الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: مقدمات
الفصل الأول: البلاغة بين العلوم الأدبية
1-
ليس من غرضنا في هذه الصفحات أن نعرض للقول في أصل اللغة العربية ونشأتها، وبيان الأطوار الأولية التي تعثرت فيها حتى استقامت، وصارت صالحة للتفاهم بين أفراد الأمة العربية، أو قبائلها المختلفة، تفاهمًا شفويا أو كتابيا.
كذلك ليس من شأننا هنا أن نبحث فيما طرأ على هذه اللغة الفصحى بعد الإسلام من العوامل التي شوهت فصاحتها، وآذت سلامتها في أكثر الألسنة حتى شاع فيها اللحن، وانحط الأسلوب، وأصبحنا بذلك نرى لغتين: أحدهما لغة فصيحة ممتازة يقصد إليها الخاصة حين يتناولون الشئون الهامة: خطابة أو حوارًا أو مرسالة أو تأليفًا. والثانية: لغة عامية، هي لغة السواد الأعظم من هذه الشعوب المستعربة، ولغة الخاصة حين يرجعون إلى الحياة الاجتماعية العادية بين الناس.
أقول: إن ذلك وغيره من أبحاث فقه اللغة وتاريخها، وحسبنا هنا أن نقف حيث نعيش، وعند نهاية هذه الأطوار لننظر في هاتين اللغتين، وماذا عسى أن يصل -أو يفصل- بينها وبين الأدب الرسمي، هذا الذي ندرسه في مراجعه المقررة،
ونحمل الطلاب على تأثره أو الانتفاع به، ونزودهم بالوسائل تعينهم على فهمه وتذوقه، وعلى الإنشاء الأدبي الصحيح.
2-
اللغة العامية هي لغة الحياة العامة، والتعاون الاجتماعي اللازم لسير الحياة السريعة ونظامها المطرد الشامل، وذلك لسهولتها وشيوعها، ولأنها القدر المشترك بين جميع الطبقات، فالكل يعرفها ويلجأ إليها في حرية ويسر، ولما كانت لغة الشعب ومن صنعه فقد أخضعها لحريته، وأزال عنها القيود العلمية والاصطلاحية وأعانها على أداء مهمتها كما تتطلب الحياة الجارية، فصارت لغة مرنة طيعة قابلة للتطور السريع، لا تنفر من لفظ دخيل، أو تركيب غريب، وإنما تقبله وتشربه روحها فيصقله الاستعمال ويصبح مألوفًا مقبولا، ومن الطبعي إذًا أن تختلف هذه اللغات العامية العربية باختلاف الأقطار والأقاليم وذلك لنفس الأسباب التي اختلفت من أجلها اللغات القديمة حين انفصلت من أصولها الأولى.
فأهل مصر لهم عاميتهم، وأهل العراق لهم عاميتهم، وكذلك المغاربة، كما أن لأهل الصعيد لغتهم العامية التي تخالف لغة سكان الشمال، الذين يختلفون هم أيضًا في عاميتهم، باختلاف الأقاليم، ومعنى هذا أن العامية توشك أن تكون هي اللغة القومية لكل قطر من أقطار الشرق العربي، تتأثر بجوه، وطبيعته، ومزاج أهله، وثقافتهم وأخلاقهم، وتعود بذلك سجل حياتهم الصادق وأقدر على تشرب روحهم وتصوير أفكارهم ونزعاتهم، حين عجزت الفصحى أو عجزوا هم عن أن يلبسوها من شخصيتهم ثوبًا قوميًّا طريفًا ممتازًا. لذلك نشأت هذه الدراسات الحديثة التي تعنى بالعامية فتقيد ألفاظها، ونحوها، ولهجاتها، وآدابها نظمًا ونثرًا، إما لأنها طور من أطوار التاريخ اللغوي والأدبي والاجتماعي، وإما لأنها قد تكون أساسا لهذه اللغات الإقليمية التي قد ينتفع بها فيما بعد كما يرى بعض المفكرين.
ومع ذلك لا تعد العامية لغة رسمية ولا يعد أدبها أدبًا رسميًّا يدرس على أنه مقرر يحتذيه المتعلمون لسببين اثنين:
أحدهما: شيوع الخطأ اللفظي والخروج على قوانين النحو والتصريف وعدم التحرج في قبول كل دخيل أو أعجمي من الألفاظ والتراكيب، حتى هجر فيها النحو العربي، وخضعت العبارات لصور أجنبية في تأليف الجمل، وتكوين الأساليب.
ثانيهما: ما غلب على معانيها من التفاهة والعرف، فأغلبها أوامر ونواه وأخبار عادية تتصل بالحياة الجارية، وتتكرر كل وقت، وكل يوم مما لا يستحق درسًا أو تقييدًا: والأدب يجمع بين أمرين:
1-
صحة اللفظ.
2-
وقيمة المعنى أو سموه، حتى يستحق أن يسمع أو يقرأ في كتاب.
وليس معنى هذا خلو العامية من الألفاظ الصحيحة أو المعاني القيمة، كلا، فاللغة العامية هي الفصحى طرأت عليها أخطاء، ودخلت عليها تراكيب، لم تستطع أن تمحو صوابها كله، كذلك نجد فيها فنونا أدبية من النثر والنظم -كالجدل والحكم والأمثال والأغاني والمواويل والأزجال- تجعلها معرضا لكثير من المعاني والموضوعات الأدبية القيمة، ولكنها من الأدب الشعبي على أية حال. ولسنا بذلك ننكر قيمة هذا الأدب في جماله وتصويره حياة الشعوب لذلك قامت له دراسات خاصة تقابل دراسات الأدب الفصيح.
3-
أما اللغة الفصحى، التي لم تشوه بهذه الأخطاء اللفظية، فهي لغة الأدب الرسمي، يعتمد عليها الكتاب حين يريدون التعبير عن الأفكار أو تصوير الشعور؛ أو تأليف المسائل والآراء العلمية إذا كانت الفن الكلامي الذي يؤدي ما في النفوس من ثرات العقول ونوازع الانفعال والميول، فإذا حاولنا الظفر بمثال
للأدب بحثنا عنه في المؤلفات المدونة باللغة الصحيحة، مهما يكن نوع هذا الأدب خاصا أو عاما؛ وليكن قول المتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
…
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم
…
فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
ومن عرف الأيام معرفتي بها
…
وبالناس روى رمحه غير راحم
فلا هو مرحوم إذا ظفروا به
…
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
فأول ما يلقانا من هذا المثال هو "عاطفة" أو انفعال السخط والعدوان الذي سيطر على نفس الشاعر فأنطقه بهذه الأبيات القوية الثائرة التي حشد فيها الظلم والدم وأنكر الإنصاف والتراحم. وهذه العاطفة نفسها قد سندتها فكرة هي لها كالبرهان المنطقي، فالجهل حتى إذا لم ينفع الحلم، والجهاد الأحمر واجب إذا لم يكن منه بد لتحقيق الرغبات، فالحق للقوة، والناس لا يؤمنون إلا بالرهبة، والويل للضعيف إذا هان.
وهنا وقد ظفرنا بعنصرين من عناصر الأدب: العاطفة Emotion والفكرة Thought وبعد هذا نلاحظ أن هذه العاطفة القوية احتاجت في تصويرها هنا إلى عناصر وفنون بيانية من التشبيه، والاستعارة، والكناية، وذلك لعجز اللغة العادية عن تصوير القوة الانفعالية في نفس الشاعر فاحتال وكون من هذه العناصر الحربية لغة فنية هي كفاء ما في نفسه من شعور، فهذه الصور تؤلف عنصرًا ثالثًا هو الخيال Imagination وهو لازم في كثير من الأحيان للتعبير عن العاطفة.
وأخيرًا نجد العبارة اللفظية التي قد تسمى الأسلوب Style وهي الوسيلة اللازمة لنقل أو إظهار ما نفس الأديب من تلك العناصر المعنوية فصار الأدب ينحل إلى هذه العناصر الرئيسية الأربعة؛ وهذا التحليل نفسه يتوافر في النثر كما توافر
لاحق، والأدب فن إنشائي إيجابي ينتج هذه القطع الممتازة التي نظفر بها بصدق الشعور وحسن التفكير والتعبير، ولكن النقد فن وصفي سلبي في أصله، يقوم بمحاسبة الأدب المنشئ، وكثيرًا ما يستحيل فنًّا نافعا يرشد الأدباء كما تقوم بذلك البلاغة.
وقد زها النقد الأدبي منذ العصر الجاهلي وتواردت عليه فيما بعد جهود النحاة واللغويين والأدباء1، وألفت فيه كتب شتى تجمع مسائل مختلطة بغيرها من مسائل النحو والبلاغة والسير والأنساب. وكان الذوق هو الحكم الأول في ناحيته الفنية وإن حاول بعض المحدثين أن يضعوا له قوانين عامة تشبه القوانين العلمية2.
5-
ولقد كان النقد الأدبي من أهم العوامل في إيجاد البلاغة وذلك أن هذه الملاحظات والأحكام النقدية أفادت جماعة العلماء فأحالوها قوانين وأصولا، ودونوها في فصول مختلطة بالنقد حينًا ومنفصلة أخيرًا، حتى كان أساسًا صالحًا لتكوين قواعد بلاغية قامت بوظيفتها فيما مضى وهي الآن آخذة في الاكتمال لعلها تنهض بالواجب عليها من الآن.
ومن يقرأ المؤلفين في هذا الباب من عهد الجاحظ المتوفى سنة 355هـ، وابن المعتز 936هـ، وقدامه 310هـ، والعسكري 350هـ، وعبد القاهر الجرجراني 317هـ، والثعالبي 429هـ، وابن رشيق 463هـ، إلى الزمخشري 538هـ، والسكاكي 626هـ. يتراءى له مما قلنا من أن النقد كان عاملا هاما في هذا التقنين البياني: وأن هذين العلمين -أو الفنين- قد عاشا مختلطين لم ينفصلا إلا بعد جهد عنيف: وهذا الاختلاط بين مسائلهما طبعي ما دام موضوعهما واحدًا هو النصوص الأدبية من حيث توافر الجمال والتأثير. فالبلاغة ترشدنا بقواعدها
1 تاريخ النقد الأدبي عند العرب للمرحوم الأستاذ طه إبراهيم.
2 أصول النقد الأدبي للمؤلف.
بقواعدها إلى الطرق والوسائل التي تجعل كلامنا نافعًا مؤثرًا والنقد يضع لنا المقاييس العامة التي نقدر بها ما في الكلام من فائدة أو قوة أو جمال. ومع ذلك فيمكن الفرق بينهما من وجهين:
الأول:
إن البلاغة أقرب إلى الناحية الفنية الإيجابية ما دامت قواعدها ترشدنا إلى الإنشاء الصحيح، وإلى الطرق المختلفة لتأليف الكلام الممتاز بالإفادة وقوة التأثير، وإلى نوع الفن الأدبي الذي يكون أوفق من سواه لمقتضى الحال.
وأما النقد فإنه يفرض أن الكلام قد تم إنشاؤه، وانتهى منه صاحبه، ثم يعرض علينا مقاييسه العامة التي نقيس بها الكلام لبيان قيمته الفنية والحكم له أو عليه فهو متأخر الوظيفة، يُعنى كما قلنا، بمحاسبة الأديب بعد أن ترشده البلاغة إلى حسن التعبير.
الثاني:
إن البلاغة تعنى أكثر ما تعنى بالأسلوب. فهي كذلك تفرض أن الكاتب لديه ما يود أن يقوله أو يكتبه من المعاني والأفكار أيا كانت قيمتها أو درجتها، من السمو أو الضعة، ثم ترسم له خطة الأداء قولًا أو كتابة: ولكن النقد يتناول الاثنين: المعاني والأساليب فيسأل عن صحة المعاني وقيمتها، ومقدار آثارها في القراء أو السامعين، ثم يتبين في الأسلوب -ولكن من ناحية عامة- مقدار ما فيه من الوضوح والقوة والجمال. وهنا نلاحظ أن دائرة النقد أوسع، وإن كانت قوانين البلاغة أدق من مقاييس النقد الأدبي كما يمر بك بعد حين1.
6-
هذا الأدب الذي أشرنا إليه كثيرًا ما يجاوز الباحثون نقده إلى معارف
1 راجع winehestsr principles of Ligerary Crtieism p16
ومحاولات عدة تزيد جوانبه إيضاحًا وتعلل كثيرًا من مظاهره الأخرى فتجدهم مثلا يقفون عند الأدب الجاهلي، ويدرسون فنونه المختلفة ويحللون نصوصه إلى عناصرها، ويلاحظون على هذه الفنون والعناصر ملاحظات تتصل بسذاجتها، أو قوتها، أو شدة اتصالها بالبادية أو الحياة الصحراوية الفقيرة المضطربة، ثم يستخلصون من ذلك البحث الشامل العميق أحكامًا عامة تدون في فصول منسقة هي تاريخ الأدب الجاهلي، ومثل ذلك يقال في العصر الأموي والعباسي والعصر الحديث، ترى لكل عصر خواصه الأدبية، والمؤثرات المختلفة -العلمية والفنية والاقتصادية، والسياسية، والدينية، والشخصية- التي أكسبت الأدب هذه الخواص فامتاز بها من سواه وصار عصرًا أدبيًّا مستقلًّا عن سائر العصور، ونتائج هذه الأبحاث هي تاريخ الأدب الذي يمكن تعريفه بأنه بيان المشخصات الأدبية لكل عصر مع شرح أسبابها، ومن هنا نعرف أن تاريخ الأدب ليس قصصًا وأنسابًا ونوادر، وإنما هو نقد وتحليل وتعليل، شأنه شأن التاريخ الطبيعي حين يتناول الكائنات بالتحليل والتفسير والموازنة والاستنباط ليصل عن ذلك إلى أحكام عامة تكون التاريخ، وكذلك الشأن في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كله نقد وتنسيق لا قصص وأساطير وعلى هذا الأساس قام الخلاف حول التاريخ أعلم هو أم أدب؟ فمن نظر إلى المسائل الواقعية التي يتناولها ويدرسها رأى فيه علما له حقائقه ونتائجه؛ ومن نظر إلى تدخل الشخصية ووجهة النظر في تصور الحوادث وتصورها قرر أنه أدب، والحق أنه أدب بالمعنى العام أو علم بالمعنى العام ففيه من كل شيء يقفه هذا الموقف الوسيط: ومما تقدم نستطيع استخلاص النتائج الآتية:
الأول: أن الأدب فن خالص، وهو من الفنون الجميلة التي تعتمد على الجمال في التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره، أو عن شخصيته الفنية، ولكن تاريخ الأدب يجمع بين الناحية الفنية التي يلجأ إليها المؤرخ حين يحلل الأدب ويتبين خواصه
خواصه الجميلة أو غيرها وبين الناحية العلمية التي تعنى بالتعليل والموازنات، واستنباط الأحكام، ولذلك سموا الأول أدبًا إنشائيًّا أو أدبًا بالمعنى الخاص، وسموا الثاني أدبًا وصفيًّا أو أدبًا بالمعنى العام.
الثانية: أن النقد الأدبي كما رأيت جزء من تاريخ الأدب، أو هو أداته الرئيسية فعليه يعتمد المؤرخ قبل كل شيء ما دام يتعمق في درس الأدب وتحليله، وبيان خواصه التي يتخذها دارس التاريخ الأدبي موضوعا لعمله الوصفي الشارح، ثم يلجأ إلى المؤثرات الشخصية أو الجغرافية، أو السياسية، أو الدينية التي أكسبت الأدب ميزانه الخاصة.
الثالثة: أن علم البلاغة نافع للأديب، والناقد، والمؤرخ، ولكل كاتب، أو متكلم، أو خطيب، أو مدرس، فإنه ينير أمام هؤلاء جميعًا، ويعينهم على أن تكون آثارهم اللغوية مفيدة، مؤثرة، ممتعة، تغذي العقل والشعور والأذواق وإن كان التشريع للأدباء غير مقبول دائمًا الآن.
7-
وهناك علوم أدبية أخرى لا بد للأديب من الإلمام بها إلمامًا كافيًا ليقي نفسه شر الأخطاء في التعبير: اللغة، والصرف، والنحو، والعروض ونريد باللغة شيئين: متنها، وفقهها، فمتن اللغة كلماتها، وأمثالها، وحكمها، وعباراتها الاصطلاحية ولتلك معاجمها ومراجعها، ولسنا ندعو إلى حفظ ذلك واستيعابه فهو عسير أو مستحيل على أن تحصيله من قراءة النصوص أنفع لبيان المواقع المناسبة لاستعمال الكلمات والحكم والأمثال ولتفهم معانيها الواضحة الدقيقة مما يحيط بها من العبارات والمناسبات، وفقه اللغة تاريخها وفلسفتها، ومن النافع للأديب أن يعرف كيف نشأت اللغة وانفصلت عن أصلها القديم، وتكونت ببيئتها الخاصة وكيف تأثرت وانتقلت عبارتها من الاستعمال الحقيقي إلى المجازي وما هي وسائل إكثارها وضعًا أو تعريفًا أو توليدًا أو نحتًا فذلك أليق به وأنفع
له وبخاصة إذا كان مؤرخا أو ناقدًا، والصرف يفيد في التصرف في الكلمات تبعًا للمعاني المتباينة كما بقي الأديب الخروج عن الأصول المرعية حين التصرف والتصريف بالجمع والتصغير والنسب والإبدال والتوكيد وبناء المشتقات، وأما النحو فمهمته تصحيح التراكيب والعبارات متخذًا المعاني الجزئية مقياسه لذلك يظهر أثره الواضح في حسن التأليف وسلاسة العبارة والحرص على دقة المعنى ووضوحه، فالنحو لا يقف عند حركات الإعراب بل يشمل موسيقى العبارات ومنطق المعاني، والأذن تتأذى من الأخطاء النحوية. كما يتأذى العقل من التعقيد اللفظي والمعنوي جميعًا والعروض للناظم هو مقياسه الموسيقى والخطأ العروضي كالخطأ النحوي فهذه التفعيلة التي تتكرر في السطر تحفظ وحدته الوزنية ثم تحفظ وحدة البيت حين تتكرر في سطره الثاني، وتكرار الوزن في كل بيت يحفظ للقصيدة وحدتها الموسيقية، كما أن وحدة القافية ضبط لهذه النعمة الأخيرة التي تنتهي بها الأبيات جميعًا، هذا هو الكثير الشائع فإذا تركناه إلى تعدد البحور والقوافي لم نعدم الموسيقى العروضية، وإنما نكون قد ظفرنا منها بتنوع لا يرفضه الذوق على الإطلاق.
8-
هذه هي العلوم الأدبية المباشرة أجملنا القول فيها لبيان مكانة البلاغة بينهما، ولهذه الصلات التي تربطها بالأدب ربطًا قويًّا مباشرًا لا يليق بالمتأدب تجاهله، على أن الأدب والأديب لا يكتفيان بما ذكرنا هنا، بل لا بد لكمالها من هذه الثقافة العامة التي قال عنها الأقدمون إنها الأخذ من كل فن بطرق1، وهذه الثقافة تتناول الفلسفة والتاريخ والدين والقانون والفنون الجميلة وغيرهما؛ إذ إن الأدب يختصرها في نصوصه، والأديب يحتاج إليها منشئًا أو ناقدًا أو مؤرخًا كما سبق بيانه وقد عقد ابن الأثير في صدر كتابه المثل السائر فصلًا في آلات علم البيان وأدواته يحسن الرجوع إليه لمن أراد.
1 راجع مقدمة ابن خلدون فصل: علم الأدب.