الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة
المشهور في كتب البلاغة1 أن البلاغة لغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، يقال: بلغ فلان مراده إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها، واصطلاحًا: تكون وصفًا للكلام والمتكلم؛ فبلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال، والحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يميز بكلامه بميزة هي مقتضى الحال فإنكار المخاطب للمعنى حال يقضي أن تؤكد له الجملة فتقول: إن محمدًا ناجح، وذلك التأكيد هو مقتضى الحال. وبلاغة المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ في أي معنى قصد، والبلاغة هذه تستلزم أمرين:
الأول: احتراز الخطأ في تأدية المعنى المقصود خوفا من أن يؤدى بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغا.
الثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره حتى نضمن سلامة العبارة من الخطأ والتعقيد، فمست الحاجة إلى علمين لتحقق سلامة اللفظ من ناحية، ولملاءمته لمقتضى الحال من ناحية أخرى؛ الأول علم البيان والثاني علم المعاني: وقد يسميان بعلم البلاغة لذلك، ولما كان علم البديع يعرف به وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين فصارت مباحث البلاغة منحصر في هذه الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
1 راجع شروح التلخيص ج1 ص73 مطبعة السعادة بمصر.
أما هذه التعريف فلا اعتراض لنا عليه في جملته؛ إذ كانت البلاغة في أصح وأحدث معانيها لا تخرج عما أورده هؤلاء الأقدمون من الناحية النظرية الإجمالية يقول الأستاذ Genung: "البلاغة فن تطبيق الكلام المناسب للموضوع وللحالة على حاجة القارئ أو السامع"1 فتجد أن الحدود واحدة في جوهرها وإن لوحظ في الأخير هذه الناحية العلمية في صراحة واضحة، ولكن المسألة هي: كيف فهم علماء البلاغة عندنا معنى المطابقة أولًا؟ وما الوسائل التي اعتمدوا عليها في دروس البلاغة لتحقيق هذه المطابقة ثانيا؟ وما هذه العلوم البلاغية ثالثا؟
إذا وقفنا عند هذه المسائل التي انتهت إليها أبحاثهم رأيناهم يذكرون أن خطاب الذكي يخالف خطاب الغبي، وخطاب الموقن غير خطاب المتردد، وعلى هذا الأساس غالبا، تقوم المطابقة لتغذية قوة الإدراك ووسيلة ذلك التصرف في الجملة وعناصرها، خبرًا وإنشاءً، فصلًا ووصلًا، تعريفًا وتنكيرًا، ذكرًا وحذفًا ثم الاختلاف بين التشبيه والمجاز والكتابة مما لا يتجاوز كله دراسة الجملة والصورة دراسة قاصرة، ومعنى ذلك أمور ثلاثة:
1-
غاية البلاغة فيما يبدو من هذه الدراسة العلمية يغلب عليها الاتجاه إلى القوة الفكرية وإقناع العقل إقناعًا جزئيًّا قائمًا على ذكائه أو بلادته وعلى شكله أو إنكاره.
2-
ووسيلة ذلك الصورة -التي تختصر علم البيان وقسما من البديع- والجملة الخبرية والإنشائية، وقد دُرستا في علم المعاني من بعض النواحي لا غيره.
1 راجع Genung The Working principles of Rhetoric.
3-
وعلم المعاني هو الكفيل بدراسةالجملة عندهمه، كما أن البيان يدرس الصورة تشبيهًا ومجازًا وكناية، وأما البديع فقد عدوه شيئًا ثانويًّا لا دخل له في صميم البلاغة لأنه قائم على دراسة طرق التحسين الذي يلحق بالكلام، كالسجع، والجناس، والمقابلة، وأسلوب الحكيم، والتقسيم وما إلى ذلك مما يعرف بالمحسنات اللفظية والمعنوية.
أما عن غاية البلاغة فليس المراد من الكلام وقفًا على تغذية الفكر وحده فهناك قوي نفسية أخرى تعني بالبلاغة بها لتغذيتها وتهذبها، من ذلك قوة الانفعال وقوة الإرادة. ولا نقول إن الأدب العربي قصر في ذلك، وإنما نقول إن الدراسة النظرية فيما انتهت إليه هي التي ضاقت عن العناية بهذه المواهب النفسية كما يتضح ذلك مما يلي:
وأما عن الوسيلة فلم تكن اللغة العربية محصورة في الصورة الجملة وحدها فهناك الحرف والكلمة والعبارة والأسلوب عامة، وهناك هذه الفنون الأدبية المختلفة شعرًا ونثرًا كالخطابة، والرسالة، والوصف، والجدل، وغيرها مما أهملته هذه الدراسة -أو العلوم البلاغية- في اللغة حسبما انتهى إليه وضعها الأخير.
لنفهم المطابقة لمقتضى الحال فهمًا عميقًا شاملًا يجب أن نقيمه -من حيث الغاية والوسيلة- على طبيعة النفس الإنسانية ومواهبها من ناحية، وعلى الأدب: أسلوبه وفنونه المختلفة من ناحية أخرى.
علم النفس ينفعنا هنا، ويعاون مع النقد الأدبي والبلاغة في تفسير مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وفي بيان موضوع دراسة البلاغة بيانًا مفصلًا منظمًا، فكيف نوضح ذلك.
1 المرجع السابق 2.
1-
هناك أولا قوة الإدراك The power of intellect تلك القوة التي بها يعرف الإنسان ويفكر ويعلل ويستنبط، وهذه القوة تحتاج في ثقافتها والتأثير فيها إلى الحقائق الصحيحة المعقولة بالبراهين الصادقة، ومعنى المطابقة بالنسبة لهذه القوة تمكين القراء والسامعين من إدراك المعاني وفهمها والاقتناع بها وهي القوة التي تغلب على رجال العلم، والفلسفة والسياسة، ويشتد سلطانها أيام الاستقرار وفي البيئات الخصبة الغنية. وأما الكلام الذي يلائم هذه القوة فهو النثر العلمي أو الأدب بالمعنى العام، كالتاريخ والنقد والعلوم والفلسفة: من كل ما يزود بالحقائق الحيوية النافعة.
2-
قوة الانفعال "العاطفة" The power of emotion: وبها يشعر الإنسان ويتخيل، وهي الظاهرة التي تتحكم كثيرًا في حياة الشبان والفنيين والنساء وتوقظها البيئات الجميلة والمواقف العنيفة، والحوادث القوية وأيام الثورات، والكلام الذي يتجه إلى العاطفة يجب ألا يقف عند إفهام الحقائق، بل لا بد من إيقاظ الشعور وبعث الخيال وذلك هو الشعر والنثر الأدبي الممتاز، كالقطع الوصفية، والرسائل الشاكية أو الغزلية والقصص القيمة، والروايات المؤثرة، مما يسود فيه عنصر العاطفة.
3-
ثالثًا قوة الإرادة The power will: وهي القوة العملية التي يعتمد عليها الإنسان في تنفيذ ما يعتقد، وفي الاتصال العملي بالحياة والكلام الذي يلائم هذه القوة يجب أن يجمع بين أمرين: الإفهام والتأثير، عن طريقي الإدراك والوجدان، وبذلك يدفع الإنسان إلى العمل ويؤثر في سلوكه وأخلاقه، وهي كما تعلم موهبة الجند والقواد، ورجال المغامرات، وذوي المذاهب والآراء الحديثة، وأكثر ما تلزم أيام المحن والانقلاب. والخطابة هي الفن الكلامي
الذي يعد أنسب الفنون لقوة الإرادة، ولذلك تعد فنًّا عمليًّا، وهي تجمع بين قوتي الإقناع والتأثير الذين يدفعان الإرادة إلى العمل الحاسم.
وهنا نرى أن معنى المطابقة البلاغية قد اتسع فتناول مظاهر النفس الإنسانية ومواهبها المختلفة، كما اشتمل على الفنون الأدبية جميعًا، ولاحظ فوق ذلك الزمان، والمكان، والنوع الذي نتحدث إليه، وإذا تقدمنا قليلا فلاحظنا الفرد ومواهبه الخاصة، والأساليب وعناصرها التفصيلية، وأنواعها المتعددة تراءى لنا هذا المدى الواسع الذي تنبسط فيه الناحية التطبيقية لفن البلاغة، وأدركنا إدراكًا صحيحًا، ما قيل إن المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يجب أن يفحصه فحصًا دقيقًا، وأن يفرض له من الدواء -أو الكلام- ما يلائمه وإلا أضر به، ونقول إن البليغ مع المخاطبين كالقائد أمام الحصن يجب أن يهاجمه من حيث ينتظر الظفر، وبالسلاح الذي به يفوز.
وإتمامًا لهذه المسألة نقول: من المقرر الثابت في علم النفس أن هذه القوى المعنوية ليست منفصلة إحداها عن الباقي في الطبيعة النفسية، بل هي خاضعة لنظرية الوحدة الروحية؛ فهي مظاهر تتوارد على نفس الإنسان حسب الدواعي والمؤثرات، فالإنسان مرة يفكر بنفسه، وأخرى منفعل بها، وثالثة مريد معتزم والنفس هي هي، إلا أنها تلبس لكل حال ثوبًا يناسبها، وهي مع ذلك متواصلة متعاونة، فالفكر يشد أزر العاطفة، وهي توقظه، وهما يبعثان الإرادة، ويندر أن توجد فكرة لا تثير عاطفة ولا تحرك إرادة، ومثل ذلك يقال عن الفنون الأدبية التي تغذي هذه المواهب النفسية، وهذا بيان ما تريد:
1-
فليست هذه الفنون متضادة بحيث لا يلتقي فن بالآخر ولا يصل إليه بسبب، كلا، فكل فن منهما يتصل بالباقي أشد الاتصال؛ إذ تتألف من عناصر واحدة هي اللفظ والمعنى الذي ينحل إلى العاطفة والخيال والفكرة، وإن كانت تتفاوت في مقدار ما يحويه كل منهما من هذه العناصر تفاوتًا يقوم على طبيعتها
وغايتها، على أنها جميعا تصدر عن الإنسان وترمي إلى تهذيبه كذلك، وقد رأيت أنها جميعًا تندرج تحت هذا المعنى العام لكلمة الأدب.
2-
كذلك لا تتعارض هذه الفنون من حيث صلتها بقوى النفس الإنسانية فالخطابة مثلا تغذي الفكر والعاطفة وإن كانت تتجه إلى الإرادة اتجاها أساسيًّا مقصودًا لذاته، فهي تستخدم هاتين القوتين لتنفذ خلالهما إلى الإرادة لتبعثها وتحمل صاحبها على العلم، كذلك الشعر يؤثر في الفكر والإرادة مباشرًا وغير مباشر، لما فيه من الحقائق والعواطف، وبخاصة إذا كان شعرًا خطابيًّا تهذيبيًّا، والنثر العلمي يتجه بحقائقه مباشرة إلى الفكر، ولكن الحقائق عماد العاطفة وسبب قوتها وصدقها، وهي كذلك أساس العقيدة التي تتكئ عليها الإرادة ونتيجة ذلك أن أي هذه الفنون يؤثر في قوى النفس جميعا وإن تفاوتت الآثار بتغير الفنون فهي متعاونة متواصلة شأن القوى النفسية ذاتها.
3-
ويقال نحو ذلك بالنسبة لطبقات الناس وبيئاتهم، فكما أن هذه الطبقات الإنسانية -مهما تختلف مواهبها في الدرجة- ذات وحدة روحية أو نفسية عامة، وبينها قدر مشترك منها مهما تتباين بها الأزمنة والأمكنة، كذلك الفنون الأدبية، يجد كل نوع بل كل فرد في أي نوع منها ناحية تغذي نفسه وتؤثر فيه، فالناس جميعا لهم عقول، وعواطف، وعزائم، والفنون فيها ما يفيد المرأة ويثير الرجل، وفيها ما ينفع الشاب ويهيج الفيلسوف، وفيها ما يشجي الجنيد ويستفز الحليم، إذا كان الأدب صادرًا عن الإنسان ومتجهًا إلى الإنسان.
4-
وسنرى في غضون هذا البحث أن صفة القوة ألزم للأسلوب الحضاري، والوضوح أظهر في الأسلوب العلمي، والجمال أخص صفات الأسلوب الأدبي، فليس معنى ذلك أن الخطابة تستغني عن الوضوح أو الجمال وإلا فلن تفهم، ولن يحتملها الناس، فتفقد إقناعها وتأثيرها، وبذلك لا تتحقق غايتها العملية،
ولا يمكن أن ينكر الأسلوب العلمي القوة والجمال، فرارًا من الثقل والجفأ فلا يقبل عليه القراء ولا يفيدون منه شيئا، ولن يكتفي الشعر مثلا بجمال الأسلوب دون الوضوح والقوة، وإلا فقد ميزته الأدبية التي هي أداء المعاني العقلية، وميزته الفنية الهامة التي هي إثارة العواطف في نفوس القراء، فلا بد إذًا من توافر هذه الصفات في كل أسلوب وإن كان يجبهك منها أوضحها في الفن الذي تدرسه.
5-
وخلاصة هذا الفصل أن هناك وحدتين: وحدة نفسية، ووحدة أدبية والأولى تتوافر في طبيعة النفس الإنسانية وتتراءى لنا مظاهر شتى تتعاقب عليها فكرًا أو عاطفة أو إرادة، وأي قوة في إحداها تفيد سائرها ما دام الإنسان حريصًا على حفظ التوازن بينها، والثانية تظهر في طبيعة الكلام وصدوره عن نفس البليغ واشتماله على تلك العناصر الأدبية التي هي في الأصل عناصر نفسية صالحة لتثقيف الإنسان وتهذيبه من أي طبقة كان، وفي أي بيئة من البيئات.