الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع: التمهيد للدعوة
…
التمهيد للدعوة
بدأت دعوة الشيخ الإمام هامسة تمشي على إشفاق بين ظلام البدع والمنكرات ووسط معاقل المشعوذين في نجد، فكانت أشبه بخيوط الفجر تندس في أحشاء الليل لتطارد بين يديها جحافل الظلام الكثيف من تصورات الأوهام التي لا يكاد يشعر بها أحد ممن لفهم الليل البهيم بردائه إلا قليل من أولئك الذين لمحوا على الأفق البعيد بشريات الصباح، فأزعجوا طائر النوم من عيونهم، وانتظموا في موكبها يستقبلون يوماً من أيام الله المباركة، وتكونت الخميرة الأولى للدعوة المباركة في المدينة المنورة يوم كان ابن عبد الوهاب رحمه الله طالباً فيها، حيث رفع بصره ورأى أعمال الجهالة عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقلقته هذه البدع وأقضت مضجعه، ولما سافر إلى البصرة ازداد شعوره بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عانى أنواعاً من المحن حيث اضطر إلى مغادرة البصرة والعودة إلى حريملاء، وزاد تصميمه على منازعة الشرك ورفع راية التوحيد والتركيز على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له إعلاء لكلمة الله عز وجل، فنهض رحمه الله تعالى ينكر بشدة على الدجاجلة والرؤساء وغيرهم ما ألصقوا بدين الله تعالى من منكرات البدع والأهواء.
وأخذ الشيخ يجهر بدعوته قولاً وعملاً، ولكن والده منعه من ذلك خوفاً على ابنه من ثورة العوام، فاتجه الشيخ للبحث والتحصيل والتفكير في أنجح الوسائل، وأصح الأساليب لدعوة الناس، فألف كتاب التوحيد الذي يعتبر قاعدة الانطلاق، فلما مات أبوه عبد الوهاب رحمه الله أعلن دعوته وأعاد نشاطه، وعلى ضوء المستجدات يومها قرر الشيخ محمد أن "حريملاء" لا تصلح لنشر الدعوة بسبب
عدم استتباب الأمن فيها، وانقسام أهلها، وكذلك انقسام الحكم فيها، مما جعل الشيخ يتعرض لخطر عبيدها الذي ضاقوا ذرعاً بزجر الشيخ لهم وحده من تماديهم وفسقهم، حتى أنهم قرروا قتل الشيخ1، فعاد الشيخ رحمه الله إلى مسقط رأسه "العيينة"2، فهو يعرف أهلها ويعرفونه، والحكم فيها مستقر نوعا ما، وكان حاكم العيينة في ذلك الوقت "عثمان بن أحمد بن معمر"3، الذي تفهم دعوة الشيخ رحمه الله، وقبل عرضه الذي تلقاه بكل احترام وتقدير، ووعد بالمساعدة والنصرة بعد أن سمع من الشيخ قوله:"إني لأرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى وتملك نجداً وأعرابها"4.
وبدأ الشيخ الإمام يصدع بدعوته ويهتف بالشاردين عن الحق، ولا يكترث بأمر ليس له من دين الله تبارك وتعالى سند، وهو يعلم أنه في جرأته على أعراف الجاهلية وتقاليدها سوف يلاقي العنت، بيد أنه لا ينبغي أن يخشى في الله
1 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: تأليف محمد بن عبد الله سليمان السلمان ص 131.
2 العيينة: تقع شمال غرب الرياض على بعد خمسة وأربعين كيلو متراً، أنشأها آل معمر في منتصف القرن التاسع الهجري.
3 هو عثمان بن حمد بن عبد الله بن معمر، تولى إمارة بلدة العيينة بعد ما قتل أخوه محمد سنة 1142هـ، وقد ناصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما انتقل إليه بعد وفاة والده (1153هـ) ، ولكنه لم يستمر طويلاً، طرده في سنة 1157هـ تلبية لطلب حاكم الإحساء، ولكنه ندم فيما بعد فلحق به في الدرعية، وطلب منه العودة معه، فلم يجبه الشيخ إلى طلبه فعاد إلى العيينة، ثم رأى أنه لا بد له من مناصرة الشيخ والأمير محمد بن سعود، فأيدهما وناصرهما في مواطن =عدة، وقاتل معهما أعداءها، إلا أن بعض رجاله من أنصار الشيخ ذكروا أنهم تحققوا منه نقض العهد سراً، وموالاة الأعداء، فقتلوه في مسجد العيينة بعد انتهائه من الجمعة سنة 1163هـ، 1750م. انظر الإعلام: خير الدين الزركلي 4/204-205.
4 عنوان المجد ج4 ص 9.
عز وجل لومة لائم، وعليه أن يمضي إلى غايته لا تثنيه قوة النقد ولا جراحات الألسنة.
والباطل الذي يروج حيناً ثم يثور المصلحون عليه فيسقطون مكانته ويزهقونه لا يبقى على كثرة الأشياع أمداً طويلاً، ورب مخاصم اليوم من أجل باطل انخدع به أمسى نصيراً لمن خاصمهم مستريحاً إلى ما علم منهم مؤيداً لهم بعد شقاق، ولهذا كان الشيخ شاعراً بقوة اليقين في شخصه وروعة الإيمان في نفسه بأنه على حق، وواجبه الشرعي أن يثبت كالطود الأشم لم تجفه التيارات السائدة ولا تؤثر في مواقفه الآراء الفاسدة، وماذا يفعل الناس مع امرئ اعتز بإسلامه، واستشعر القوة والشجاعة لصلته بربه واستقامته على منهجه، إنه واثق من أنهم لو تألبوا عليه جميعاً ما نالوا منه قليلاً ولا كثيراً، فهو الآمن لا يخاف، والقوي لا يضعف، والمنتصر لا يهزم، فقد علمه الإسلام أن البقاء للأصلح مهما علا الزبد وربى، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء:105-106) .
وأن انحرافات الجاهلية وتصوراتها لا قيمة لها، وللشيخ رحمه الله تعالى قدوة وأسوة في إبراهيم الخليل عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه عز وجل، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه، وحاجة قومه، قال:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام) .
إن أحداث التاريخ تتشابه، وقد رأى الشيخ المجدد رحمه الله من الانحرافات والضلال مثلما رأى إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام والكواكب والنجوم، ومثلما كانت عليه قريش قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ألواناً من الشرك والمظالم، فالسواد الأعظم في نجد لا يفهم الإسلام، وهناك الهمجية، وقتل النفس التي حرمها الله عز وجل وذبح الخراف على الأشجار والأحجار، اعتقاداً من العامة أنها تنفع وتضر، وأصبحت أكثر عادات الناس وتقاليدهم لا تختلف كثيراً عن عادات أهل مكة قبل الإسلام.
فالنجدي تراه يتفاءل ويتشاءم بالسوانح والبوارح، ويذهب إلى العرافين والكهان والمشعوذين، وقد ارتدت الخرافات والأباطيل مسوح العبادة وشملت أكثر الحواضر والبوادي "فعدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الصالحين والأولياء، وجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والخطوب، وأقبلوا عليهم يطلبون قضاء الحاجات والمطالب، واستغلق طبعهم وفقدوا إدراكهم وتمييزهم حتى اعتقدوا في الأحجار والأشجار أنها تضر وتنفع، ووهبوها أعمالاً يعجز أن يقوم بها الآدميون بل يعجز الأنبياء والمرسلون، كما اعتقدوا فيها التصرف التام والقداسة، فكانوا يأتونها في كل حين يتبركون بها ويتمسحون ويطلبون منها حاجياتهم.
وكان في بليدة الفداء1 ذكر النخل المعروف بالفحال، يأتي إليه الرجال
1 راجع بتوسع الحياة في نجد من كتاب محمد بن عبد الوهاب، تأليف أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثالثة، الناشر مكتبة العرفان –بيروت 1392هـ-1972م، ص 25.
والنساء زرافات ووحدانا ويفعلون عنده من الأفعال المنكرة ما لا يقبله الإنسان ذو الضمير الحي والذوق السليم، يرتكبون عنده المنكرات ويصلون له ويتبركون به، وتأتيه المرأة التي لا يتقدم إليها الخطاب فتعانقه وتقول في بكاء ولوعة واحتراق: يا فحل الفحوا ارزقني زوجاً قبل الحول، ثم تأخذ في إغواء بعض الشبان حتى إذا اصطادت واحداً منهم وتزوجت به خيل إليه أن ذلك من عمل فحل الفحول.
وهناك قبر "ضرار بن مالك" الذي يزعمون أنه شعيب غبيراء1، وكذلك قدسوا شجرة الطرفية تقديساً كبيراً، فإذا ولدت المرأة ذكراً علقت عليها حبلاً أو قطعة من قماش طلباً من الطرفية أن تطيل عمره، فكان الرائي إذا أبصرها لا يكاد بيصر الأغصان والأوراق والساق لكثرة الحبال، وقطع الأقمشة، بل يظن الرائي أول وهلة أن ما يرى ليس إلا كومة من الحبال، وقطع الأقمشة لكثرتها.
وفي الدرعية2 جبل بسفحة غار كبير، يزعم الجهلاء أنه لفتاة حسناء تدعى بنت الأمير، يحجون إليها، ويستغيثون بها، اعتقاداً منهم أن الفتاة من أولياء الله الصالحين، وسبب هذا الاعتقاد الزائغ –كما يقول ابن غنام- أن بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير،
1 هو ضرار بن مالك "الأزور" ابن أوس بن خزيمة الأسدي، أحد الأبطال في الجاهلية، والإسلام، قاتل يوم اليمامة أشد قتال حتى قطعت ساقاه، فجعل يحبو على ركبتيه ويقاتل والخيل تطأه، ومات بعد أيام في اليمامة سنة 11هـ 633م.
2 الدرعية: مدينة بناها في وادي حنيفة "مانع المريدي" الجد الأعلى لآل سعود حوالي سنة 850هـ، 1446م، وظلت عاصمة حكمهم حتى دمرها إبراهيم باشا بن محمد بن علي سنة 1233هـ -1818م. وما زالت أطلالها قائمة حتى الآن قرب الرياض. انظر: العلاقات بين نجد والكويت ص 22.
فأنقذها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز، ويبعثون بصنوف الهدايا، ونسوا قوله تعالى:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات:95-96) .
ويزعم المبطلون أن رجلاً بالخرج أعمى كان يقطع البراري سيراً على الأقدام من بلده الدرعية.
يقول ابن غنام:
وكان عندهم رجل من الأولياء اسمه (تاج) ، سلكوا فيه سبيل الطواغيت، فصرفوا إليه النذور، وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجاً، وكان هو يأتي إليهم من بلده الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج، وكان أهل البلاد المجاورة جميعهم يعتقدون فيه اعتقاداً عظيماً، فخافه الحكام وهاب الناس أعوانه وحاشيته، فلا يتعرضون لهم بما يكرهون، ويدعون فيهم دعاوي فظيعة، وينسبون إليهم حكايات قبيحة، وكانوا لكثرة ما تناقلوه وأذاعوها يصدقون ما فيها من كذب وزور، فزعموا أنه أعمى، وأنه يأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده، وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم1.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الله في كتاب منهاج التأسيس: فصار هذا الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن
1 روضة الأفكار والأفهام 7/ ج7 ط2.
قيل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والتقول، وصار هو مذهب الخاصة عند الأكثرين، ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين، وعبدت الكواكب والنجوم، وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الأضرحة والمشاهد، وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية، وصرفت لها العبادات المالية والبدنية، ونحرت لها النحائر والقرابين، وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحلقت لأربابها رؤس الوافدين، واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات، وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات، وبارزوا بتلك القبائح العظام رب الأرض والسموات، وصنف في استحبابه بعض شيوخهم، كابن المفيد، وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد1.
وأصبح الناس في كل البلاد الإسلامية فضلاً عن نجد أمكنه خاصة يقدسونها ويحجون إليها، ويطلبون منها ويستغيثون بها ويذبحون لها، ويعكفون عليها، كما في مصر والشام والعراق، ودول المغرب العربي، وآسيا وأفريقيا، وقد أدرك الشيخ المجاهد والإمام المجدد أن إيمانه يفرض عليه أن لا يستكين، وقد أنس من قلبه قوة الاستجابة لدواعي الهدى، ودين الحق، وعليه أن يحيا بالإسلام وللإسلام، ويعري تجار الأباطيل والدجل والاستغلال، وليخط لنفسه نهجاً يلتمس به مثوبة الله عز وجل، ولئن كانت الأوهام والخرافات تغري البعض، فإن الإيمان الصادق بالله عز وجل يجعل أهله راسخين أقوياء، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا
1 منهاج التأسيس عبد اللطيف عبد الله، نقلاً من غاية الأماني في الرد على النبهاني –الألوسي.
هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:41-42) .
فلا بد إذن من البراءة الحاسمة الجازمة من جميع المعبودات الباطلة، ففي تجربة إبراهيم الخليل مع قومه درس كبير وأسوة حسنة لكل مسلم إلى يوم الدين، قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة:4) .
وقام الشيخ رحمه الله تعالى يدعوا إلى الله وحده، ودخلت الدعوة المباركة مرحلة جديدة بمساعدة أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر، ونجح الشيخ في القضاء على بعض مراكز البدع، "تمثل ذلك في أمور ثلاثة":
1-
هدم القباب المقامة على القبور، مثل قبر "زيد بن الخطاب"1، وفي الجبيلة2، وقد بدأ الشيخ بنفسه في هدم القبة، ثم تبعه أصحابه فهدموها.
2-
قطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، مثل شجرة "الذيب" في العيينة، قطعها الشيخ بنفسه، وشجرة "قريوه" في الدرعية.
1 هو زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، صحابي جليل من شجعان العرب في الجاهلية والإسلام، أسلم في مكة قبل الهجرة، وشهد المشاهد كلها، ثم كانت راية المسلمين في يده يوم اليمامة فثبت إلى أن استشهد، وكان ذلك سنة 12هـ 633م. انظر: الأعلام للزركلي 3/58.
2 قرية دارت في المعركة الكبرى بين المسلمين والمرتدين من أهل اليمامة، وذلك سنة 13هـ، =واستشهد فيها عدد من الصحابة ودفنوا في ثراها، وقيل بنيت قبة على قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه فكان العامة يتبركون بها ويطوفون حولها حتى هدمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
3-
رجم الزانية التي جاءت إلى الشيخ وأقرت بالزنا، وطلبت إقامة حد الله عليها، وأقرت عند الشيخ أربع مرات في أربعة أيام، فلما تيقن الشيخ من توفر شروط إقامة الحد عليها أمر بها، فرجمت لأنها محصنة، وكان "عثمان بن معمر" أول من بدأ برجمها.
لقد بهرت الأعمال كلها الناس، لأنها أشياء جديدة لم يعتادوها، مما جعلهم أما ذلك قسمين:
قسم آمن بذلك وأقر به.
وقسم أنكره وحاربه.
وكان من ضمن هؤلاء -المنكرين- حاكم الإحساء من بني خالد، وهو سليمان بن محمد بن غرير، الذي كان له ما يشبه النفوذ السياسي على حاكم العيينة، لذلك أرسل "ابن غرير" إلى معمر حاكم العيينة برسالة يتوعده ويتهدد بقطع راتبه السنوي إن لم يخرج الشيخ من بلده، ولما لم تكن دعوة الشيخ قوية في تلك الفترة، بحيث يعرض ابن معمر بهذه القوة ما يفقده من كسب مادي1 من حاكم
1 لا يخفى على العاقل البصير أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين. فإن أي دعوة إذ لم يكن لديها من القوة ما يحميها ويذود عنها سرعان ما تتكالب عليها قوى الشر والطغيان حتى تستأصل خضراءها، وتظهر هذه الأهمية من قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحديد، وكذلك قوله:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} الإسراء:81. قال قتادة: فيها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم. قال ابن كثير: وهو الأرجح: لأنه لا بد من الحق من قهر ممن عاداه، وناوأه
…
وفي الحديث: "إن الله ليذع بالسلطان ما لا يذع بالقرآن"، تفسير ابن كثير 3/64.
الإحساء، فقد أذعن ابن معمر لتهديده، وأمر الشيخ بالخروج1 إلى أي بلد يشاء، فاختار الدرعية لقربها من ناحية، ولما يعرفه من سيرة حسنة لحاكمها إضافة إلى استقلال صاحبها وعدم خضوعه لسيطرة خارجية ولقد أحسن الشيخ الاختيار، فكان انتقاله موفقاً2، ولا ننسى أن الابتلاء على طريق الدعوة سنة الله عز وجل في صنع الدعاة إلى دينه ونهجه، قال تعالى:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3) .
ولا يعرف المسلم قيمة دعوته، ولا يذوق حلاوة توحيده إلا بعد أن تتعرض نفسه ومشاعره وجوارحه وأحاسيسه وغرائزه للامتحان والابتلاء، فيثبت أو ينهزم، ينجح أو يرسب.
إن هذا الدين صلب في مقاومة الباطل وأهله، ومواجهة زيفهم ومبادئهم بالهدى الناصع، والحجة البينة، ولذا احتاج هذا الدين إلى نوع من الناس يستطيع
1 الهجرة سنة الرسل عليهم السلام وسبيل الدعوات، وقد ذكر الأستاذ: مسعود الندوي في كتابه "محمد بن عبد الوهاب" ص 49 ما نصه: فوقع عثمان في حيرة وغلب وطمع الدنيا على حماية دعوة التوحيد، ولعل الدعوة لم تكن قد رسخت في قلبه بعد، ولعله ما كان يعرف تلك النعم التي تنزل على من يقوم بنصرة الحق.
2 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثرها في العالم الإسلامي، تأليف محمد بن عبد الله بن سلمان السلمان الطبعة الأولى 1407هـ-الناشر مكتبة دار البخاري بريدة ص31-32.
أن يحمل ذلك الهدى الناصع، ويدلي بالحجة البينة، فيأخذ هذا الكتاب الإلهي بقوة بعد أن تتشربه نفسه وتعيشه جوارحه فيتحرك به وينطلق به طمعاً بالصفقة الرابحة التي ضمنها الله عز وجل، ولوح لطالبها بمغفرة الذنوب والرحمة في الحساب، فقال:
فمن يتحول من أرض إلى أرض في سبيل الله عز وجل يكرمه الله عز وجل، ويفسح له في صدره، ويوسع عليه رزقه، ويمكن له في الأرض، ويذكر له في السماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "
…
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، فتحول الداعية إلى مكان يطمئن فيه على دعوته، وصبره وثباته أمام الفتن هو الذي يجعل الدين عزيزاً في نفسه، وبقدر عزته يكون تمسكه به، وهذا الدين من يطلبه يطلب الجنة، وينجو بنفسه من عذاب الله.. فهل لهذا المطلب أثمان يقدر بها في هذه الدنيا؟!
فالداعية الصادق يتخطى المصالح والرغائب الفانية، وإن جهده وبذله وعطاءه وبلاءه لله عز وجل، لا ينتظر من ورائه مغنماً عاجلاً، أو مصلحة وقتية، وإنما أجره مدخر مؤجل عند الله تعالى وهو الجنة، فإن عجل الله تعالى له المغنم مادة أو رياسة أو سيادة فإنما ذلك بتفضل من الله تعالى، وليس داخلاً في بيعته عز وجل.
ومن هنا فقد أخلص الشيخ نيته ووطن نفسه على طريق الابتلاء دون تمني ذلك، وقد وضع نصب عينيه قول نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم:"عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"1.
1 روضة الأفكار والأفهام ج 7، ظ2.