الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا ريب أن ظاهر الآية لا يدل على أنها من الصفات، لأن الساق فيها جاءت نكرة في سياق الإثبات، لم يضفها سبحانه لنفسه، فلم يقل (ساقه)، فلما لم يعرّفها بالإضافة، لم تكن دالة على صفة لله، ولذلك لم يعدها ابن عباس من آيات الصفات.
والذين جعلوها من آيات الصفات، إنما عدوها للحديث الذي في الصحيحين، لا لظاهر الآية. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وعلى هذا فلا يصح أن يقال أن ابن عباس تأول الآية!
ثانياً: أن صفة الساق لله تعالى ثابتة في السنة:
فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)(1).
ثامناً: دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه للفظ (الجنب):
زعم الأشعريان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، فقال: تركت من طاعة الله وأمر الله وثوابه.
(1) رواه البخاري (4/ 1871) واللفظ له، ومسلم (183).
وكذلك ورد مثله عن مجاهد والسدي والحسن.
والجواب أن يقال: أن هذا الكلام يدل على جهل كبير، إذ لا يمكن دعوى التأويل هنا حتى يثبت عن السلف أنهم جعلوا (الجنب) صفة لله تعالى، فعندها يمكن دعوى تأويل ابن عباس ومن وافقه.
ولم يقل أحد من السلف قط أن الجنب في الآية صفة لله تعالى.
وهذا من الخطأ الذي يقع فيه الناس، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه.
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك. فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فَلِمَ تشّنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك، ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم، تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية
بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم. فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه "الكذب مجانب للإيمان" وقال ابن مسعود:"لا يجوز من الكذب جد ولا هزل" وقال الشعبي "من كان كذابا فهو منافق") (1) ا. هـ.
والآية يقول الله تعالى فيها: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين. بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} الزمر (56 - 59).
وهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الظالمة لنفسها، ومعلوم أن عامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جنباً، ولا تقر بذلك، كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك.
وقوله تعالى: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إخبار عن تحسرهم على التفريط في جنب الله، والتفريط إما فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله، لا في جنب ولا في غيره، بل يكون
(1) الرد على المريسي (2/ 807).
منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر االآية لا يدل على أن قول القائل:{يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وذاته.
وإنما المراد بجنب الله، طاعة الله، وأمر الله، وحق الله، كما يقال (سبيل الله). ومنه ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم:(من قتل دون ماله مظلوما فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون جاره فهو شهيد، ومن قتل في جنب الله فهو شهيد)(1).
وكما في قول إبي الدرداء رضي الله عنه: (إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس)(2).
وفي قول خالد بن معدان: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر)(3).
قال ابن منظور في اللسان (مادة جنب): (قال الفراء: الجنب القرب، وقوله عز وجل:{على ما فرطت في جنب الله} أي: في
(1) رواه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية لابن حجر (9/ 200).
(2)
رواه أحمد في الزهد (ص134) وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 110) والخطابي في العزلة (ص61).
(3)
رواه ابن المبارك في الزهد (ص99)