الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الأسلوب والشخصية
1-
كيف يختلف الأسلوب في الموضوع الأدبي الواحد؟ ذلك راجع إلى اختلاف الأشخاص الذين يتناولون الموضوع، أو اختلاف الشخصيات. ما الشخصية؟ وما عناصرها؟ وكيف تختلف باختلاف الأفراد؟ وما مظاهر هذا الاختلاف في الأدب؟ ذلك ما نحاول بيانه في هذا الفصل وما يليه.
الشخصية1 ما يميز الفرد من سواه، أو هي مجموعة الصفات الجسمية والعقلية والخلقية التي يتصف بها الإنسان، أو هي المميزات التي تفرق الشخص من الآخر خيرة كانت أو شريرة، فالتعاريف قائمة على هذه الخواص التي نجدها في فرد ولا نجدها في غيره كما هي الأول، وتكون خلقية: كالصدق، والشجاعة، والكرم أو ضد ذلك. وعقلية: كالذكاء، وصحة الاستنباط، وعمق التفكير أو عكسها. وجسمية: كاعتدال القامة، وقوة البنية، وحسن الهيئة، وما سواها وتكون اجتماعية: كالإيثار، والتحاب، والطاعة. ومزاجية: كالدموي والسوداوي، والبلغمي، والصفراوي إلى غير ذلك مما يدخل في تكون الإنسان ويميزه من سواه. وكثيرًا ما تتجلى قوة الشخصية في الذكاء والجاذبية، والحكمة والصراحة، والثقة بالنفس، والشجاعة، وقوة البيان، من تلك العناصر التي تدعو إلى المحبة والاحترام وتسمو بصاحبها إلى ذروة المجد في هذه الحياة.
1 راجع علم النفس: ج3 ص370.
والناس يختلفون في الشخصية بين قوي وضعيف، نابه وخامل، ثابت ومتقلب، جبار صارم ورقيق وديع. ومبتكر نشيط ومقلد بليد. وقد حفظت الأخبار التاريخية بعض الصفات التي غلبت على سواها وكانت رمزًا لشخصيات أصحابها كعدل عمر. وكرم حاتم. ودهاء معاوية، وجبروت الحجاج. وشجاعة عنترة. وتكون الشخصية للرجال والنساء. والمتعلمين والجهال. والأخيار والأشرار. وللأفراد والشعوب، كالنظام الألماني، والثقة بالنفس الإنجليزية والفكاهة المصرية. والجندية التركية وهكذا.
2-
والأدب معرض لظهور الشخصية واضحة؛ فمن المقرر أن العاطفة هي التي تميز من العلم. وهي التي تبعث فيه الخلود. وتشربه شخصة الأديب1 ففي ديوان الشاعر -مثلًا- تجد مزاج الأديب. وطبعه وخلقه، ومذاهبه في الحياة. ومستوى ثقافته. وظل روحه. ونظرته إلى الحياة. وتفسيره للأشياء تفسيرًا أدبيًّا أو فلسفيًّا. كذلك تعرف نوع كلماته وجمله. طريقة تصويره وتعبيره.
ولست تجد اثنين يتفقان في كل هذه الخواص أو جلها. كما وكيفا. إذ كل إنسان أمة واحدة فيما يصله بالحياة متأثرًا ومؤثرًا ذلك لأنه شخصية واحده فطرها الله ممتازة. وكونتها ملابسات بعينها. فاستقامت ذات طبيعة محدودة وخطة خاصة. وكانت هي هذا الفرد الممتاز، ونتيجة ذلك أن الأديب حين يعبر عن شخصيته تعبيرًا صادقًا يصف تجاربها ونزعاتها ومزاجها وطريقة اتصالها بالحياة ينتهي به الأمر إلى أسلوب أدبي ممتاز في طريقة التفكير والتصوير والتعبير؛ هو أسلوبه المشتق من نفسه هو: من عقله. وعواطفه. وخياله. ولغته؛
1 أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي ص19 طبعة سابعة.
تلك العناصر التي لا تتوافر لغيره من الأدباء، ومن ذلك تكثر الأساليب بعدد الكتاب والمنشئين.
فالجاحظ1 -مثلًا- كاتب متعمق مستقص يلح وراء المعاني، والأوصاف والخواطر لا يترك منها شيئًا. يطوع اللغة لعقله وشعوره وخياله فيوردها ألفاظًا دقيقة، ويرددها جملًا مزدوجة مقسمة، ويسهب فيها بعبارات موسيقية فياضة حتى يشتفى. يجد فيبلغ من التحقيق والإحاطة جهد العقول. ويهزل عابثًا، وداهية ماكرًا. يبكي ويسخر ما شاءت له براعته ومرونته الخلقية والدينية حتى كأن الجاحظ هو الدنيا جميعًا.
وابن خلدون -في مقدمته- كاتب عالم وشيخ وقور. معني بالأسباب والنتائج، ذو عقل رياضي يعرض النظريات ويأخذ في إثباتها بعبارات متشابهة لا تخلو من الأكلاف اللفظية. والركاكة الموسيقية. فليس في روعة الجاحظ ولا صفائه واستفاضته، ولا فكاهته وعبثه الماكر.
وطه حسين2 متأثر بالجاحظ في أسلوبه، لا يهجم عليك برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاك صديقًا لطيفًا، ثم يأخذ بيدك أو بعقلك وشعورك ويدور معك مستقصيًا المقدمات محللًا ناقدًا، يشركك معه في البحث حتى يسلمك الرأي ناضجًا ويلزمك به في حيطة واحتياط، ثم يتركك ويقف غير بعيد متحديًا لك أو ضاحكًا منك، وذلك في عبارات رقيقة عذبة، أو قوية جزلة، فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه؛ فإذا قص أو وصف أخذ عليك أقطار الحوادث والأشياء. ودخل إلى
1 اقرأ الحيوان والبخلاء والوسائل.
2 اقرأ في الأدب الجاهلي، وعلى هامش السيرة. والأيام، وحديث الأربعاء ومن بعيد.
أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققًا، مستقصيًا يخشى أن يفوته شيء، ولا يخشى الملال في شيء دقيق الشعور صافي النفس، نبيل الجدل جاد يسير مع خصمه حتى إذا آنس منه الغضب أو التدلي تركه وانصرف.
أما أحمد أمين1 فرجل يريح قراءه ولا يندمج فيهم، يعرض أدلته، ويستأثر باستغلالها وينتهي إلى نتائجه، ويقدمها إليهم مستوية ناضجة بأسلوب واضح كل الوضوح، دقيق كل الدقة، ثم يعتكف دونهم ويغلق في وجوههم الباب، ويلقى الحياة بعقله أكثر من قلبه، ويقف منها على أرض من الحديد، يؤمن بالحقائق، ويؤديها بلفظها كما تعرفه الحياة الاجتماعية الواقعية ولو تورط في العامية لأنه مفتون بالاستعمال الإقليمي، وبتأثير الجو في العبارات والتراكيب.
هذا، والمشيب في رأي المعري أزهار الرياض وزينتها:
والشيب أزهار الشباب فما له
…
يُخفى وحسن الروض في الأزهار
ولكنه في رأي الشريف الرضي سيف مصلت على الرءوس تحمله بدون عناء:
غالطوني عن المشيب وقالوا:
…
لا ترع، إنه جلاء حسام
قلت: ما أمن من على الرأس منه
…
صارم الحد في يد الأيام
ذلك لأن المعري فيلسوف حكيم يعرف الدنيا ويقبل قوانينها الطبيعية مهما يضمر في نفسه من سخط واستيئاس، ولكن الشريف محب للحياة، حريص على الشباب متصل بالنعيم فلما أنذره المشيب فزع وارتاع وتوقع النازلة.
1 اقرأ فجر الإسلام وضحى الإسلام وفيض الخاطر.
ومهما يكن من تأثير الوراثة أو التربية في تكوين الشخصية1، فإنا نستطيع هنا أن نذكر بعض عناصر الشخصية وما قد يكون لها من أثر في الأسلوب:
1-
الطبع: فالرقيق الطبع ترق ألفاظه، وتسهل فقره، وتلين عباراته، والخشن الجافي تجزل ألفاظه، وتوجز جمله، وتقوى تعابيره. إذ كانت الطبائع تجذب إليها من التراكيب والألفاظ ما يلائمها رقة وجفاء كما نجده عند المتنبي والبحتري وعند جرير والفرزدق، والعقاد والمازني.
قال القاضي الجرجاني في ذلك:
"وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة. وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك وترى الجافي الجلف منهم كز الألفاظ. معقد الكلام، وعر الخطاب. حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته. وفي جرسه ولهجته"2.
2-
أثر البيئة: فابن البادية المقيم في الفلاة حيث يرى الجدب الغالب والطبيعة القاحلة الجرداء. والجبال الشم. والصخور الجامدة، والوعول الممتنعة. لن يكون كابن الحاضرة المترفة الخصبة يلقى العيش رقيقًا والملبس ناعمًا. والمزارع ناضرة. والإخوان ظرفاء؛ إذ إن ذلك يطبع الذوق والشعور بطابعه. فلا يقع
1 راجع "علم النفس" ج3 ص372.
2 الوساطة، ص32.
اللسان إلا على كفائه من العبارات، فما كان عَدِيُّ بن زيد والمنخّل اليشكري كطرفة بن العبد والحارث اليشكري.
ويقول الجرجاني في أعقاب كلامه السابق:
"ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك، ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم: $"من بدا جفا". ولذلك تجد شعر عدي وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤية. وهما آهلان، لملازمة عدي الحاضرة، وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو، وجفاء الأعراب، فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى ونشأ التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه، وأسلهه، وجاوزوا الحد في طلب التسهيل حتى تسمَّحوا ببعض اللحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق فانتقلت العادة وتغّير الرسم وانتسخت هذه السنة، واحتذوا بشعرهم هذا المثال وترققوا ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطف ما سنح من الألفاظ فصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول تبين فيها اللين، فيظن ضعفًا فإذا أفرد عاد ذلك اللين صفاء ورونقا، وصار ما تخيلته ضعفا رشاقة ولطفا
…
".
ومن شواهد آثار البيئة في الأفراد واستحالتهم ما روي أن شاعرًا بدويًّا قدم حاضرة عامرة فأكرمه صاحبها فمدحه بهذين البيتين:
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
…
من كثير العطايا قليل الذنوب
أنت كالكلب في حفاظك للود
…
وكالتيس في قراع الخطوب
فهم بعض أعوان الأمير بقتله، فقال الأمير: خل عنه، فذلك ما وصل إليه علمه ومشهوده، ولقد توسمت فيه الذكاء فليقم بيننا زمنا، وقد لا نعدم منه شاعرًا مجيدًا، فما أقام بضع سنين في سعة عيش وبسطة حال حتى قال الشاعر الرقيق، ونسبت إليه هذه الأبيات:
يا من حوى ورد الرياض بخده
…
وحكى قضيب الخيزران بقده
دع عنك ذا السيف الذي جردته
…
عيناك أمضى من مضارب حده
كل السيوف قواطع إن جردت
…
وحسام لحظك قاطع في غمده
إن رمت تقتلني فأنت مخير
…
من ذا يعارض سيدًا في عبده1
ومهما يشك في صحة هذه القصة التي تعددت رواياتها فليس من شك أن هناك جماعة من الأدباء والشعراء تغيرت آثارهم كلما تغيرت عليهم آثار البيئة.
3-
الثقافة والتربية، فالمهذب المثقف يكون أعمق تفكيرًا، وأحسن ترتيبًا للمعاني، وأحرص على جمال التصوير، وصفاء التعبير، وبذلك تعزز معانيه وتهذب عبارته، ويتوافر له الملائمة بين الألفاظ والمعاني.
والجاهل الذي لم تصقله التربية أو لم يزود بثقافة كافية. يقف عند حدود الطبع ويتوجه في الغالب إلى جمال اللفظ وإشراق الديباجة لعلها تعوض عليه ما فاته من ابتكار المعاني والغوص وراء الأفكار.
ولذلك وجد في الأدب العربي طبقات من كتاب العصر العباسي بلغوا بالترسل مكانة مهذبة. وتأثر شعرهم بذلك التهذيب والصقل كما يقول ابن رشيق:
"والكتاب أرق الناس في الشعر طبعًا، وأملحهم تصنيعًا وأحلاهم ألفاظًا وألطفهم معاني. وأقدرهم على تصرف وأبعدهم من تكلف"2.
وليس من شك أن ثقافة الجاحظ مما يميزه من البديع والخوارزمي، وكذلك وجد شعراء المعاني الذين أغنوا بها الشعر كأبي تمام والمتنبي والرومي كما وجد الممتازون بجزالة اللفظ ورقته كالبحتري والشريف الرضي، حتى إن أبا تمام إذا
1 مقدمة ترجمة الألياذة، ص138.
2 العمدة، ج2 ص84.
فرغ لطبعه، وترك التكلف أتى بالعجب ودل على شخصية تجيد التفكير، وتحسن التصوير والتعبير لما ظفر به من ثقافة إسلامية جديدة أخصبت عقله، وكثرت معانيه.
ولا شك أنك تجد فرقًا واضحًا جدًّا بين أدباء مصر الذين عاشوا أول هذا العصر الحديث وبين من يعيشون بيننا الآن، أولئك ضعفت ثقافتهم فكانت آثارهم لفظية وهؤلاء ظفروا بثقافة قوية متنوعة فجمعوا إلى سلامة العبارة جدة الموضوعات وثروة المعاني فصار الأدب قيمًا نافعًا.
4-
الابتكار: فمن الأدباء من يلتفت إلى نفسه، ويثق بها ويحاول أن يفتح بها أو فيها آنفاقًا من التفكير أو الشعر أو التخييل ليعرضها كما هي في أقوى أحوالها وأوضح خواصها دون تحرج أو تكلف، ثم يطوع أساليب اللغة لطريقة تفكيره وتصويره فإذا به شيء جديد وشخصية ممتازة وقد يلقى إنكارًا وعنتًا، ولكن ما دام مذهبه قويًّا خليقًا بالبقاء فإن الثورة عليه لا تكون إلا فترة تجتازها النفوس لقبول الجديد وإقراره ثم يصبح سبيلًا معبدة مسلوكة، وقانونًا متبعًا محبوبًا وقد لقي أسلوب الجاحظ إنكارًا ولكنه عاد مدرسة المتأدبين وواجه أبو نواس ثورة ثم عاد قديمًا، ووجد أبو تمام والمتنبي من أخرجهما من زمرة الشعراء. وكم يلقى المجددون من حرب المحافظين ولكن الأصلح منتصر غلاب. هولاء المبتكرون هم أصحاب الشخصيات البارزة الذين أنشئوا مدارس أدبية غيرت مجرى تاريخ النظم والنثر وبقيت خالدة على الأيام.
ومما سبق يمكن ذكر الملاحظات الآتية:
أولًا: أن أسلوب الكاتب أو الشاعر أو الخطيب نتيجة طبيعية لمواهبه وصورة لشخصيته هو، وإذًا لا يمكن أن يكون صادقًا، قويًّا، ممتازًا إلا إذا استمده من
نفسه وصاغه بلغته، وعبارته، دون تقليد سواه من الأدباء؛ لأن كل أسلوب صورة خاصة بصاحبه تبين طريقة تفكيره، وكيفية نظره إلى الأشياء وتفسيره لها وطبيعة انفعالاته، فالذاتية هي أساس تكون الأسلوب، والمقلد يفنى في غيره ويصبح شخصية منكرة ثقيلة على النفس لا تستحق عناية، ينصرف عنها الناس إلى أصلها الأول وبه يكتفون.
نعم هناك كتاب كبار يستطيعون طبع عصورهم الأدبية بطابعهم والتأثير في نفوس الناشئين بقوة أدبهم وبراعة أسلوبهم، كالجاحظ والبديع قديمًا. وطه حسين، والعقاد، والرافعي، وسعد زغلول، حديثًا. ولكن ذلك لا يعفي المتأدبين من الاعتماد على أنفسهم وإظهار سماتهم الأسلوبية مع الإفادة من هؤلاء أو من بعضهم.
ثانيًا: قد يبدو لبعض الناس التردد في أن الأسلوب صورة صادقة لصاحبه حين يرون حسان بن ثابت شجاعا في شعره، جبانا في عمله، والبحتري جميل الذوق، في أسلوبه. قذرًا، رث الثياب، والمتنبي كريمًا في قوله بخيلا في حياته.
وهذا من غير شك تناقض واضح يعرض ما قيل هنا للرد والتجريح. ولكن الشيء الجدير بالنظر أن هذه النصوص الأدبية التي تعد مظهرًا قويًّا لميزات الأديب وسماته قد صدرت عنه في حالة نفسية خاصة هي حال الانفعال والتنبه العاطفي، وسلطان الوجدان على العقل فيقول ما يشاء بوحي الساعة، حتى إذا ثاب إلى عقله عاش بطبيعته العاقلة الأصلية دون الشاعرة الطارئة، وربما أنكرت حياته الثانية حياته الأولى مما يعد شبيهًا بانقسام الشخصية1. فالأسلوب الأدبي معرض الشخصية الانفعالية التي تسيطر على الإنسان سواء أكان منشئًا يصدر عن عواطفه
1 في علم النفس ج3 ص164.
المستيقظة أم قارئًا ثارت عواطفه إثر ما قرأ من أدب قوي صادق فصدرت عنه لذلك حركات أو أعمال، أو أقوال طريفة غير مألوفة، وقد تنبه لذلك ابن الأثير1 حيث يقول ما نصه:
وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبعي في بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل، ويشجع الجبان، ويحكم بها الطائش المتسرع، ويجد المخاطب عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال" فإذا كان ذلك شأن السامع فكيف بالمنشئ الذي صدر عنه هذا الكلام الساحر وكان ثمرة انفعاله الأصيل وعاطفته الإيجابية؟
ثالثًا: أن بيان هذه الصلة بين الأديب وأسلوبه وتوضيح جوانبها يقتضينا أن نتناولها من وجهين:
الأول: أن نعرض النصوص الأدبية لجماعة من الكتاب أو الخطباء أو الشعراء أو المؤلفين. ونحاول تعرف شخصياتهم المتباينة استنباطا من هذه النصوص.
والثاني: أن نفرض أننا نعرف هذه الشخصيات ثم نتبين مظاهرها المختلفة في الأسلوب: ألفاظه وتراكيبه وصورها البيانية وهذا ما نحاوله في الفصلين التاليين.
وليس من شك أن هذين الوجهين شيء واحد أمام الناقد الذي لا يعرف غير النصوص الأدبية التي يدرسها؛ فالنصوص أمامنا كالدينار هو واحد ولكنه ذو وجهين؛ نرى في كل منهما شكلًا خاصًّا يخالف الآخر وإن كانت المادة واحدة
1 المثل السائر ص26.
كذلك نحن أمام الآثار الأدبية، نقلبها على وجهين لنرى فيها من وجه شخصية الكاتب، ونتبين أثر هذه الشخصية فيها من وجه آخر.
وسبب هذا اللجوء والاحتيال أننا في الأصل لا نعرف هذه الشخصيات إلا من الآثار الأدبية فنضطر إلى الوقوف عندها لمعرفة كل شيء على أنه لو أتيح لنا تعرف شخصيات الأدباء الفنية، عن طريق أخرى كالعشرة الصادقة، ثم كانوا طبيعيين في تعبيرهم، تبين لنا صدق هذه الصلة التي ندعيها بين الأدباء وبين ما ينتجون من أساليب؛ يعرف ذلك النقاد الذين عاشروا الأدباء ثم قرءوا آثارهم الأدبية، فيقولون لك: هذا هو فلان كما أعرفه في سلوكه ومزاجه، ومع هذا فلن تنسى أن الأديب حال الكتابة مثلًا، يكون خاضعًا لبعض ضروب الأنفعال أو التفكير فتجده في آثاره أقوى وأروع، وإن لم ينفصل مطلقًا عن طبعه الأصيل.