الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا إنما قاله أبو المعالي الجويني، منكراً علو الله تعالى على خلقه، وارتفاعه بذاته على عرشه.
وهذا الحديث المذكور ليس له أصل
قال الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار: (غريب جداً)(1).
والزيلعي كثيراً ما يطلق هذا اللفظ على ما كان موضوعاً. ذكر ذلك الشيخ ثناء الله الزاهدي في "توجيه القاري"(2).
وإنما المعروف ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)(3).
وفي الصحيحين عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما نحوه.
الثاني عشر: دعوى تأويل الإمام أحمد مجيء الله تعالى:
زعم الأشعريان أن الإمام أحمد قد تأول صفة المجيء لله تعالى فقالا: (جاء في البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير ما نصه: "روى البيهقي عن الحاكم عن عمرو بن السماك عن حنبل: أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وجاء ربك} الفجر22، أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه) اهـ.
(1) تخريج الأحاديث والآثار (1/ 264) وقال المحقق في الحاشية: (قال ابن حجر: لم أجده).
(2)
؟؟؟
(3)
رواه البخاري (4/ 1694) ومسلم (2376).
ثم قالا: (ونقل ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} البقرة210،أنه قال: المراد به قدرته وأمره.) اهـ.
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذه الرواية التي رواها حنبل، إنما قالها الإمام أحمد -على فرض ثبوتها- في مناظرته للجهمية في القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر كلام ابن الجوزي وما نقله عن القاضي أبي يعلى: (قلت: هذا الذي ذكره القاضى وغيره أن حنبلاً نقله عن أحمد فى كتاب المحنة، أنه قال ذلك فى المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" قالوا": والمجيء لا يكون إلا لمخلوق، فعارضهم أحمد بقوله: {وجاء ربك} الفجر22، أو {يأتى ربك} الأنعام158، وقال: المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران ثوابهما، كما فى قوله {وجاء ربك} أمره وقدرته)(1) اهـ.
وهذا يدل على أن الإمام أحمد إنما قاله على سبيل المعارضة وإبطال حجة الخصم من كلامه وما يعتقده، وهذا من باب التنزل، فإن الجهمية كانت تتأول مجيئه سبحانه وإتيانه بمجيء وإتيان أمره، لا أنه يجيء بنفسه، ولم يكن هذا دالاً عندهم على أن من نُسب إليه
(1) مجموع الفتاوى (16/ 405).
المجيء والإتيان مخلوقاً، فعارضهم بهذا الأصل، فقال: فكذلك وصف الله سبحانه كلامه وهو القرآن بالمجيء في حديث "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان" هو مثل وصف نفسه بذلك، فلا يدل على أن كلامه مخلوق، بل يحمل مجيء القرآن على مجيء ثوابه، كما حملتم مجيئه سبحانه وإتيانه على مجيء أمره وقدرته.
فالإمام أحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به.
ثانياً: أن هذا مخالف للمتواتر المشهور عن الإمام أحمد في هذا الباب من وجوب إمرار الصفات على ظاهرها، ومنع التعرض لها بتأويل أو غيره. بل إن حنبلاً نفسه نقل عنه ترك التأويل والمنع منه مطلقاً:
فقال حنبل بن إسحاق: (قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال: فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، وقال: مالك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف)(1) اهـ.
وقال حنبل: (سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن الله يُرى، وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث.
(1) سبق تخريجه حاشية 31.
فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به رسول الله حق إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه فهذا كله يدل على أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة) (1) اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في "إبطال التأويلات": (وقال يوسف بن موسى قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قال: نعم)(2) اهـ.
(1) سبق تخريجه حاشية 32.
(2)
إبطال التأويلات (1/ 260).
وقال إسحاق بن منصور: (قلت لأحمد: "ينزل ربنا وجل كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا" أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح.)(1) اهـ.
وقال أحمد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة"؟ قال: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قال: نعم.
وقال القاضي أبو يعلى: (وقال أحمد في رسالته إلى مسدد: إن الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش.
قال القاضي معلقاً: فقد صرح أحمد أن العرش لا يخلو منه، وهكذا القول عندنا في قوله {وجاء ربك والملك} الفجر22، والمراد به مجيء ذاته لا على وجه الانتقال.) (2) اهـ.
وقول الإمام أحمد أنه ينزل ولا يخلو منه العرش ظاهر في أن النزول حقيقة، وأنه نزول الله تعالى لا نزول أمره، ولا نزول ملك. ومعلوم أن من لا يعتقد أن الله فوق العرش فهو لا يعتقد نزوله، لا بخلو، ولا بغير خلو.
وهذا يؤكد أن هذه الرواية شاذة، وإنما هي وهم من حنبل.
(1) سبق تخريجه حاشية 493.
(2)
إبطال التأويلات (1/ 261).
قال ابن القيم عن حنبل: (وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما يخالف المشهور عنه فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية)(1) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هكذا نقل حنبل، ولم ينقل هذا غيره ممن نقل مناظرته فى المحنة، كعبد الله بن أحمد، وصالح بن أحمد، والمروذى وغيره)(2) اهـ.
بل لم يذكره الإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" لما تكلم عن احتجاجهم على خلق القرآن بالحديث.
وقد قال الأشعريان تعليقاً على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراً لثبوت الرواية: (أما كون المشهور عن الإمام أحمد عدم التأويل، فإنه لا يناقض هذه الرواية، وقد يكون المشهور المتواتر عن إمام شيء ويثبت عنه شيء آخر على سبيل الندور، لا سيما إذا لم يتعارض الأمران ويتناقضا كما هو في ما نحن فيه، وقد نقل عن السلف تجنبهم للتأويل وبغضهم للخوض في ذلك، كما أيضاً كلمات لهم في تأويل بعض الألفاظ، وكلا الأمرين لا بأس به .. ) اهـ.
ولا شك أن هذا الكلام يأباه التحقيق العلمي والعقلي، إذ أن الإمام أحمد والسلف لم ينهوا عن تأويل الصفات نهياً مجرداً، بل كان نهياً مقروناً بالتغليظ، والحكم بالبدعة على من فعله، والأمر
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 260).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 399).