الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطابة:
1-
وهي الكلام الذي يلقى في جمهور الناس للإقناع والتأثير. وهي فن قديم وجد مع الإنسان يلجأ إليه النابهون في الإرشاد. والخصومات والحث على الحروب والسلام. ويرقى كلما استجدت دواعيه. واستقرت الحرية الفكرية والكلامية للشعوب.
وهي أنواع: دينية وسياسية وقضائية واجتماعية. وقد تكون علمية فيهدأ أسلوبها وتسمى محاضرة وقد كانت الخطابة عدة العرب في الجاهلية. ثم ترقت في صدر الإسلام. واستمرت أداة للدين والسياسة والحكم من زمن الأمويين صدرًا من العصر العباسي. ثم خفت صوتها لما طامن الحكم من حرية الجماهير. ولكنها استردت مكانتها في العصر الحديث لمكان الحرية في حياة الشعوب والأفراد. ولنشأة النظم الدستورية في الحكومات. وقيام دور القضاء والندوة "البرلمان" وإباحة الاجتماع والجدل. والمنافسة في الانتخاب والمناظرة في المسائل العلمية والاجتماعية.
ولعل الناحية الفنية أهم ما يعنينا هنا. وتشمل عناصر الخطابة وأسلوبها.
للخطابة عناصر معنوية ثلاث: المقدمة والعرض والختام.
2-
فالمقدمة للاتصال بالسامعين. وإعداد نفوسهم للموضوع وبخاصة إذا كان جديدًا أو كانوا متأثرين بشعور مضاد، وقد يتركها الخطيب إذا لم يجد داعيًا من هذه الدواعي. ولا بد أن تكون موجزة جذابة متصلة بالموضوع كهذه المقدمة من خطبة علي بن أبي طالب لما بلغه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار وقتلوا عاملًا له: "أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة
أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع لله الحصينة، وجنته الوثيقة"1.
3-
والعرض هو العنصر الأساسي في الخطابة. يذكر فيه الخطيب آراءه مقسمة منسقة مؤيدة بالبراهين، ويرد على خصمه مفندًا آراءه معتمدًا دائمًا على حجج منطقية حاسمة أو خطابية مشهورة، مع مراعاة اللياقة والتجافي عن السباب ذاهبًا إلى الإقناع والتأثير، كما قال علي في هذه الخطبة:"ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، سرًّا وإعلانًا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنت عليكم الغارات، ومُلِكت عليكم الأوطان".
4-
والختام أو النتيجة هام لأنه تلخيص للموضوع، وتسجيل على السامعين واجتذاب لعواطفهم، ويجب أن يكون موجزًا واضحًا، قويًّا داعيًا إلى مذهب الخطيب، جامعًا لأهم عناصر الموضوع. كما ختم زياد خطبته البتراء بقوله:"وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي"2.
وأما أسلوب الخطابة -أو عباراتها اللفظية- فيقوم على طبيعة هذا الفن الذي يرمي إلى الإقناع والتأثير. لذلك كان لا بد فيه من البراهين العقلية لتحقيق الغاية الأولى، والانفعالات الوجدانية لتحقيق الغاية الثانية.
وهذه الخاصة وحدها تجعل أسلوب الخطابة منوّعًا يجمع بين تقرير الحقائق وإثارة العواطف، فيستخدم الفكر والوجدان وينفذ منهما إلى الإرادة يدفع بها إلى عمل من الأعمال.
1 المنتخب ج2 ص16.
2 نفس المرجع ص15.
ولذلك تسمى الخطابة الفن العملي كما تسمى الفن الكامل لجمعه -في الإلقاء- بين شخصيتي الخطيب الحسية والمعنوية، ولاستخدامه جميع مواهب السامعين؛ فإن الخطيب يستخدم جسمه في الخطابة؛ فيشير بيديه، ويحرك رأسه، ويشكل أسارير وجهه. وكل هذه الحركات عنصر هام في التأثير الخطابي، حتى إذا قرئت الخطابة مكتوبة كانت فاقدة هذا العنصر الجسماني، مع صوت الخطيب، وحسن إلقائه. فيذهب شيء من روعتها وقوتها الإنشائية.
وعلى هذا الأساس من طبيعة الفن الخطابي نستطيع تمييز أسلوبه بما يلي:
1-
الصفة العامة للأسلوب الخطابي هي القوة. ومصدرها الأول انفعال الخطيب. وقوة عقيدته ويقينه بما يقول. ثم تظهر في عباراته المسجوعة أو المزدوجة وكلماته المؤثرة الجزلة لتكون موسيقى قوية. على تفاوت في ذلك. يقول زياد في مطلع خطابته: "أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء. والغي الموفى بأهله على النار. ما فيه سفهاؤكم. ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير".
2-
التكرار المعنوي جائز في الخطابة لتثبيت الأفكار في الأذهان، وتمكين السامعين من الفهم، والقوة والتأثير. ولكن لا بد من تغيير العبارات كما رأيت في المثال السابق إذ الفكرة الواحدة وردت في عدة جمل. وكما رأيت عند علي. وكقول زياد:"أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا. وسدت مسامعه الشهوات. واختار الفانية على الباقية؟ ".
3-
يختلف الأسلوب فيكون خبرًا. وأمرًا. ونهيًا. واستفهامًا. وتفجعًا. حتى لا يكون رتيبًا. وليمثل الانفعالات اللازمة للخطابة، والتي تمتلئ بها نفس الخطيب. يقول زياد: "ما أنتم بالحلماء ولقد تبعتم السفهاء. فلم يزل بكم ما ترون
من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كئوسًا في مكانس الريب
…
حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا".
4-
والخطابة فيها التقرير لبيان الرأي ودعمه البرهان، وفيها القصص والوصف الموجزان يستعين بهما الخطيب في الإقناع والتأثير كما رأيت كقول علي في خطبته السابقة:"ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها".
5-
يجب أن تكون العبارة -مع قوتها- سهلة مفهومة للسامعين، خالية من الإغراب أو التعقيد حتى يستطيع الجمهور متابعة الخطيب ومسايرته؛ إذ ليست هناك فرصة للسامعين سوى لحظات الاستماع، ولا يستطيعون إيقاف الخطيب ليفهموا عنه، ولا يملك هو سوى فرصة الإلقاء؛ فإن الخطابة فن شفوي، على أنه إذا كتب نقص بهاؤه، وربما مضت ظروفه المناسبة فضاعت فائدته.
6-
يستطيع الكاتب أن يبين بالترقيم وسواه، كل قسم وموقف، ولكن الخطيب يستبدل بذلك النبر الصوتي على النقط الهامة، والعناية بالانتقال من نقطة إلى أخرى بالتنبيه، وتغيير الأسلوب ولهجة الخطاب، وتوكيد مواضع القصر. كل ذلك في جمل قصيرة سهلة. خالية من الاعتراضات وتفرق العناصر اللفظية التي إذا جازت في الكتابة فلن تجوز في الخطابة.
7-
السامعون هم المقياس السديد لمستوى اللغة ودرجتها. فقد يكونون من الخاصة. وبذلك يكون الأسلوب ساميًا عاليًا. وإذا كانوا من العامة كان الأسلوب بسيطًا سهلًا. وإذا كان جمهورًا عامًا غلب الخطيب ناحية السهولة ليضمن الفهم للجميع.
8-
ولا بد أن يكون الخطيب جهير الصوت، صافية، حسن الإلقاء، مناسبة الهيئة، حسن الوقوف، متزن الحركات، خبيرًا بنفسية السامعين، قادرًا على الاندماج فيهم. وعلى فهم ما يطرأ عليهم أثناء الخطابة من فتور فيعالجه. أو غضب فيتلافاه. ويحسن انتهاز الفرص، واختيار الأوقات، والانتفاع بكل ما يفيده. جادًا مرة ومازحًا أخرى حتى يظفر بما يريد.
ويمكن بيان ذلك في خطب العصر الحديث لمصطفى كامل، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد. وتوفيق دياب. وغيرهم كثير.
وتجد في الجزء الثاني من العقد الفريد جملة صالحة من خطب السابقين تعد شواهد لما قلنا.