الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب
الناحية الأولى
…
الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب
وأما في هذا الفصل فالمراد بيان آثار هذه الشخصية في الأسلوب. ومعنى ذلك أننا نفرض معرفتنا شخصيات جماعة من الأدباء كتابا وشعراء وخطباء، ثم نلتمس مظاهر هذه الميزات الفردية فيما ينشئون من نصوص أدبية، ونقصر الكلام في هذا على نواح ثلاثة:
الأولى: من حيث الألفاظ حين يختلف الأدباء في الألفاظ والجمل، والفقر والعبارات.
الثانية: من حيث المعاني، كالمطابقة بين اللفظ والمعنى، أو ترجيح جانب اللفظ على جانب المعنى، وعكس ذلك.
الثالثة: من حيث الصنعة حيث يعمد الأدباء إلى الأسلوب الطبعي أو المصنوع صنعة بديعية، قوامها السجع، والجناس، والمطابقة، ونحو ذلك.
وسنحرص هنا على الإيجاز مكتفين بالإشارة إلى بعض الأمثلة ومحيلين على ما سبق ذكره في الفصول السابقة.
الناحية الأولى:
وتتناول الاختلاف في الألفاظ، والجمل، والفِقَر، والعبارات. والمراد بالألفاظ الكلمات المفردة التي تتألف منها الجمل، وهي أسماء، وأفعال،
مع ذلك ذات خواص متباينة، كأن تكون دقيقة محدودة أو مبهمة مشتركة، اصطلاحية علمية. أو فينة عامة، رقيقة أو خشنة، عامية، أو فصحى، موسيقية رشيقة، أو عادية جافة، لونية أو صوتية إلى نحو ذلك.
وتتألف الجملة من الألفاظ لتؤدي فكرة واحدة تامة، وتكون الجملة اسمية أو فعلية، خبرية أو إنشائية، طويلة أو قصيرة، جزلة أو رقيقة، تامة العناصر أو مختصرة، مثبتة أو منفية، أصلية أو فرعية؛ وغير ذلك.
والفقرة عدة جمل تكون فصلا من المقالة، وهي تقوم على الصلات بين الجمل، وتنوعها، وربطها معًا، ففيها الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، وفيها الرابطة اللفظية والمعنوية التي تصلها بما قبلها وما بعدها. وتكون بسيطة سهلة أو معقدة مضطربة؛ وهي تختلف بحسب موقعها من الموضوع مقدمة أو نتيجة أو غرضًا.
وأما العبارة فهي العنصر اللفظي من الأسلوب، أو هي هذا الأسلوب اللفظي الذي يقابل الأسلوب العقلي والصوري، والعبارات تقوم على هذه العناصر المذكورة قبلًا ثم تتأثر بمنهج البحث وبالموضوع وبمزاج الكاتب، وذوقه وطبيعته كلها، والأدباء يختلفون في ذلك كله تبعًا لطبائعهم وأذواقهم وثقافتهم وبيئاتهم فترى الموضوع الواحد من الفن الأدبي، يتوارد عليه أصحابه فإذا كل طراز بعينه في اختيار الكلمات، وصوغ التراكيب والعبارات التي تمثل نفسه وخلقه ودرجة انفعاله. يقول ابن الأثير1: "أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دمائة ولين أخلاق. ولطافة
1 المثل السائر ص69.
مزاج، ولهذا نرى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي".
وهذا القانون طبعي في الخطابة والكتابة إذ كانت شخصية الأديب تتخذ من هذه العناصر اللفظية وسيلة للتعبير عن طبيعتها وعرض مزاياها.
1-
فإذا رجعت1 إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة "أبي تمام، والبحتري، والمتنبي" وهم يعتبون. تبين لك: رقة البحتري، وجزالة أبي تمام، وقوة المتنبي في الألفاظ المفردة، ثم سهولة البحتري وتدقيق أبي تمام وصرامة المتنبي في الجمل، والبحتري بعد ذلك سلس العبارة عذب الموسيقى له، ديباجة الحرير واطراد الماء الجاري. وأبو تمام محكم العبارة. مركب الموسيقى بطيء متئد يتقن الصنعة، ويؤلف التراكيب بحكم العقل، وأما المتنبي فعبارته كخطته في الحياة، سريعة موجزة عجلى، لا تبالي بما قد تتعثر فيه من أخطاء وتعقيد، فاضطراب العبارات عند أبي تمام نتيجة صنعته المقصودة، وهو عند المتنبي ثمرة سرعته الشديدة وهجومه العنيف أو -كما يرى بعض النقاد- مفارقات محبوبة، ومع ذلك فاقرأ هذه الأمثلة للبحتري:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا
…
مقصرًا من صبابةٍ أو مطيلا
قف مشوقًا أو مسعدًا اوحزينًا
…
أو معينًا أو عاذرًا أو عذولا
إن بين الكثيب فالجزع فالا
…
رام ربعًا لآل هند محيلا
لم يكن يومنا طويلا بنعما
…
ن ولكن كان البكاء طويلا
تجد العبارات متدفقة متواصلة، تمر كالنسيم العليل أو الألحان العذبة،
1 راجع الفصل الثالث من هذا الباب.
لا توقف فيها، ولا تكلف؛ لأن البحتري يستلهم طبعه السمح ونفسه الراضية وعاطفته الرقيقة الصادقة، وذوقه الفني الجميل1.
ولأبي تمام:
لو حار مرتاد المنية لم يجد
…
إلا الفراق على النفوس دليلا
قالوا: الرحيل، فما شككت بأنها
…
نفسي من الدنيا تريد رحيلا
الصبر أجمل غير أن تلددًا
…
في الحب أحرى أن يكون جميلا
أتظنني أجد السبيل إلى العزا؟
…
وجد الحمام إذًا إلي سبيلا
رد الجموح الصعب أسهل مطلبا
…
من رد دمع قد أصاب مسيلا
ذكرتكم الأنواء ذكرى بعضكم
…
فبكت عليكم بكرة وأصيلا
إني تأملت النوى فوجدتها
…
سيفًا على أهل الهوى مسلولا
ترى آثار عقله وصنعته وحذره وأناته وذكائه2، في التنسيق المنطقي وإحكام التركيب شرطًا، وجزاء، واستثناء، وترتيبًا، واستنباطًا، فعبارته كالموسيقى المقسمة المتئدة، أو الماء الجاري بين الصخور، يتمهل ليظفر بالمنافذ والمسارب.
وللمتنبي:
وللسر مني موضع لا يناله
…
نديم ولا يفضي إليه شراب
وللخود مني ساعة ثم بيننا
…
فلاة إلى غير اللقاء تجاب3
وما العشق إلا غرة وطماعة
…
يعرض قلب نفسه فيصاب
1 راجع في الفصل السابق ما كتب عن شخصية البحتري.
2 راجع ما كتب عن شخصية أبي تمام في الفصل السابق.
3 الخود: الفتاة الناعمة، والفلاة: الصحراء الواسعة. تجاب: تقطع.
وغير فؤادي للغواني رمية
…
وغير بناني للزجاج ركاب1
وتركنا لأطراف القنا كل شهوة
…
فليس لنا إلا بهن لعاب2
فهذه الشخصية العجلة العنيفة، الطامحة المتعالية3 قد جعلت الكلمات قوية متحركة، والتراكيب موجزة منوعة والعبارة منساقة بسرعة كالريح العصاف أو الموسيقى الصاخبة، أو السيل يجرف ما يصادفه لا يبالي كيف تكون النتيجة.
فالشعر عند البحتري فن التصوير والتعبير، وعند أبي تمام فن التفكير والتصوير والتعبير، وعند المتنبي فن الحكمة والمراسيم التي تلقى قضايا حاسمة لا مرد لها.
وتجد نحو ذلك بين جرير والفرزدق، وبين حافظ وشوقي، والعقاد والمازني ومطران والجارم؛ لكل ميزاته الشخصية فيما يقول.
2-
وهؤلاء الكتاب الذين أشرنا إلى صفاتهم الشخصية في الفصل الماضي -الجاحظ، والبديع، وابن خلدون- وأوردنا شواهد من آثارهم يفترقون في التعبير كذلك.
فالجاحظ يتحرى دقة الألفاظ ليحسن الوصف، ويردد الجمل أو بعض عناصرها ليكمل معانيه ويؤكدها، ويلجأ إلى الازدواج والتقسيم الموسيقي دون التزام السجع، ويستخدم الاعتراض داعيًا أو محترسًا ويطنب ملحا وراء الأفكار والصور، ويكثر من المقابلة والتقسيم.
1 الرمي: ما يُرمى بالسهام، والبنان: أطرف الأصابع. والزجاج: كئوس الخمر.
2 القنا: عيدان الرماح، المفرد قناة، واللعاب: الملاعبة.
3 اقرأ عن شخصية المتنبي في الفصل السابق.
ولكن البديع يتخير جزل الألفاظ والتراكيب، ويكثر من الصور البيانية التي هي تكرار صوري للفكرة الواحدة، يكثر من البديع طباقًا وجناسًا، يقتبس لغة الشعر ليوشي بها نثره، سجعه قصير، وعباراته جزلة إيجازية إذا قيست بعبارة الجاحظ السمحة المبسوطة، فالرجلان يمثلان مدرستين مختلفين في التفكير والتصوير والتعبير.
وابن خلدون دقيق الكلمات بسيط العبارات تشيع فيها المصطلحات العلمية والفنية، رتيب الأسلوب لا ينوعه، لا يسلم من الركاكة والجفاء، لا يتراءى فيه الجمال والبراعة، معني بالمعنى أكثر من اللفظ، نزعته تقريرية، فهو من طراز آخر، وإذا كان لا بد من اختصار ذلك كله فالجاحظ في أسلوبه جميل، والبديع قوي، وابن خلدون واضح.
وإذا ذهبت تتبين شواهد ذلك بين المعاصرين من الكتاب وجدت أشكالًا شتى من العبارات التي تمثل الشخصيات، فالمازني سهل جميل، والعقاد جزل عفيف، وهيكل واضح هادئ، والبشري دقيق اجتماعي، وهكذا لكل سمة عليه غالبة.
3-
أما الخطباء فليسوا أقل من زملائهم في هذه الناحية، فهذا معاوية بن أبي سفيان الداهية، الحليم، والسياسي البارع1 تقرأ خطبته فتلقى ألفاظًا سهلة وجملًا كأنها رسالة مكتوبة، وعبارات منطقية مطردة كأنها عتاب، أو خطة للحكم يعرضها رئيس الحكومة على النواب، لا إغراب، ولا عنف جعلها المنطق الإقناعي، والتحبب العاطفي الحذر أشبه بعقد مصالحة أو قصيدة عتاب،
1 راجع خطبته وما كتب عنه في الفصل السابق.
وزياد بن أبي سفيان الحكام الحازم، والقوي الصارم1 يعتمد على نوعين من التأثير: المعنوي واللفظي؛ فالكلمات جزلة قوية، والسجع والمبالغة وقوة التصوير شائعة في خطبته البتراء "أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار.... أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات؟ "، جملة قصيرة عنيفة متنوعة "لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه
…
فمن أغرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب بيتًا تقينا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا" وعبارته، على العموم حسنة التقسيم، والتنويع، قوية التأثير، سريعة الحركة، وهي -كشعر المتنبي- أوامر صارمة أو مراسيم ملكية.
وأما الحجاج بن يوسف الثقفي فقد أربى على زياد، وتجاوز العنف إلى التهديد والوعيد وإلى الرغبة في الدماء؛ وتمنى المصارع والمهالك، كان الحجاج جاهليًّا، جبارًا، لا يراعي حرمة دينية ولا يؤمن إلا بالقوة والتخويف، يقوم الحكم عنده على السيف، ويفترق عن زياد بطغيانه الشديد على الرعية، مع ضعفه أمام الخليفة عبد الملك، ولكن زيادًا مع عنفه في الحكم استطاع أن يعرف لنفسه كرامتها مع معاوية، وعلى أية حال فإن خطبة الحجاج حين ولي العراق2 تعد معرضًا لصفاته المذكورة. فالألفاظ ضخمة كالصخور. والجمل مقتضبة صاخبة. والتصوير يمثل الهلاك والبلاء. والعبارة أقوى من إعلان الحرب. والتأثير يعتمد فوق ذلك على اقتباس الأشعار وآيات الإنذار الإرهابية:
1 اقرأ ما كتب عنه في الفصل الماضي.
2 اقرأها في المنتخب، ج2، ص171.
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
يا أهل الكوفة إني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى.
ثم قال بعد أبيات:
قد شمرت عن ساقها فشدوا
…
وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر عرد
…
مثل ذراع البكر أو أشد
لابد مما ليس منه بد
ثم يقول: "والله لأحرمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
كان سعد زغلول خطيبًا كامل الأداة، قوي التأثير، وبارع الأسلوب يجمع بين قوة الإقناع، وبلاغ الأداء، ومصطفى النحاس تغلب عليه في خطابته النزعة التقريرية الوصفية مع صحة المنطق ووضوح العبارة، ومكرم عبيد، يعتمد في التأثير على التصوير البياني، والخيال الشعري، فإن حاول الإقناع عاد مقررًا، أو كاتبًا أديبًا.