الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية
أولا: في الشعر
…
الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية
نحاول في هذا الفصل أن نتعرف بعض عناصر الشخصية الأدبية من النصوص الكتابية والخطابية، والنظمية، ويلاحظ أن عناصر هذه الشخصية لا تظهر جميعها للقارئ إلا إذا درس آثار الأديب أو أكثرها، قراءة نقدية عميقة، ثم وازن بينه وبين غيره، وبخاصة في الفنون المشتركة بينهما، ليعرف كيف يختلف الأدباء في تفسير الأشياء والتعبير عما يتصورون، ومن هذا الاختلاف يفرق بين الشخصيات.
وليس من المستطاع أن نورد هنا جملة صالحة لكل أديب ونجعلها معرضًا للدرس والاستنباط، فذلك من عَمِل القارئ الذي يجد في الكتب والدواوين كفايته، وحسبنا أن نورد في كل فن ثلاثة أمثلة جزئية متوخين أن تتحد في الغرض، ثم نتلمس فيها ما يميز أصحابها، على أن يكون ذلك مثالًا يقاس عليه.
أولًا: في الشعر 1
قال أبو تمام يعاتب محمد بن عبد الملك الزيات:
لئن همي أوجدنني في تقلبي
…
مالًا لقد أفقدتني منك موئلا
وإن رمت أمرًا مدبر الوجه إنني
…
لأترك حظا في فنائك مقبلا
1 راجع العمدة: ج2 ص129.
وإن كنت أخطو ساحة المحل إنني
…
لأترك روضًا من جداك وجدولا
كذلك لا يُلقي المسافر رحله
…
إلى منقل حتى يحلف منقلا
ولا صاحب التطواف يعمر منهلا
…
وربعًا إذا لم يخل ربعًا ومنهلا
ومنذ يداني أو بنائي، وهل فتى
…
يحل عرى الترحال أو يترحلا
فمرني بأمر أحوذي فإنني
…
أرى الناس قد أثروا وأصبحت مرملًا1
فسيان عندي صادفوا لي مطعنا
…
أعاب به، أو صادفوا لي مقتلا
وقال البحتري يعاتب الفتح بن خاقان:
يريبني الشيء تأتي به
…
وأكبر قدرك أن أستريبا
وأكره أن أتمادى على
…
سبيل اغترار فألقى شعوبا2
أكذب ظني بأن قد سخطت
…
وما كنت أعهد ظني كذوبا
ولو لم تكن ساخطًا لم أكن
…
أذم الزمان وأشكو الخطوبا
ولا بد من لومة أنتحي
…
عليك بها مخطئًا أو مصيبا
أيصبح وردي في ساحتيـ
…
ـك طرفا ومرعاي محلا جديبا3
أبيع الأحبة بيع السوام
…
وآسي عليهم حبيبًا حبيبا4
ففي كل يوم لنا موقف
…
يشقق فيه الوداع الجيوبا
وما كان سخطك إلا الفراق
…
أفاض الدموع وأشجى القلوبا
ولو كنت أعرف ذنبًا لما كا
…
ن خالجني الشك في أن أتوبا
1 الأحوذي: الخفيف الحاذق، والمشمر للأمور لها لا يشذ عليه شيء.
2 شعوب: الموت.
3 طرق: ما خوضته الإبل
4 السوام: الماشية، آسي: أحزن
سأصبر حتى ألاقي رضا
…
ك إما بعيدًا وإما قريبا
أراقب رأيك حتى يصح
…
وأنظر عطفك حتى يثوبا1
وقال المتنبي يعاتب سيف الدولة الحمداني:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
…
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنا مل جفوني عن شواردها
…
ويسهر الخلق جراها ويختصم2
وجاهل مده في جهله ضحكي
…
حتى أتته يد فراسة وفم3
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
…
فلا تظنن أن الليث يبتسم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم
…
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
…
لو أن أمركم من أمرنا أمم4
إن كان سركم ما قال حاسدنا
…
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا -لو رعيتم ذاك- معرفة
…
إن المعارف في أهل النهى ذمم
1 يثوب: يعود.
2 شواردها: نوادرها يردي أشعاره، جراها أي من أجلها، يقول أنام ملء جفوني عن شوارد الشعر لأني أدركها سهلة متى شئت، وغيري من الشعراء، يسهرون ويتخاصمون على ما يتاح لهم منها لعزته عليهم.
3 يد فراسة: باطشة.
4 أمم: قريب.
كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
…
ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي
…
أنا الثريا، وذان الشيب والهرم1
هذا عتابك إلا أنه مقة
…
قد ضمن الدر إلا أنه كلم2
موضوع القصائد واحد، وهو العتاب، والأصل فيه تصوير الوفاء والبقيا على ماضي الصداقة، ثم الأسف والاستنكار لما حدث. لهذا كان موقفًا دقيقًا يحتاج إلى براعة، حتى لا يعود هجاء وقطيعة، وحتى يجمع صاحبه بين الوفاء لصديقه، والانتصار لنفسه فلا يفرط في اللوم فيعود خشنًا ثقيلًا، ولا يفرِّط في الانتصاف فيعود هيِّنًا ذليلًا. ومع هذا فقد وقف كل من هؤلاء الثلاثة موقفًا أدبيًّا يدل على شخصية واضحة ممتازة.
1-
فأما أبو تمام فكان واقفًا في منتصف الطريق لم يقرب من صاحبه جدًّا ولم يبعد عنه كذلك وأخذ يعرض عليه الأمر مستأذنًا، راضيًا بما يقع، مشيرًا إلى إيثاره على سواه وهم كثير، معنيا بنفسه وبفنه يصنعه بدقة وإتقان، يوسط عقله بينه وبين صديقه. وإذا كان لا بد من ذكر ميزاته الشخصية كما تشير هذه الأبيات، فأبو تمام إنسان ذكي حذر يعتد بقلبه فيبخل به، ويؤمن بعقله فيعتمد عليه، مخلص لنفسه وفنه أكثر من عنايته بالناس، يرضى بما يكون ويقتصد في اتصاله بالحاية، قوي الطبع مؤمن بالقضاء.
2-
وأما أبو عبادة البحتري فقد تقدم إلى صاحبه يكاد يحتضنه، ويلقي بنفسه بين يديه، لولا براءته من الذنوب، واعتزازه بأن الحق في جانبه، قد
1 يريد أنهما بعيدان عنه كبعد الشيب والهرم عن الثريا وهي النجم المعروف.
2 مقة: حب.
ملك عليه الأسف والطمع نفسه، فعجب أن يرنق ورده، صمم على البقاء حيث كان، واثقًا من ظهور الحق ومعاودة الصفاء، البحتري، إذًا رقيق الطبع جميل الذوق، لين الجانب، وفي حسن الظن بالأيام، بارع، شديد الاتصال بالحياة، قريب المثال، طبعي الفن، متفائل ليس في حذر أبي تمام ولا سخط المتنبي.
3-
وأبو الطيب شيء آخر فقد نفر من صاحبه ساخطا، متوعدا، متعاليا، يرميه بالغفلة والتحيز، معتزًا بنفسه فخورًا بخلقه وفنه، مزريًا بالرؤساء والشعراء، ولاهم ظهره غير مباليهم إذ لم يحسنوا تقديره، ولم يدركوا مكانته، وإذًا فهو يودعم نادمين، وسبب ذلك دالة له على سيف الدولة، وعرفانه مكانة نفسه، وهذه السعاية التي خضع لها أمير بني حمدان، فالمتنبي جافي الطبع، طموح، مغرور، بعيد الأمل، قليل الوسائل، ساخط على الحياة والأحياء، يؤمن بالقوة، ويعتز بها، يثق بشعره إلى أبعد حد، ولا يرى نفسه دون الملوك ولا من طراز الناس.
ولعل البحتري أرق الثلاثة وأرضاهم، والمتنبي أجفاهم وأسخطهم، وأبو تمام أوسطهم وأشدهم حذرًا واحتياطا. وقد سئل الشريف الرضي عنهم فقال:"أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقائد عسكر"1.
1 المثل السائر ص315 والجؤذر، ولد البقر الوحشية مثل به ظرف شخصيته.