الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: قوة الصورة
ويراد بالصورة القوية ما تتجاوز بالعقل معناها الحرفي إلى معنى أو معانٍ أخرى مجازية أو غيرها، وذلك يكون بالتمثيل، والكناية، والاستعارة من كل ما يفتح أمام القارئ آفاقًا من التفكير أو التخييل، من ذلك قول بشار:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
…
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فيمكن أن نفهم من هذا البيت معاني ثلاثًا بهذا الترتيب:
أولها: هذا المعنى الحرفي الساذج، وهو أن يحتمل الإنسان شرب الماء على قذاه أحيانًا لأنه لا يضمن صفاءه دائمًا.
ثانيها: احتمال الصديق على ما به من عيب، فلم يسلم إنسان من العيوب وهذا المعنى هو المناسب؛ لأن بشارًا كان يعاتب.
وثالثها: وهو الأخير، احتمال السقوط في الحياة وتحمل عنت الدهر، فالفوز المطلق غير محتوم.
على أن مثل هذه الصورة الخيالية، والعبارات البيانية، تبين لنا كيف يتصور الأديب الأشياء، ويتناولها بعقله وخياله، وتجعلنا نشعر بشعوره ونتحد معه، ولو لحظات.
ونذكر هنا بعض الوسائل التي تحقق للبليغ قوة التعبير:
1-
من ذلك، ما ذكر قبلا، من استعمال الكلمات المألوفة، المحدودة المعنى، العربية، فذلك يفيد في وضوح الأفكار والصور، كما يفيد في قوتها
واستقرارها في العقول، وليس ينفع هنا اللفظ المشترك، ولا الغامض، ولا الكلمات الأجنبية التي لم تشرب روح العربية؛ لانها إذا فقدت الإلف والوضوح فقدت القوة. ولقد حمل ذلك بعض كتابنا على استعمال الكلمات والأمثال العامية بحجة أنها تحمل ذوق الشعب، وشعوره، وتدل على كل ما يحيط بالفكرة من أطياف.
2-
استخدام الكلمات الوصفية التي تفيد في جمال الأسلوب وفي قوته معًا، ويراد بالكلمات الوصفية، تلك التي تصور مشاهد أو حوادث تلفت النظر، وتروع الفؤاد، وتثير الإعجاب، دالة على ما في الموصوف من بهجة ممتعة، أو صوت مجلجل، أو إبداع عجيب، كما رأيت ذلك في فن الوصف، وكقول بديع الزمان في المقامة الأسدية:
"فإذا السبع في فروة الموت، وقد طلع من غابة، منتفخًا في إهابه، غريبة تؤدى معنى المبالغة المقبولة والإيجاز الطريف، وتفتح للقارئ مجال التفكير والتخييل؛ ومن هذا الأخير قولهم: ليلة نابغية، ورأس كليب، وثالثة الأثافي والمستحيلات الثلاث.
ومن المجاز قول ابن خفاجة الأندلسي يصف نهرًا:
متعطف مثل السوار كأنه
…
والزهر يكنفه مجر سماء
وغادت تحف به الغصون كأنها
…
هدب يحف بمقلة زرقاء
والريح تعبث بالغصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لجين الماء
4-
التحاشي عن الكلمات الضعيفة، والحشو الفارغ، والعناصر الثانوية في العبارات، ثم الاكتفاء بأركان الكلام، حتى يترك لها المجال لتبعث آثارها دون عائق. وأكثر ما يبدو ذلك في الخطابة، والجدل، والمناظرة، وفي الشعر والنثر الأدبي كما سبق، ومن هذا الضرب الأمثال والحكم، ومثل: رب عجلة تهب ريثًا، حسبك من شر سماعه، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} .