكنها، والشمس كرة متأججة نارًا، حرارتها أشد من حرارة أي ساعور أرضي، ويبلغ ثقلها ثلاثمائة وزن من ثقل الأرض، وهي أكبر منه جرمًا بثلاثمائة ألف وألف ألف مرة، وتدور الشمس على محورها من الغرب إلى الشرق مرة واحدة في نحو خمسة وعشرين يومًا وتبعد عنا بنحو اثنين وتسعين ألف ألف ميل وخمسمائة ألف ميل، وهي مع كل هذا العِظَم الهائل لا تعد في النجوم الكبرى، بل إن أكثر ما نشاهده من النجوم الثابتة شموس أكبر من الشمس بألوف، والشمس بسياراتها تابع من توابع أحدها"1.
1 أحمد الإسكندري: نزهة القارئ ج1 ص166.
فالفن هنا مقالة اقتبس منها هذا النص، ويلاحظ أن الكاتب كان حريصا على إيثار الحقائق القيمة الدقيقة، ثم رتبها ذاكرًا مسائل عامة تميز الشمس من الكواكب الأخرى، وأتبع ذلك بذكر الخواص المتصلة بشكلها وحرارتها وحركتها، وأخيرًا هذه العبارة الواضحة المؤلفة من الكلمات والتراكيب، وهنا نستطيع أن نقول إن الأسلوب العلمي يتكون من عنصرين أساسيين:
الأفكار والعبارات. وأما اختيار الأفكار وتنسيقها، وإيثار الكلمات الدقيقة والجمل الواضحة، فذلك عمل أسلوبي لأنه طريقة يقوم بها الكاتب متأثرًا بموضوعه من جهة وبشخصيته من جهة أخرى.
وقد يتوافر للأسلوب خاصة أخرى، حين يلجأ الكاتب إلى الخيال يصور به انفعاله -عاطفته- فيضيق دائرة الأفكار ويأخذ منها أجلها وأشملها على أسباب القوة والجمال، ثم يفسرها تفسيرًا أديبًّا كما يشاء خياله ويملي عليه طبعه ومزاجه، وبذلك نقرأ أسلوبًا أدبيًّا خالصًا تبدو فيه شخصية الكاتب أشد وضوحًا وأبعد تأثيرًا كما قيل في الشمس كذلك: "سَلِ الشمس من رفعها نارًا، ونصبها منارًا، وضربها دينارًا؟ ومن عقلها في الجو ساعة، يدب عقرباها إلى يوم الساعة؟ ومن الذي آتاها معراجها وهداها أدراجها، وأحلّها أبراجها، ونقل في سماء الدنيا لمسراجها؟
الزمان هي سبب حصوله، ومنشعب فروعه وأصوله، وكتابه بأجزائه وفصوله، وُلد على ظهرها، ولعب على حجرها، وشاب في طاعتها وبرها ولولاها ما اتسقت أيامه، ولا انتظمت شهوره وأعوامه، ولا اختلف نوره وظلامه، ذهبُ الأصيل من مناجمها، والشفق يسيل من محاجمها وتحطمت القرون على قرنها، ولم يعل تطاول السنين بسنها، ولم يمح التقادم لمحة حسنها"1.
هذا النص يختلف عن سابقة مع اتحاد موضوعهما؛ فالأول وقف عند الحقائق
1 أحمد شوقي: أسواق الذهب ص2.
والعبارات وصاغ منها الأسلوب العقلي الخالص، والثاني تجافى عن الحقائق التفصيلية الدقيقة كالأعداد والمقاييس ووقف عند رءوس الأفكار وأهمها، ثم تصورها أشياء جميلة لإعجابه بها، وصورها بخياله فكانت جميلة مؤثرة، فالشمس دينار مضروب وساعة معلقة عقربها الليل والنهار، وهي كتاب الزمن ومهده وأمه، وهذا الأصيل ذهب من مناجم الشمس والشفق سائل من محاجمها
…
إلى غير ذلك مما نفصله بعد، وبذلك نقول: إن الأسلوب الأدبي ينحل إلى عناصر ثلاث: الأفكار والصور والعبارات، وكذلك يكون الاختيار الذي يتناول الأفكار والصور والعبارات عملًا أسلوبيًّا، هو طريقة الصياغة التي تتصرف في تلك العناصر بما تراه أليق بموضوع الكلام.
فإذا كان الفن شعرًا كقول حافظ إبراهيم في الشمس:
لاحَ منها حاجبٌ للناظرين
…
فَنسُوا بالليل وضّاع الجبين
ومحت آيتُها آيتُه
…
وتبدَّت فتنة للعالمين
هي أم النار والنور معا
…
هي أمَّ الريح والماء المعين
هي طَلعُ الروض نورًا وجنَى
…
هي نشر الورد طيب الياسمين
هي موتٌ وحياة للورى
…
وضلالٌ وهدى للغابرين1
لاحظت الوزن والقافية يلزمان الشعر فوق هذه العناصر التي ذكرت في الأسلوب الأدبي والتي سنجد أنها في بيان النظم تختص بميزات فنية نشرحها في الكلام على أنواع الأساليب.
وهناك عنصر العاطفة الذي يعد في الأدب الدافع المباشر إلى القول وروحه، وهذا العنصر هام إلى درجة أنه احتاج غالبًا، لأجل أدائه، إلى الخيال الذي هو لغة العاطفة ووسيلة تصويرها من ناحية الأديب، وبعثها في نفس القارئين، فالعاطفة في الأدب عنصر أسلوبي يُحسّ دون أن يشرح أو يعرض عرضًا مباشرًا صريحًا
1 الديوان ج1 ص207 وضاح الجبين: القمر.
فإذا أراد الكاتب درس عاطفة وتحليلها، وبيان مبعثها وآثارها، كان كاتبا عالما.
هذه هي عناصر الأسلوب كما نتصوره نصًّا أدبيًّا لا يتجزأ، وكما نتصوره أقسامًا لكل قسم خواصه المترتبة على ما فيه من أفكار وانفعالات وأخيلة.
وأما إذا وقفنا عند الجانب اللفظي فقط وهو ما يتصرف إليه اللفظ عند الإطلاق فيمكن أن تعتبر العناصر هي الكلمة، والجملة، والصورة "التشبيه، والاستعارة، والكناية
…
" والفقرة والعبارة، وعلى ذلك يدرس الأسلوب للتلاميذ، دراسة تطبيقية، وتكون هذه العناصر -التي ذكرت سابقًا في التحليل- خصائص يتميز كل قسم ببعضها، ولا مشاحة في الاصطلاح.