الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلمية، وقد ضرب ابن الأثير مثلًا لذلك في وصف بستان ذي فواكه متعددة، فالإيجاز هو قوله تعالى:{مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان} والإطناب قول ابن الأثير: "جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة، وما كل تربة توصف بالنجابة، ففيها المشمس الذي يسبق بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه. فهو يسمو بطيب الفروع والنجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلاده من نضار
…
إلخ" كذلك أورد للإطناب مثلًا من الرسائل والتقاليد فلتراجع هناك.
والنثر العصري لا يميل إلى الإيجاز إلا في التوقيعات الديوانية، والكلمات السائرة، ولكنه بعد ذلك أميل إلى الإطناب ثم المساواة، وحسبه حياة تخلصه التخلص النهائي من هذه الصنعة البديعية والإغراب اللغوي، إلى خير مستوى ظفر به في حياته من ثراء المعاني وروعة الأساليب.
الناحية الثالثة:
وهي ناحية الصنعة البديعية، والتكلف المقصود. طمعًا في زخرفة الأساليب، وتوشيتها بالسجع، والجناس، والمطابقة، والاستعارة، ونحوها من عناصر التحسين اللفظي والمعنوي، وقد كانت هذه المحسنات ترد في الشعر القديم قليلة وعفوًا دون تكلف، واستجابة لقوة المعنى وصدق تصويره كقول أبي ذؤيب الهذلي مستعيرًا:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع1
1 التميمة ما يحمله الإنسان مخافة الحسد أو الشر.
وقول حيان بن ربيعة الطائي في التجنيس:
لقد علم القبائل أن قومي
…
لهم حد إذا لبس الحديد1
وقول زهير في المطابقة:
ليث بعثر يصطاد الرجال، إذا
…
ما الليث كذب عن أقرنه صدقا2
"فلما أفضى الشعر إلى المحدثين، رأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط"3. وقد قيل إن "أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد وابن هرمة وهو ساقة العرب، وآخر من يستشهده بشعره، ثم أتبعها مقتديًا بهما كلثوم بن عمر العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به"4.
والذي يعنينا هنا -في الشعر- أن هؤلاء الشعراء اختلفوا في مقدار عنايتهم بالصنعة البديعية، فاختلفت أساليبهم في النظم تبعًا لذلك: فأما أبو تمام فكان -في كثير من شعره- أشد الشعراء تعلقًا بالبديع، وأكثرهم تكلفًا له، ولا سيما الطباق، والجناس، والاستعارة والتقسيم، حتى شوهت شعره، وذهبت بكثير من روعته وجلاله؛ فإذا لاحظنا أنه أضاف إلى ذلك محاولته الإغراب اللفظي تقليدًا للقدماء، ثم اجتلابه المعاني الغامضة، والأغراض الخفية التي احتمل في سبيلها كل غث ثقيل، علمنا سر ما تورط فيه من اضطراب في التعبير، وتعقيد في الأسلوب، حتى صار هذا القسم من شعره إذ قرئ أجهد الفكر، وكذا الخاطر في فهم معانيه، وتصور أخيلته وأغراضه، وما كان هذا سبيل الشعر، ولا أسلوب الفن الجميل،
1 الحد: البأس والقوة.
2 عثر: مأسدة، أي كأسود هذا المكان.
3 الوساطة، ص38.
4 العمدة ج1 ص85.
فصار أبو تمام علامة التكلف الثقيل، والصنعة الفاسدة في قسم من شعره ليس بالقليل، ولو أنه جرى مع طبعه، وجانب التكلف، مع معانيه المبتكرة وأخيلته الجميلة، لكان سيد الشعراء غير مدافع1؛ فإنك حين تقرأ له ما ورد أول هذا الفصل من الشعر القوي الجميل تعجب كيف يحيد عنه جريًا وراء البديع، وتعلقًا بالصنعة الممقوتة ليقع في مثل هذه الاستعارة القبيحة:
باشرت أسباب الغنى بمدائح
…
ضربت بأبواب الملوك طبولا
ضرام الحب عشش في فؤادي
…
وحضن فوقه طير البعاد
كأنني، حين جردت الرجاء له
…
عضب صببت به ماء على الزمن
أو هذا الجناس المستكره:
إن من عق والديه لملعو
…
ن ومن عق منزلًا بالعقيق
فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت
…
سلام سلمى ومهما أورق السلم
أو ذلك الطباق المتكلف:
قد لان أكثر ما تريد وبعضه
…
خشن وإني بالنجاح لواثق
وإن حفرت أموال قوم أكفهم
…
مِن النيل والجدوى فكفاه مقطع
وشر من ذلك هذه المعاطلة بتداخل الكلمات، وركوب بعضها بعضًا:
خان الصفاء أخ خان الزمان أخا
…
عنه فلم يتخون جسمه الكمد2
1 راجع الوساطة، ص24.
2 راجع الموازنة بين الطائيين، ص105-210 طبعة الجوانب، ويريد بالبيت خان الصفاء أخ خان الصفاء أخا من أجله فلم يتخون جسمه الكمد: أي لم يؤثر الحزن في جسمه وفاء لأخيه.
وقد وقع المتنبي في مثل ذلك، كما تشبث به المتأخرون فأفسدوا الشعر وذهبوا بروائه.
وأما البحتري وابن المعتز فقد غلب عليهما الطبع السمح، وسهولة الأسلوب وعدم الكد وراء المعاني العميقة والألفاظ الغريبة، ويتلخص أسلوبهما في السهولة وعدم الشغف بالبديع، إلا ما جاء طبيعيًّا أو خفيًّا لا يكاد يظهر، ومعنى هذا أن قيمة شعرهما قائمة، في الغالب، على جمال الأسلوب وطبيعته، وحسن التصوير الخيالي، فكانا مدرسة أخرى تقابل مدرسة أبي تمام، وقد مضت أمثلة لشعر البحتري نعيد منها هذا البيت فقط:
إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها
…
تذكرت القربى ففاضت دموعها
لتلحظ فيه هذا التقسيم، وحسن الترتيب، والمطابقة الملائمة بين الشطرين في المعنى، وهكذا إذا عرض له البديع، ويقول عبد الله بن المعتز يصف سحابة ماطرة:
ومزنة جاد من أجفانها المطر
…
فالروض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعها في الأرض لائحة
…
مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
فيجمع بين الاستعارة، والمطابقة والتشبيه، ومع هذا لا نرى تكلفًا ثقيلًا ولا تعمقًا عويصًا.
وبين هذين الطرفين نضع مسلم بن الوليد، فقد جمع بين الصنعة المعتدلة وتجويد الشعر والبطء في صنعته حتى سموه زهير المولدين1، واستطاع بذلك أن يفترق من أبي تمام بقرب المعاني من جهة، وبسلامه عبارته من الغريب،
1 العمدة ج1 ص85.
والتكلف الممقوت، ولاءم بذلك بين اللفظ والمعنى، فكان لشعره موسيقى قوية جميلة، كقوله يهجو دعبل الخزاعي:
أما الهجاء فقد عرضك دونه
…
والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب، فأنت طليق عرضك إنه
…
عرض عززت به وأنت ذليل
فقد طابق بين المدح والهجاء وبين الدقة والجلالة، وبين العز والذلة، مع جدة المعنى، وإحكام التراكيب وحسن تقسيمها، فكان بذلك من عبيد الشعر.
وأما في النثر فقد عرفت مما سبق أن هذه الصنعة البديعية فقد انتهت إلى غايتها المقبولة على يد كتاب القرن الرابع الهجري، أمثال بديع الزمان، والخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، هؤلاء الذين عرفوا بالسجع والجناس والطباق، واقتباس لغة الشعر أو تضمين معانيه، وقد استطاعوا لإحاطتهم اللغوية وقدرتهم الأدبية أن يجعلوا أساليبهم مقبولة ويحققوا آثار هذه الصناعة، إلا أن كثيرًا ممن خلفهم على هذا الفن -وبخاصة بعد سقوط بغداد وفي عصر المماليك- لم يظفروا بمكانة السابقين في اللغة والادب، ثم غلوا في البديع فأضافوا إلى ما سبق التورية والاستخدام والتلميح للحوادث الشهيرة، ثم التصحيف الذي كان مجال البراعة عند المتكلفين. وقد نشأ عن ذلك فساد الأساليب، وركاكتها، والتضحية بالمعاني في سبيل الألفاظ.
ويمكن إرجاع ما كان بين كتاب الصنعة، من خلاف في الأساليب إلى أصلين:
الأول:
موضوعي حين انتقل بها بعضهم من الرسائل الخاصة، والديوانية، والعامة، إلى كتب العلم أو مخاطبة الملوك في الشئون الدولية، في حين أن هاتين الناحيتين مظهر عقلي أو مصلحي يلائمه الأسلوب البسيط الواضح، ومن ذلك أن
عماد الدين الأصفهاني المتوفى سنة 597هـ كتب في التاريخ بهذا الأسلوب الذي عاد مغلقًا فألف كتابه "الفيح القسي في الفتح القدسي" وصف فيه فتح صلاح الدين لبيت المقدس بعبارة مسجوعة منها: "رحل من عسقلان للقدس طالبًا، وبالعزم غالبًا، وللنصر مصاحبًا، ولذيل العز ساحبًا، قد أصبحت ريض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائح الرجاء، سيب العزف، طيب العرف ظاهر اليد قاهر الأيد، سنا عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملا الملأ فأفاض الآلاء".
والثاني:
شكلي حين يختلفون في مقدار حرصهم على المحسنات وما يجمعون منها في رسائلهم وفي طول السجع وقصره، ودقة الطباق، وطبعية الأسلوب وقد رأيت مثالًا للبديع يمثل السجع القصير، القصد في الجناس وملاءمة الطباق.
ونورد هنا قسما من الرسالة1 لشهاب الدين بن فضل الله العمري -تصور لنا التعلق بالصنعة في غير موضعها ثم الإسراف فيها حتى عادت غثة غير مقبولة- كتبها بين يدي سلطانه إلى نائب الشام صحبة طيور صيد جوارح أرسلها إليه، قال بعد الديباجة: "ولا زالت مواهبنا تخصه بالمزيد، وتنفحه بما يريد، وتجعل له من الجوارح ما تعترف لها السهام بأنها بغير جناحية لا تصيب ولا تصيد. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام جميل الافتتاح، وثناء يطير إليه، وكيف لا تطير قادمة بجناح؟ ونعلمه أن مكاتبته المتقدمة الورود تضمنت التذكار من الجوارح بما بقي رسمه، وجرب عادة صداقتنا الشريفة أن تحسب في قسمه، وقد جهزنا له الآن ثلاثة طيور، لا يبعد
1 أحمد الإسكندري: تاريخ أدب اللغة العربية في الدول المتتابعة ص92.
عليها مطار، ولا يوقد للقرى في غير حماليقها جذوة نار، ولا تؤم صيدًا إلا وترشى بدمه فلا يلحقها بغبار".
ومثل هذه الصنعة بقيت إلى أول العصر الحديث حين تشبث بها قوم من الكتاب ظانين أنها مظهر البراعة، فلما هبت هذه النهضة، وحملت الثقافة والسرعة الناس على العناية بالمعاني والموضوعات، انهزمت هذه الصنعة ولم تستطع مجاراة هذا التيار المعنوي الدافع، فتحررت الأساليب بالتدريج وألقت عن كواهلها هذه السخافات اللفظية، وأخذت ترقى مستجيبة للرقي العقلي والذوقي حتى بلغت الآن منزلة رفيعة لعلها لم تظفر بها قبل الآن.