الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر
مدخل
…
الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر
-1-
وهنا نشير إلى مسألة أخرى هي اختلاف أساليب الشعر باختلاف الموضوعات التي يتناولها؛ إذ كان من الملاحظ أن أسلوب الحماسة أو الفخر قوي جليل، وأن أسلوب العتاب أو النسيب، رقيق جميل، وأسلوب الوصف الطبيعي رائع جذاب؛ فما سبب هذا الاختلاف، وما مظاهره اللفظية؟
من المقرر الثابت أن الشعر فن جميل ينشأ عن الناحية الوجدانية للنفس الإنسانية فيعبر بلغته الكلامية الموسيقية عن أنواع الانفعال والعواطف.
والانفعال قوة وجدانية تسيطر على النفس وتصحبها تغبيرات جثمانية ظاهرة وأخرى عقلية باطنة، واضطرابات عصبية من الممكن أن يلحظها الإنسان في نفسه، وفي غيره، في أحوال الغضب والرضا، والفرح والحزن، والتفاؤل والتشاؤم، والفزع والهدوء، على تفاوت في الكم والكيف، وفي طبيعة الانفعال لذة وألما، وبساطة وتركيبًا إلى غير ذلك. لاحظ الخائف وما يحل به من انقباض عام، وضيق نفسي، وجفاف في الحلق، وخفة في النفس، وارتعاد في العضلات، ثم ضيق دائرة الشعور وقصره على ما يتصل بموضوع الانفعال، وقد يبلغ به الأمر إلى نسيان عهوده ومواثيقه، واكتسابه شخصية أخرى.
فالانفعال يؤثر في الجسم والعقل والسلوك سواء أكان خوفًا أم حبًّا، أم بغضًا أم إعجابًا.. ولكن بدرجات مختلفة كما أسلفنا.
ولعلماء النفس كلام كثير في تفسير الانفعالات، وصلتها بالغرائز، وفي أقسامها المختلفة القائمة على أسس متباينة1 فهي مثلًا لذيذة أو مؤلمة، بسيطة أو مركبة، قوية أو ضعيفة.
ولعل أهم ما يعنينا هنا أن هذه الانفعالات -التي هي موضوع الشعر- تختلف في طبيعتها واتجاهها، قوة وضعفًا إيجابًا وسلبًا، إقدامًا وإحجامًا، ويتبع ذلك اختلاف مظاهرها في جسم الإنسان وفي نفسه؛ فالغضب أقوى من الحزن، وهذا أقوى من الأسف، والفرح أقوى من الإعجاب، كل ذلك غالبي؛ لهذا يصحب الغضب مثلًا نشاط عام في القول والعمل يتجه نحو العدو، كما أن الفرح تصحبه حركات طروبة بهيجة، وعبارات مؤثرة وغناء ورقص أحيانًا. والحزن واليأس كثيرًا ما يصحبهما فتور وبكاء.
وهذا ينتهي بنا إلى تقسيم الانفعالات الأدبية قسمين رئيسيين: قسم إيجابي أو إقدامي، وقسم سلبي أو إحجامي، فالأول قوة دافعة كالغضب والقلق، والثاني ضعيف متخلف كالحزن والأسف، والخوف في بعض الأحيان.
-2-
وحينما تعرض اللغة لتصوير هذه الانفعالات تصويرًا صادقًا يلائم طبيعتها كانت هذه اللغة موزونة حتما لتكون عبارتها صدى لقوى العواطف والانفعالات التي تؤديها، فهي ذات موسيقى قوية أو ضعيفة، خشنة أو رقيقة ناعمة، منسجمة أو مختلفة، كل تلك ظواهر طبيعية لما يحويه الأسلوب من معنى هو هنا قوة الوجدان أو موسيقاه.
1 راجع كتاب في علم النفس ج3 ص158 و214.
ولولا أن عبارات اللغة كلمات موضوعة لمعان فكرية محدودة، لكانت العبارات غناء وألحانًا كما كانت قديمًا، أو كانت موسيقى مجلجلة، أو جميلة مؤثرة، أو متنوعة. ومع ذلك -أو على الرغم من ذلك- نجد العبارات الأدبية تحتال دائمًا -مع تأثرها بالمعاني العقلية- لتكون صورة لموسيقى النفس إلى درجة محمودة.
فالكلمات رشيقة ذات جرس خاص، تحكي صوت الطبيعة التي تصفها، والألوان التي تصورها، والجمل موجزة مقسمة حرة في تكوين عناصرها تخضع لشيئين: الصحة النحوية، والموسيقى الأدبية، وعن ذلك نشأت البحور في الشعر، والقافية فيه وفي النثر.. وعن ذلك ينشأ الأسلوب المثالي الذي يختصر في هذه الكلمة القديمة: ائتلاف اللفظ والمعنى.
والنتيجة الطبعية لكل ما سبق من:
1-
اختلاف درجة الانفعال في القوة.
2-
وصدق التعبير عنها باللغة، أن الأسلوب نفسه يختلف باختلاف معناه الوجداني، فالعبارة التي تصور الغضب أو السخط أقوى من تلك التي تعبر عن الحزن أو الخوف أو الوله أو الخذلان.
ومعنى هذا أيضًا أن أسلوب الحماسة أو الوعيد أقوى من أسلوب النسيب أو الاعتذار أو الرثاء؛ ونجد وصف الطبيعة أو المدح أو الخمريات أو الحكمة متوسطًا، كما أن الوصف العام الذي يتناول كل شيء مختلف حسبما يتناول من قائع حربية، أو أصوات طبعية، أو حوادث هامة، فهو صادق على كل هذه الفنون.
هذا هو القانون العام الذي تخضع له الأساليب الأدبية عامة، وأساليب الشعر خاصة، ولنسرع فنذكر هنا مثالا يوضح ما ذكر. قال بشار بن برد مفتخرًا:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلةٍ
…
ذرا منبر صلى علينا وسلما
وإنا لقوم ما تزال جيادنا
…
تاسور ملكا أو تناهب مغنما
فأسمعك هذا الصخب العالي الذي يصور الاعتزاز بالقبيل، كما يصور العنف والتحفز، ويبعث الرهبة في النفوس، وذلك هو ما في نفس الشاعر من انفعال قد طبع العبارة بطابعه أو -على الأصح- خلقها وألفها على وفقه ومثاله، فكانت صداه الصادق، وثوبه اللائق، ولغته الطبيعية الجميلة، وبشار نفسه هو القائل ينسب بمن تدعى "عبدة":
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
…
ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها: جودي لنا
…
خرجت بالصمت عن لا ونعم
رفهي يا عبد عني واعلمي
…
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسما ناحلا
…
لو توكأت عليه لانهدم
فتحس هنا نفسا متألمة ذليلة تترضى أخرى أقوى منها وأشد، فلان الأسلوب لذلك ورق، وكأنك ترهب بشارًا وتفر منه أولًا، ثم ترق له وتعطف عليه ثانيًا وهو القائل:
هل تعلمين وراء الحب منزلة
…
تدنى إليك فإن الحب أقصاني
يقول ابن الأثير: "الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكل منها موضع يحسن استعماله فيه؛ فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف وأشباه ذلك، وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودات وملاينات الاستعطاف وأشباه ذلك"1 وربما كانت الدقة العلمية تقتضي أن يعكس الوضع فيقول: إن مواقف الحروب تنتج أسلوبًا ذا ألفاظ جزلة، والأشواق تنشئ أسلوبًا ذا ألفاظ
1 المثل السائر ص65.
عذبة رقيق. وللقاضي الجرجاني كلام في هذا المعنى تجده في مقدمة الوساطة1 ومع ذلك هناك أمور يحسن أن نسرع فنلاحظها هنا:
الأول: أن الفن الشعري الواحد يختلف أسلوبه باختلاف معانيه وأنواعه فالنسيب الوصفي يخالف الشاكي الحزين أو الثائر، وكلهما يختلف من القصص، ونحو ذلك يقال في المديح، والحماسة، والهجاء كما يأتي بيانه.
الثاني: أن لشخصية الشاعر تأثيرًا قويًّا في لون الأسلوب فتضيف إليه مزايا خاصة فوق هذه المزايا الموضوعية العامة؛ فرقة النسيب أو العتاب قد تتوارى خلف قوة الشخصية وجفائها كما قد تلحظ عند المتنبي، على أن تفصيل ذلك يلقاك في الباب التالي.
الثالث: أن هذا الاختلاف العام الذي نشعر به في الأساليب يبدو في الكلمات، والصور، والتراكيب، والعبارات مع طيف موسيقي عام، هو في الأصل من عبقرية الشاعر وموسيقى نفسه الشاعرة، وستجد مثلًا لذلك فيما يلي.
-3-
علينا بعد ذلك أن نبين هذه الصلة بين العواطف الإنسانية والفنون الغنائية للشعر، فأي عاطفة تنتج الحماسة، وأيها تنتج العتاب، وأيها تنتج الرثاء؟ وما القاعدة التي يقوم عليها تقسيم الشعر الغنائي إلى فنون مختلفة، وكيف تختلف أساليبه لذلك؟
نستطيع مثلًا، أن نقول: الحماسة ثمرة الغضب أو الطموح، والعتاب ظاهرة المودة والإبقاء، والرثاء نتيجة الحزن والوفاء، والنسيب ينشأ عن المحبة والغزل، والمديح ينشأ عن الإعجاب والاحترام، وهكذا نستطيع رد كل فن إلى عاطفة ما
1 ص29 مطبعة صبيح.
ولكن ذلك تقسيم عام غير دقيق؛ إذ ليست هناك حدود واضحة بين فنون الشعر ولا بين العواطف والانفعالات فكثيرًا ما تتداخل ويمتزج بعضها ببعض، فلا يخلو الغضب من الحزن، ولا يسلم النسيب من الشكوى ولا المديح من الوصف.
لذلك كان من العسير أن نظفر بقاعدة علمية دقيقة لتقسيم مظاهر الوجدان أو لتقسيم الشعر إلى فنونه المختلفة، وهذا هو سبب اضطراب النقاد القدماء والمحدثين في ذكر أبواب الشعر العربي وحصر أقسامه. تجد ذلك في مثل نقد الشعر لقدامه، وديوان الحماسة لأبي تمام، والعمدة لابن رشيق، ومختارات البارودي، وغيرها. ويمكن رد مذاهبهم في التقسيم إلى أصلين:
الأول:
أن يذكروا الانفعالات ثم ما تنتجه من فنون كقولهم: قواعد الشعر أربعة: الرغبة وتنتج المدح والشكر، والرهبة وتنتج الاعذار والاستعطاف والطرب وينتج الشوق ورقة النسيب، والغضب وينتج الهجاء والتوعد والعتاب.
الثاني:
أن يذكروا الفنون نفسها، ملاحظين ما تثيره من انفعالات في نفوس السامعين، فقالوا: الشعر نسيب، ومدح، وفخر، ووصف إلى غير ذلك. وأما حديثهم عن الأسلوب فكان مقتضبًا غير قائم على أصول نفسية عميقة ولا منظمة1.
وليس هناك تضاد بين الأصلين في حقيقة الأمر، فعاطفة الشاعر القوية تثير مثلها في نفوس القراء والسامعين بوساطة الأسلوب، لذلك ليس ما يمنع أن نساير القدماء في مذهبهم الأول، ونذكر هنا بعض الانفعالات وما يلابسها من فنون:
1 راجع العمدة لابن رشيق ج1 ص77.