المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الناحية الثانية: وهناك مظهر ثان لآثار الشخصية في الأسلوب، وهو مقدار - الأسلوب

[أحمد الشايب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفهرس:

- ‌الباب الأول: مقدمات

- ‌الفصل الأول: البلاغة بين العلوم الأدبية

- ‌الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة

- ‌الفصل الثالث: في علوم البلاغة

- ‌الفصل الرابع: البلاغة بين العلم والفن

- ‌الفصل الخامس: موضوع علم البلاغة

- ‌الباب الثاني: في التعريف بالأسلوب

- ‌الفصل الأول: في حد الأسلوب

- ‌الفصل الثاني: تكوين الأسلوب

- ‌الفصل الثالث: عناصر الأسلوب

- ‌الباب الثالث: الأسلوب والموضوع

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي

- ‌الفصل الثاني: في أسلوب الشعر

- ‌الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الحماسة

- ‌ثانيًا: النسيب

- ‌ثالثا: الرثاء

- ‌رابعًا: المدح والهجاء

- ‌خامسًا: الوصف

- ‌الفصل الرابع: في اختلاف أساليب النثر

- ‌النثر العلمي

- ‌المقالة:

- ‌التاريخ:

- ‌السيرة:

- ‌المناظرة والجدل:

- ‌التأليف:

- ‌النثر الأدبي:

- ‌الوصف:

- ‌الرواية:

- ‌المقامة:

- ‌الرسالة:

- ‌الخطابة:

- ‌الباب الرابع: الأسلوب والأديب

- ‌الفصل الأول: تمهيد

- ‌الفصل الثاني: الأسلوب والشخصية

- ‌الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية

- ‌أولا: في الشعر

- ‌ثانيًا: الخطابة

- ‌ثالثًا: الكتابة

- ‌رابعًا: التأليف

- ‌الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب

- ‌الناحية الأولى

- ‌الناحية الثانية:

- ‌الناحية الثالثة:

- ‌الباب الخامس: صفات الأسلوب

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: وضوح الأسلوب

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الدقة أو وضوح الفكرة

- ‌ثانيا: الجلاء أو وضوح التراكيب

- ‌الفصل الثاني: قوة الأسلوب

- ‌مدخل

- ‌أولًا: قوة الصورة

- ‌ثانيًا: قوة التركيب

- ‌الفصل الثالث: جمال الأسلوب

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الناحية السلبية

- ‌ثانيًا: الناحية الإيجابية

- ‌الفصل الرابع: تداخل الصفات وتعادلها

- ‌مراجع للمؤلف:

الفصل: ‌ ‌الناحية الثانية: وهناك مظهر ثان لآثار الشخصية في الأسلوب، وهو مقدار

‌الناحية الثانية:

وهناك مظهر ثان لآثار الشخصية في الأسلوب، وهو مقدار الصلة بين اللفظ والمعنى، فمن الأدباء من يطابق بين اللفظ والمعنى، ومنهم من يعنى بأحدهما أكثر من الآخر.

1-

والأصل الذي يتصل به هذا المظهر هو أن الغرض من التعبير والبيان إظهار ما في النفس من الحقائق والعواطف والأخيلة، وإيصالها إلى القراء والسامعين، ووسيلة ذلك هي الأسلوب -أو العبارات اللفظية- إذ كانت غايته الإفهام أو التأثير أو هما معًا. ومعنى هذا أن الواجب على الأسلوب تحقيق هذه الغاية تحقيقًا كاملًا، فلا بد أن يكون صادق الأداء، مساويًا للمعنى المراد، لا يزيد ولا ينقص. وقبل ذلك يكون الأديب المنشئ فاهمًا ما يريد أداءه، صادق الشعور به1. وعنده الوسائل اللغوية والتصويرية اللازمة، فإذا ما توافر له ذلك استطاع البليغ أن يحقق المطابقة بين اللفظ والمعنى، وأن يجعل كلا منهما كفئًا للآخر.

وأما القاعدة النفسية أو العلمية لهذه الظاهرة فهي أن ما يتوافر في نفس الأديب من فكرة واضحة أو انفعال صادق يجذب إليه من الألفاظ، والعبارات، والصور ما يلائمه بطريقة تكاد تكون آلية لا تكلف فيها ولا صنعة، وهذا هو المثال الطبيعي للأسلوب، بل هناك هذا الرأي القائل بأنه لا توجد فكرة في الذهن دون لفظ يحددها. ولا توجد عاطفة بغير صورة تمثلها.

وفي هذا المعنى يقول ابن رشيق2:

"اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه، ويقوى بقوته. فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للشعر. وهجنة عليه كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور. وما أشبه ذلك غير أن تذهب الروح. وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظا كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح. ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب قياسًا على ما قدمت

1 العمدة، ج1،ص28.

2 نفس المرجع ص82.

ص: 165

من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتًا لا فائدة فيه. وإن كان حسن الطلاوة في السمع. كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحًا في جسم ألبته".

وهذا الذي ذكره ابن رشيق كما يجري في الشعر ينطبق على النثر تمامًا: "وبعضهم وأظنه ابن وكيع مثل المعنى بالصورة واللفظ بالكسوة. فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس. فقد بخست حقها وتضاءلت في عين مبصرها"1.

ويقول ابن الأثير2:

"اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها. وأكرم عليها. وأشرف قدرًا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بالألفاظ لأنها لما كانت عنوان معانيها. وطريقًا إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد. فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها. ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط. بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبراز الصور الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة. فإنا قد نجد من المعاني الفاهرة ما يشوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه".

والمطابقة بين اللفظ والمعنى تتحقق بالتعبير الطبيعي الذي يترك فيه الأديب نفسه على سجيتها السمحة دون أن يعمد إلى صنعة شاذة أو تكليف ممقوت.

فيكون من ذلك المساواة وصدق الأداء وتنوع العبارة حسب الموضوع والشخصية كما سبق ذلك فلا حاجة إلى إعادته أو تمثيله.

1 نفس المرجع، ص82.

2 المثل السائر، ص137.

ص: 166

ونشير هنا إلى أن مظاهر هذه المطابقة، كما تتراءى في الألفاظ والعبارات، تظهر أيضًا في الوزن الشعري أو البحر العروضي الذي يختاره الشاعر، وفي القافية التي يؤثرها على غيرها1، وفي الصورة الخيالية التي يؤثر بها عواطفه، ليكون الأسلوب من روح المعنى وعلى مثاله من غير حاجة إلى ركوب الضرورات الشعرية2.

ومع ذلك فإن حاولت الظفر بأمثلة لذلك رأيتها عند أمثال عبد الحميد الكاتب، وزياد بن أبيه، والبحتري ممن يعدون طبيعين في التعبير، ولم يتشبثوا بصنعه، ولم يحبسوا نفوسهم عند تعمق في المعاني، ولا تكلف في الألفاظ.

فهذا البحتري يذكر قتال الأقارب معًا، وما يلابسه من عواطفه متباينة؛ إذ يصطدم الحب والبغض، والشفقة والقسوة، وتمتزج الدماء بالدموع، بأسلوب لا يصلح غيره لتصوير هذه الحالة التي كانت بين تغلب مع دقة الصنعة:

أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت

مصايفها منها، وأقوت ربوعها3

بكرهي أن باتت خلاء ديارها

ووحشًا مغانيها، وشتى جميعها4

وأمست تساقي الموت من بعدما غدت

شروبًا تساقي الراح رفهًا شروعها5

إذ افترقوا عن وقعة جمعتهم

لأخرى دماء ما يطل نجيعها6

1 راجع الصناعتين ص133، 141.

2 راجع نقد الشعر لقدامه ص56.

3 أسيت: حزنت، وربيعة: أصل تغلب، أقوت: خلت.

4 المغاني: المنازل، شتى: متفرقة.

5 الشروب: القوم يشربون، رفه: لين، شروع: مورد الماء.

6 يطل: بهدر، النجيع: الدم.

ص: 167

تذم الفتاة الرود شيعة بعلها

إذا بات دون الأثر وهو ضجيعها1

حمية شغب جاهلي وعزة

كليبة أعيا الرجال خضوعها2

تقتل من وتر أعز نفوسها

عليها بأيد ما تكاد تطيعها3

إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

شواجر أرماح تقطع بينها

شواجر أرحام ملوم قطوعها4

فمن أية ناحية نظرت إلى هذا النص وجدته مطابقًا لمعناه أحسن مطابقة: جزالة تلائم مواقف الحروب، وتقسيم، ومقابلات، لتصوير الصلات المتناقضة وصور تملك ما ملك النفوس من تعاطف مكبوت وغل ثقيل بغيض وعبارة موسيقية تردد بعناصرها اللفظية ما يتردد في النفوس من تيارات عاطفة متنافرة.

لذلك تجد أسلوب الشاعر هنا بطيئًا بعض الشيء يشبه اعتذار أبي تمام السابق وذلك لاضطراري البحتري إلى شيء من الصنعة والجزالة يحقق به حسن التصوير ودقة التعبير.

فذلك هو الأسلوب المثالي المطبوع، وهذا النص من أروع الشعر العربي جميعه.

2-

ومع ذلك، ظهر منذ العصر الجاهلي جماعة من الشعراء5 عدلوا عن

1 الرود: الشابة الجميلة، دون الثأر: لم يظفر به.

2 الشغب: نهج الشر، كليبية نسبة إلى كليب الزعيم التغلبي المعروف.

3 الوتر: الثأر.

4 شواجر وأرماح، رماح متشابكة أثناء المعركة وشواجر الأرحام صلات القربى التي تجمع المتحاربين.

5 راجع في الأدب الجاهلي لطه حسين ص284 طبعة ثالثة. والصناعين ص135، 138.

ص: 168

هذه الطبيعة الفياضة. وعمدوا إلى أسلوب الشعر يهذبونه ويصقلون لفظه بحذف غريبه أو متنافره، والحرص على انسجام موسيقاه وتحري مساواته. والتناسب بين فقره وجمله. ليكون جزلًا حسن السبك مع خلوه من التكلف الممقوت والبديع المقصود. حتى صار الأسلوب الشعري صنعة أو فنا يقصد إليه ويعنى بأحكامه وخلوه من الفضول اللفظي والغلو المعنوي.

وكان زهير بن أبي سلمى أنجب تلاميذ هذه المدرسة، وكان الحطيئة أنجب تلاميذ زهير وتبعهم بعد ذلك أبو تمام -في بعض شعره- ومسلم بن الوليد. وعبد الله بن المعتز ممن أخذوا عن السابقين إحكام الأسلوب فيما بعد. واتخذوه حرفة يدوية وعبث أطفال.

يقول ابن رشيق1:

"ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولا وعليه المدار، والمصنوع وإن وقع عليه الاسم فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمد. ولكن بطباع القوم عفوًا فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف؛ يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفًا من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة. وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك. والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل فتترك لفظة للفظة أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته وبسط المعنى وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام عقد القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض".

1 العمدة جزء أول ص83 و172.

ص: 169

ومع ذلك قول زهير يمدح هرم بن سنان:

وأبيض فياض يداه غمامة

على معتفيه ما تغب فواضله1

أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله2

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

فالشعر بريء من التنافر والإغراب. مع حذف الفضول. والقصد في المعنى وحسن التناسق بين الجمل وبين المعاني، حتى بدا محكمًا متقنا ملحوم الجوانب قد عمل فيه العقل والذوق بجانب العاطفة وقد مضى مثال الحطيئة من باب المديح.

ويقول ابن رشيق3:

"فأما حبيب -أبو تمام- فيذهب إلى حرونة اللفظ وما يملأ الأسماع منه مع التصنع المحكم طوعًا أو كرهًا يأتي للأشياء عن بعد ويطلبها بكلفة. ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة. وأحسن مذهبًا في الكلام. يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ. لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة وما أعلم شاعرًا أكمل ولا أعجب تصنعًا من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر وهو عندي ألطف أصحابه شعرًا وأكثر بديعًا وافتنانًا وأقرنهم قوافي وأوزانًا. ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب".

ثم يقول4:

"وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب -المتنبي- إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر والبحث

1 أبيض نقي من العيوب، فياض كثير العطايا. معتفيه سائله. تغب: تنقطع.

2 النائل العطاء. راجع الصناعتين 98.

3 العمدة جزء أول، ص84، 85.

4 نفس المرجع ص87.

ص: 170

عن البينة. كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفًا عن دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهرًا وعنوة أو كالشجاع الجرئ يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي ولا حيث وقع".

ونحو ذلك حصل في النثر أيضًا، فلقد كان في صدر الإسلام جزلًا طبيعيًّا يرتجل في كثير من الأحيان ويكون فيضا لما في النفوس من المعاني، سواء في ذلك الأحاديث، والخطب، والرسائل، حتى جاء عبد الحميد الكاتب1 فكانت آثاره طبيعة سهلة لا صنعة فيها ولا تكلف، وكان بجانبه عبد الله بن المقفع2 يقوم في النثر بما كان يقوم به في الشعر زهير والحطيئة، وأبو تمام في خير شعره. وكان كتاب العصر العباسي الأول -كأحمد بن يوسف، وعمرو بن مسعدة وإبراهيم الصولي-3 يحكمون الرسائل، وينشئونها جزلة، دقيقة المعاني، عالية الأسلوب، كما كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل يستشفع له بالزيادة في منزلته، وجعل كتابه تعريضًا لنفسه:

"أما بعد فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطولك علي في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعة، والسلام".

فكتب إليه المأمون:

"قد عرفنا تصريحك، وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما، ووقفناك عليهما".

وجاء الجاحظ في القرن الثالث فكان أستاذًا لمدرسة خاصة أو كان هو هذه

1 و2 راجع آثارهما في رسائل البلغاء التي نشرتها مجلة المقتبس.

3 راجع تاريخ أدب اللغة في العباسي لأحمد الإسكندري.

ص: 171

المدرسة الكتابية التي أشرنا إليها فيما مضى. وأما كتاب الصنعة البديعية فقد كانوا في القرن الرابع1 الهجري، وهم الذين فتحوا بابًا كان فيما بعد شرًّا على الأساليب الأدبية لما دخل فيه المتكلفون العاجزون، وقد عرفت طرفًا من أساليبهم عند بديع الزمان.

وعندي أن هذه الطبقات من الشعراء والكتاب تمثل طورًا طبيعيًّا من أطوار الحضارة الأدبية التي تُعنى بالأدب كما تعنى بسواه ليكون أقوم أسلوبًا، وأجمع بين قيمة المعاني وقيمة الأساليب، على أنهم كانو، وبخاصة بعد الإسلام متأثرين بألوان من الفنون، والعلوم الإسلامية والدخيلة وبفراغ وتنافس أكسبت الأدب هذا الوضع الفني الجديد، فلا لوم عليهم ولا عتاب ولا مانع أن ينضافوا إلى السابقين كما يرى ابن الأثير2.

3-

وبعد ذلك تواجهنا هذه القضية الكبيرة أو المعركة العنيفة، بين أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، فإن هذه الثقافة الواسعة التي توافرت للأدباء، منذ العصر العباسي، مع ذكاء العقل قد حملتهم على العناية بالمعاني فغذوا الأدب بأفكار فلسفية وآراء دينية، وملاحظات دقيقة عميقة، وكان أبو تمام من أسبق الشعراء وأظهرهم في ذلك، ثم ابن الرومي، والمتنبي، وأبو العلاء في ذخيرته الفلسفية -اللزوميات- وكان من ذلك، ولا سيما عند شعراء الصنعة، أن ضعفت روعة اللفظ وسلاسته، وبدت عليه الجفوة العلمية أو الكلفة البديعية، وبجانب هؤلاء بقي آخرون محتفظين بالطبع السمح والديباجة السهلة الجميلة كالبحتري، وأبي العتاهية والعباس بن الأحنف، وظهرت لهم مقطوعات بالغت في السهولة حتى عادت باردة سخيفة.

1 راجع النثر الفني في القرن الرابع لزكي مبارك.

2 المثل السائر ص137.

ص: 172

فكان من ذلك، ولأسباب أخرى، أن نشطت حركة النقد، وانتصر جماعة لكل فريق، واختلف الباحثون حول هذه المسألة: أين تقع البلاغة؟ أفي اللفظ أم في المعنى أم فيهما معًا؟ وأي هذين الفريقين من الشعراء أظفر بعمود الشعر، وأجدر بالاحترام؟ وخلاصة ما يحتج به أنصار اللفظ1 أن المعاني معروفة للناس سهلة الإدراك، يكفي أن تكون صحيحة، ولكن البراعة البيانية إنما هي في الألفاظ وصوغ العبارات، وأما أنصار المعاني فيقولون2: إن المعنى هو المقصود بالأداء، وهو مجال الابتكار، وحسن التصور، واللفظ تابعه في ذلك فجماله من جماله، ويدور جهد عبد القاهر الجرجاني على أن البلاغة في الأسلوب تنتهي إلى نظم الكلام وفق حاجة المعنى، وبذلك تتحقق المطابقة بينهما، ويكتسب اللفظ حسنه بصدق أدائه.

ولكنك عرفت أن هذه المسألة قد فصل فيها الآن، وأن البلاغة تقوم على حسن التعبير كما ترتكز على قيمة التفكير3.

4-

وعلى الرغم من ذلك فقد وجد من الأدباء من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ومتجه عنايته، ويقصد إليه؛ فأما أن يجعله -في الشعر- فخمًا مجلجلًا؛ لا يتناسب مع معناه كابن هانئ الأندلسي حيث يقول:

أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم

وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم4

1 راجع مقدمة ابن خلدون؛ ص856، والصناعتين ص55.

2 راجع دلائل الإعجاز ص40، 70، 307، 320. طبعة المنار.

3 صحيفة دار العلوم ج2 من السنة الثانية ص30 للمؤلف، وفيض الخاطر لأحمد أمين، ص301.

4 أصاخت: أصغت. أجرد شيظم: الفرس الفتي، شامت: نظرت، أبيض مخذم: سيف قاطع.

ص: 173

وما ذعرت إلا لجرس حليها

ولا رمقت إلا برى في مخدم1

يصف امرأة تترقبه، فتوهمت وقع حوافر فرس، ولمع سيف، وإذا بها تسمع حليها، وترى لمعها، ومن يستمع لهذا الصخب اللفظي يظن أنه حماسة أو حرب قائمة2.

وإما أن يجعله سهلًا مفرطًا، كما وقع لأبي العتاهية:

يا إخوتي، إن الهوى قاتلي

فسيروا الأكفان من عاجل

ولا تلوموا في اتباع الهوى

فإنني في شغل شاغل

عيني على عتبة منهلة

بدمعها المنسكب السائل

يا من رأى قبلي قتيلًا بكى

من شدة الوجد على القاتل

فهذا الشعر كما ترى، سهل، لين، ليس بينه وبين النثر العامي فرق كبير، وللبهاء زهير نحو هذا الأسلوب الذي تسمعه، فكأنك تسمع الشعب المصري في حواره وأحاديثه، جدًّا وهزلًا، في عبثه وأفاكهه، وفي كل ما يلابس حياته3 الوداعة المطمئنة في هذا الوادي الخصيب.

وكذلك الشأن في النثر فقد غلبت العناية اللفظية على فن المقامات، وصارت بذلك وسيلة لتعليم اللغة، وتراكيبها، وبعض عباراتها وأساليبها الجزلة، وقد أسبقنا القول في ذلك فلا نعيده هنا.

وكذلك وجد من الأدباء من يؤثر المعنى على اللفظ، فيعنى بعمقه وتركزه.

1 البري: جمع برة،: كل حلقة من سوار القرط أو الخلخال، المخدم: موضع الخلخال.

2 العمدة ج1: 80.

3 البهاء زهير للمؤلف.

ص: 174

وجدته، وتوليد بعضه من بعض، لا يعنى بأن يلبسه كفاءة من اللفظ الكاشف الواضح، أو السلس العذب، أو القوي المتين، فيقع في التعقيد، أو الخشونة، أو الهجنة، أو التكلف الممقوت فيفسدون اللفظ ويبهمون المعنى.

وقد تورط في ذلك -من الشعراء- أبو تمام والمتنبي في بعض شعرهما، وكذلك ابن الرومي، ومن الكتاب، خلدون العالم والمؤرخ المشهور.

ونورد هنا بعض الأمثلة، من ذلك قول أبي تمام:

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنما حسناته آثام

ففي هذا البيت إضمار جعل معناه غامضًا على الرغم من محاولة الدلالة عليه بالشطر الثاني، وتقديره: أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وذلك من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} . وقوله:

وظلمت نفسك طالبًا إنصافها

فعجبت مِن مظلومةٍ لم تُظلم

معنى ذلك أنك أكرهت نفسك على مشاق الأمور لنيل المجد، فهي إذًا مظلومة من حيث الوسيلة التي كابدتها، ولكنها منصفة من حيث الذكر الجميل والمجد المؤثل، فكانت مظلومة لم تُظلم، وذلك من قول السموءل:

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

وقول المتنبي يمدح علي بن حمد الطائي بسداد الرأي، والتفرد في ذلك:

فتى ألف جزء رأيه في زمانه

أقل جزيء بعضه الرأي أجمع

نظام البيت كما يلي: هو فتى رأيه في زمانه ألف جزيء، وأقل جزيء منه، بعضه هو كل ما عند الناس من الرأي.

ص: 175

وقال علي بن عيسى الرماني: "أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك. وكل ذلك اجتمع في بيت الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي، أبوه يقاربه

فالتغيير عن الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه يريد بالملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال بن عبد الملك.

وأما سلوك الطريق الأبعد فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه أن يقول خاله. وأما إيقاع المشترك فقوله: حي يقاربه؛ لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان بالحياة.

قال: وإذا تفقدت أبيات المعاني رأيتها لا تخرج عن هذه الأسباب الثلاثة"1.

وكتب النقد والبلاغة ملأى بهذه النماذج، وأما ابن خلدون فقد مضى فصل من كلامه.

5-

ومما يتصل باللفظ والمعنى مسألة الإيجاز والإطناب والمساواة، وقد وردت هذه الألفاظ في كتب البلاغة أوصافًا للعبارة، وعناصرها، من حيث ما تؤدي من معانٍ، فإذا قصر اللفظ عن المعنى كان إيجازًا، وإن طال لفائدة كان إطنابًا، وإن تساويا كان مساواة أو تقديرًا، ولرجال البلاغة كلام كثير في هذه الأقسام، وفيما يدخل تحتها من فروع لا حاجة بنا إلى تكرارها هنا.

ويمكن الرجوع إليها في المثل السابق لابن الأثير2 وسواه، وقد تناولتها كتب البلاغة -غالبًا- في سياق الجمل والفقر، فمن ذلك في المساواة قوله تعالى:

1 العمدة ج2 ص256.

2 ص91 وما بعدها.

ص: 176

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .

وقول جرير:

تمنى رجال من تميم منيتي

وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي

فلو شاء قومي كان حلمي فيهم

وكان على جهال أعدائهم جهلي

وفي الإيجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} وقول أمرئ القيس:

فلو أنها نفس تموت سوية

ولكنها نفس تساقط أنفسا

والمراد لو أنها نفس تموت موتة واحدة لهان الأمر، ولكنها نفس تموت موتات، وفي الإطناب قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ففائدة ذكر الصدور هنا أنه قد علم أن العمى مكانه البصر حقيقة، واستعماله في القلب غير متعارف فلا بد من زيادة التقرير ليعرف أن العمى الحقيقي في القلب لا العين، وقول البحتري:

تردد في خلقي سؤدد

سماحًا مرجى وبأسًا مهيبًا

فكالسيف إن جئته صارخًا

وكالبحر إن جئته مستثيبا

فالبيت الثاني يدل على معنى الأول إلا أن فيه زيادة بيانية تفيد تخييلًا وتصويرًا.

ولكننا نشير هنا إلى هذه الأوصاف من ناحيتها العامة التي تبدو في العبارة اللفظية لمقال، أو خطبة، أو رسالة، أو وصف، أو قصيدة، وفي مقدار ما يصل بينها وبين الأغراض المعاني كلها مجتمعة، فمن الكتاب من يؤثر الإيجاز حتى يصل إلى التوقيعات والإشارات، ومنهم من يسهب ويطيل كما في الخطب والمقالات الصحفية غالبًا، ومنهم من يساوي، ويغلب ذلك في الرسائل والمقالات

ص: 177