الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
ثم المصطلحات العلمية، والفنية، والاجتماعية، والتاريخية التي وضعت لمعان خاص محدودة، لتكون بين الكتاب والقراء، علامات واضحة وروابط عقلية مشتركة، وقد ذكرنا ذلك في الكلام على أسلوب التاريخ.
والذي يخشى هو أن ينهمك البليغ في تحري الدقة فيعود الأسلوب بذلك جافًّا أشبه بالصكوك التجارية أو القانونية، خاليًا من الروح الفنية تقرؤه محكمًا دقيقًا ولكنك تشعر بعقمه وملاله. وهذا ما لحظه ابن قتيبه1 على قول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
فقال: "هو جيد المعنى والسبك وإن كان قليل الماء والرونق"، وعندي أن ذلك راجع إلى أن البيت قد استأثر به العقل دون العاطفة فذهبت روعته، وضاع جماله الأسلوبي.
1 الشعر والشعراء ص4 طبعة الخانجي.
ثانيا: الجلاء أو وضوح التراكيب
…
ثالثًا: الجلاء أو وضوح التراكيب
بعد أن يتوافر للكاتب دقة الفكرة ووضوحها، تكون خطوته الثانية مطابقة الأسلوب لإدراك القارئ، وهي تبدو في صور شتى من الرقة والجزالة أو السهولة والصعوبة حسب المعاني التي تؤديها العبارات. على أنه لو كانت الأفكار عويصة وجب على البليغ أن يحقق من السهولة أبعد درجاتها، ويكسب تراكيبه صفة الشفافية، لتكون كالزجاج الأبيض الصافي، يحفظ الرسم، وينم عنه كما هو أو كأنه لا زجاج يحميه.
والقانون الأساسي لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة.
1-
لا بد للبليغ من ذوق نحوي شديد، يحسن التألف بين الكلمات لتدل على معنى دقيق معين، وتسلم من هذين العدوين اللذين يفسدان الكلام؛ اللبس حينما يدل التركيب على معنيين ممكنين أو أكثر كقول المتنبي:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا
…
لمن بات في نعمائه يتقلب
فقد يكون معناه -بناء على عود ضمير نعمائه على من الثانية- أن أشد الظالمين ظلما من تقلب في نعمة إنسان ثم بات يحسده عليها، وقد يكون المعنى -بناء على عودة ضمير نعمائه على من الأولى- أن أشد الناس ظلما من أولى إنسانا نعمة ثم حسده على تمتعه بها، فهو الواهب وهو الحاسد، والمعروف أن الشاعر لم يرد إلا معنى واحدًا ولكنه يحترس من الثاني. ثم الغموض حينما لا يدل التركيب على معنى معين دلالة قاطعة كبيت جرير السابق عند النقاد السابقين.
ومن خير العبارات التي لوحظ فيها هذا التكوين النحوي السديد ما كتبه أخ إلى أخيه: "ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير هفوة، فأطعمني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك في حالك فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على خلاف" وهذا المثال ينفعنا فيما يلي.
2-
الوثوق من أن العناصر التركيبية التي يرتبط بعضها ببعض في المعنى -كأصل وتابع أو معنى وضده- قد ركبت بنظام دقيق، وتأليف منسق بحيث لا يتعب القارئ في تبين هذه الصلات بين الأجزاء، فينصرف عن المعنى ويجهد عقله في غير نفع، فإذا رجعت إلى المثال السابق وقرأت الجملة الأولى وحدها رأيت الكاتب بعد ما ذكر الفعل والفاعل والمفعول، يقيد ذلك بقوله:بلطف، ثم بقوله: من غير خبرة؛ لأن القيدين لا زمان لإتمام المعنى الأول، ثم يقابل ذلك في الجملة الثانية بتأليف هو كالأول تمامًا، ويسير بهذا النظام والتقسيم حتى ينتهي إلى غايته، فنجا من التعقيد.
3-
بعد ذلك تأتي مراعاة الجمل معًا وما يكون بينها من فصل أو وصل، وما يربطها من حروف العلة، أو الحال، أو الاستثناء، بحيث لا يترك فواصل دون داع، ولا يغفل حرف وصل حيث يجب ذكره، ولا توجد فكرة دون التمهيد لها.
وهنا يتراءى الوضوح التام للأسلوب جملة، وإذ تجده سلسلة لفظية لسلسلة معنوية وتكون الأولى موسيقى عقلية هادئة عميقة كمثال النثر السابق، وكقول الشريف الرضي:
ولقد وقفت على ربوعها
…
وطلولها بيد البلى نهب
بكيت حتى ضج من لغب
…
نضوى، ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمد خفيت
…
عني الطلول تلفت القلب
فانظر إلى واو الحال أول الشطر الثاني، والفاء صدر البيت الثاني، وحتى التي تفيد الغاية، ثم قوله: فمذ وجملة تلفت القلب. وتلك الروابط عنصر هام في اللغة إذ فقدتها عادت الأفكار والتراكيب مفككة بغير نظام.
4-
ومما يتصل بذلك الإطناب، والمساواة والإيجاز، ولسنا نريد هنا فرض أحد هذه الأوصاف على العبارة؛ لأن كل صفة منها تكون أوفى بالغرض في مقام دون سواها.
فالشعر تكفي فيه الكلمة الموجزة، واللمحة الخاطفة أحيانًا؛ لأن طبيعته الإيجاز والرمز، والأسلوب العلمي تلائمه المساواة، وكل من الإيجاز والتطويل ضار فيه؛ إذ كان مقدمات ونتائج دقيقة محدودة، ويكون الإطناب أحيانًا في الخطب والمقالات السياسية، والاجتماعي، ولعل أسلوب الصحافة الآن أميل إلى ذلك.