المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين - دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية

[أحمد بن عبد العزيز الحصين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين

- ‌الباب الثاني: الإسلام يتحدث عن ذاته بأبطاله في التاريخ

- ‌الباب الثالث: مفهوم البطولة في الإسلام

- ‌الباب الرابع: الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة المباركة

- ‌الفصل الأول: حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب ونشأته

- ‌الفصل الثاني: وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره

- ‌الباب الخامس: نماذج من منهجه في الدعوة إلى العقيدة السلفية

- ‌الفصل الأول: الأنموذج الأول حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌الفصل الثاني: الأنموذج الثاني فصل التوحيد ومايكفر الذنوب

- ‌الفصل الثالث: الأنموذج الثالث من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌الفصل الرابع: الأنموذج الرابع الخوف من الشرك

- ‌الفصل الخامس: الأنموذج الخامس الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌الفصل السادس: الأنموذج السادس تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌الباب السادس: فيما قاله أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب في إعتماده على الكتاب والسنة

- ‌الباب السابع: مؤلفات الإمام رحمه الله

- ‌الباب الثامن: طبيعة الدعوة

- ‌الباب التاسع: التمهيد للدعوة

- ‌الباب العاشر: نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال

- ‌الباب الحادي عشر: الدرعية والتلاحم العظيم بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود

- ‌الباب الثاني عشر: تأسيس الدولة السعودية الأولى

- ‌الباب الثالث عشر: الحملة المصرية على نجد

- ‌الباب الرابع عشر: تأسيس الدولة السعودية الثانية

- ‌الباب الخامس عشر: الإمام تركي بن عبد الله محرر نجد ومؤسس الدولة الثانية

- ‌الباب السادس عشر: الدولة السعودية الثالثة الحالية

- ‌الباب السابع عشر: شخصية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وخصائصه

- ‌الباب الثامن عشر: افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله

- ‌الفصل الأول: الفرية الأولى الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة

- ‌الفصل الثاني: الفرية الثانية زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب من الخوارج

- ‌الفصل الثالث: الفرية الثالثة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تكفير الناس

- ‌الفصل الرابع: الفرية الرابعة الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتقاض الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الخامس: الفرية الخامسة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب منع الإستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السادس: الفرية السادسة الإمام محمد بن عبد الوهاب هدم القباب على القبور ونهى عن شد الرحال لزيارتها

- ‌الفصل السابع: الفرية السابعة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إنكار كرامات الأولياء

- ‌الفصل الثامن: الفرية الثامنة زعمو أن حديث نجد قرن الشيطان

- ‌الفصل التاسع: الأدلة النبوية الصريحة على أن العراق مطلع الفتن وقرن الشيطان

- ‌الفصل العاشر: أقوال الصحابة على أن العراق مطلع قرن الشيطان

- ‌الفصل الحادي عشر: أقوال التابعين على أن العراق مطلع قرن الشيطان

- ‌الفصل الثاني عشر: أقوال الأئمة والمحدثين على أن العراق قرن الشيطان

- ‌الفصل الثالث عشر: الفرية التاسعة تسميتهم بالوهابية

- ‌الفصل الرابع عشر: الفرية العاشرة موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب من دولة الخلافة العثمانية

- ‌الباب التاسع عشر: موقف سليمان بن عبد الوهاب من دعوة أخيه الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌الباب العشرون: هل رجع سليمان بن عبد الوهاب عن ضلالته

- ‌الباب الواحد والعشرون: أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: الشام

- ‌الفصل الثاني: العراق

- ‌الفصل الثالث: اليمن

- ‌الفصل الرابع: مصر

- ‌الفصل الخامس: المغرب

- ‌الفصل السادس: الجزائر

- ‌الفصل السابع: ليبيا

- ‌الفصل الثامن: تونس

- ‌الفصل التاسع: السودان

- ‌الفصل العاشر: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب نبراس يقتدى بها

- ‌الباب الثاني والعشرون: وقفة مع أفكار المتصوفة

- ‌الباب الثالث والعشرون: الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الشرق والغرب عليه

- ‌الفصل الأول: ثناء علماء ومفكري الشرق

- ‌الفصل الثاني: ثناء علماء ومفكري الغرب

- ‌الباب الرابع والعشرون: الدعوة إلى الإسلام والحياة الطيبة في الدنيا ولأخرة

الفصل: ‌الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ، وقوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، ووصف عبده بالتكليم في قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ، وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وليس الإنباء كالإنباء.

ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال:{الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، قال:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه} ، وقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، وليس التعليم كالتعليم.

وهكذا وصف نفسه بالغضب فقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} . وليس الغضب كالغضب.

ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه، أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} وليس الاستواء كالاستواء.

ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} .

ص: 15

ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود: فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، نظائر هذا كثيرة.

فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته بخلقه.

فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى: كان معطلاً جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات.

ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات؛ بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.

ويتبين هذا (بأصلين) شريفين.

(ومثلين) مضروبين –ولله المثل الأعلى.

و (بخاتمة جامعة) .

والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب مع تعظيمه لشيخ الإسلام ابن تيمية ربما خالفه في بعض الفتاوى تجرداً عن التعصب، وميلاً إلى ما يعتقد بأنه أقرب إلى الصواب.

والشيخ رحمه الله أكرمه الله بحماية دعوته من المعارضين والمعاندين من المبتدعة، والذين يتعلقون بالقبور ويتوسلون بالمقبور ويتحمسون للذود عنها، والدفاع عنها إغراقاً في الجهالة وإمعاناً في سبل الضلالة.

ص: 16

فبعد أن وجد من المعارضة والمتعلقين بالأضرحة والقبور أمثال ابن عرير حاكم الأحساء، الذي كان في وقته له هيمنة ونفوذ رأي على بعض حكام نجد، والذي حرض حكام العيينة على إبعاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعارضته فيما يدعو إليه بعد كل هذا نزح من العيينه قاصداً الدرعية، فوصلها ونزل ضيفاً على محمد بن سعود، حاكم الدرعية وشرح له دعوته ومعارضة المعارضين فما كان من محمد بن سعود عليه رحمة الله إلا أن رحب به وعاهده على نصرة دين الله، والذب عنه، ونصرة التوحيد، وقد فوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب في اتخاذ الطرق الإسلامية في نشر الدعوة والدعوة إليه، فانطلقت الدعوة من بلد آمنة بعد أن اطمأن الشيخ على أن الدعوة ستنطلق بقوة وثبات، مؤيده من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فانطلقت الدعوة مؤيدة من إمارة الدرعية بزعامة الإمام محمد بن سعود فواكبها النصر تلو النصر، واتسعت الدائرة بفضل من الله وتوفيقه، حتى جاوزت نجداً ومدنها، وقراها إلى الحجاز وعسير، ومن ثم إلى بلاد العالم الإسلامي حتى أصبحت بحمد الله مثار الإعجاب والقناعة التامة في كثير من البلاد الإسلامية والعربية.

ويحسن أن أنقل لك أيها القارئ الكريم شيئاً من رسائل الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب تتعلق بتوحيد العبادة كتبها إلى أهل المغرب توضح حقيقة الدعوة وأدلتها الشرعية، والرد على من عارضها، قال قدر الله روحه ونور ضريحه:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له

ص: 17

(وأشهد) أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له (وأشهد) أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (أما بعد) فقد قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا وترك البدع، والتفرق والاختلاف فقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . والرسول قد أخر بأنه "أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع"، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"للتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال:"فمن"، وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي يا رسول الله، قال:"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".

إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات

ص: 18

وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العلم إلا ما كان خالصاً كمال قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} .

فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} ، فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ

ص: 19

فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل "يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحاد يعلمه إياها، ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حداً فيدخلهم الجنة". فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء.

وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.

وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان"، وهو صلى الله عليه وسلم حمى جنات التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه، ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب

ص: 20

الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} ، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع، إيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

فهذا هو الذي نعتقد وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له مالنا وعليه ما علينا.

ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.

وقد اطلع الشريف غالب حاكم مكة المكرمة وعلماؤها على ما كتبه الشيخ إلى الشريف وعلماء مكة المكرمة في بيان ما دعى إليه من توحيد الله وعبادته، وإنكار ما عليه الكثير من سواد المسلمين من تعلق بالقبور والمقبورين فأيدوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكتبوا ما يلي:

الحمد لله رب العالمين، نشهد -ونحن علماء مكة الواضعون خطوطنا واختامنا في هذا الرقيم- إن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب

ص: 21

رحمه الله تعالى ودعا إليه أمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقاً ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنه الكفر المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار، ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله، ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا الدين.

أشهد بذلك وكتبه الفقير إلى الله تعالى: "عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي مفتي مكة المكرمة" عفى عنه وغفر له، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله سبحانه "محمد صالح بن إبراهيم مفتي الشافعية بمكة" تاب الله عليه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "محمد بن محمد عربي البناني" مفتي المالكية بمكة المشرفة عفا الله عنه وأصلح شأنه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله "محمد بن أحمد المالكي" عفا الله عنه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "محمد بن يحيى مفتي الحنابلة بمكة المكرمة" عفى الله عنه آمين، أشهد بذلك وأنا الفقير إليه تعالى "عبد الحفيظ بن درويش العجيمي" عفا الله عنه، شهد بذلك "زين العابدين بن جمل الليل" شهد بذلك "علي بن محمد البيتي"، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "عبد الرحمن جمال" عفا الله عنه، شهد بذلك الفقير إلى الله تعالى "بشر بن هاشم الشافعي" عفا الله عنه.

الحمد لله رب العالمين أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله عز

ص: 22

وجل ونفي الشرك به، هو الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن ما وقع في مكة والمدينة سابقاً والشام ومصر وغيرها من البلدان من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر المبيح للدم والمال، وكل من لم يدخل في هذا الدين ويعمل بمقتضاه كما ذكر في هذا الكتاب فهو كافر بالله وباليوم الآخر، وكتبه "الشريف غالب بن مساعد" غفر الله له آمين "الشريف غالب".

ما حرر في هذا الجواب، من بديع النطق وفصل الخطاب، وما فيه من الأدلة الصحيحة الصريحة المستنبطة من الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين، نشهد بذلك ونعتقده ونحن علماء المدينة المنورة، وندين الله به، ونسأله تعالى الموت عليه، ونقول الحمد لله رب العالمين نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله عز وجل ونفي الشرك هو الدين الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب وإنما وقع في مكة والمدينة سابقاً والشام ومصر وغيرها من البلدان إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنها الكفر المبيح للدم والمال، وكل من لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويعتقده كما ذكر الإمام في هذا الكتاب فهو كافر بالله واليوم الآخر، والواجب على إمام المسلمين، وكافة المسلمين القيام بفرض الجهاد وقتال أهل الشرك والعناد.

وكل من خالف ما في هذا الكتاب من أهل مصر والشام والعراق، وكل من كان على دينهم الذي هم عليه الآن، فهو كافر مشرك من موقعه ويمكنه في ذلك إزالة ما عليه من الشرك والبدع وأن يجعل رايته بالنصر خافقة إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

ص: 23

أشهد بذلك، وأنا الفقير بن حسين بالروضة الشريفة.

وكتبه الفقير إليه عز شأنه "محمد صالح رضوان" شهد بذلك وكتبه "محمد بن إسماعيل" كتبه الفقير إلى الله عز شأنه حسن وعليه ختمهم.

وقد وجدت هذا الكتاب القيم (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب –سلفية لا وهابية) مؤلفاً ينبغي الاهتمام به والمشاركة في نشره وتعميم الفائدة منه، كما وجدته حافلاً بالبطولات والمواقف الإسلامية لأئمة الإسلام والمجاهدين، أولئك الأعلام الذين سجل التاريخ عقيدتهم الإسلامية التي تلقوها من كتاب الله العزيز، وسنة رسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالجملة فإن من أفضل القرب والجهاد في سبيل نصرة الإسلام طبع هذا الكتاب الجليل ومد يد العون لمؤلفه -جزاه الله أفضل الجزاء- وجعله من الدعاة المصلحين وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.

عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ

المستشار في الديوان الملكي

المملكة العربية السعودية -الرياض

ص: 24

‌الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين

المد والجزر في حياة المسلمين

إن ديننا الإسلامي الذي أعلن عن كماله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قرأ على الناس يوم عرفة قول الله تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

هذا الدين يجمع بين الحيوية التي لا نهاية لها، والنشاط الذي لا يدرك آخره، وقد استطاع أن يبني الإنسان الذي يترقى في الاستقامة والصلاح، ويقوى على مقاومة الانحراف والزيغ، ولما كان هذا الدين الإلهي العالمي خاتم، وكانت أمته هي آخر الأمم التي اختيرت لتبليغه للناس كافة، كان طبيعياً أن تمر في سيرها الطويل بمراحل عصيبة، وتواجه صراعات لم تواجهها أمة من الأمم، كل هذا لتمتحن في ذكائها وثباتها، وصلاحيتها للحياة، وبالفعل فقد ثبت نقلاً وعقلاً -والناس يشهدون- كيف استطاعت أمة الإسلام أن تخرج من جميع المعارك ظافرة منتصرة، وتغلب أبناؤها على جميع المشاكل والمؤثرات، والتقلبات التي لا تكاد تنتهي، ولا عجب في ذلك لأن الله تبارك وتعالى جعل في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم رجالاً ينقلون تعالميه إلى الحياة، ويعيدون للمسلمين الشباب والنشاط، ويثيرون فيهم كوامن القوة للقضاء على الأوضاع الفاسدة الطارئة، وهؤلاء الرجال لا يخلو منهم عصر من عصور الإسلام، ولا يوجد مثلهم في أمة من الأمم، وهذا من حفظ الله تعالى لدينه الذي قدر له أن يواكب الدنيا حتى نهايتها، وهو القائل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) .

ص: 15

ولو استعرضنا تاريخ الإسلام بشكل سريع من أول عهده حتى اليوم لوجدناه هدفاً لهجمات عنيفة، ومؤامرات خبيثة، لا تعرف الرفق، ولا ترضى إلا هدم بنيانه، ونسف أركانه، منها على سبيل المثال، الباطنية ومذاهبها، وهجوم التتار والصليبيين مروراً بتحرف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وظهور البدع، وتسرب الأعمال الشركية، وتفشي أعمال الجاهلية، وفتن الإلحاد والزندقة، ولكن الإسلام طوى هذه المحن وأهلها تحت جناحيه، فكانت كأمس الذاهب، وسحق إلى المعالي، وقام رجاله الأقناء بفضح المحرفين والمنحرفين، والمتآمرين، ونفضوا الغبار والخرافات بالدعوة، وصدعوا بالحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فشق الإسلام طريقه من جديد إلى أسماع القلوب، وفتح عقولاً في ميادين العلم والحكمة والحياة.

وقد ملك رجال الإسلام النوابغ الإيمان بالقوي، والسمو الروحي، والنزاهة عن الأغراض، والتفاني في خدمة الدعوة إلى الخير، فكانوا بهذه الصفات أشبال هذه الليوث التي قام الإسلام في عهده الأول على أكتافهم، والدارس لتاريخ المسلمين عامة، يرى أن حياتهم بين المد والجزر، فإذا أهملوا واجبهم الشرعي ضعف الإيمان في قلوبهم، ودب الوهن في أوصالهم، فتفرقاً طرائق قدداً، وذهبت ريحهم، ولم يستطيعوا مقاومة الفتنة، وأصبحوا كغثاء السيل، فإذا قيض الله تعالى لدينه مجدداً يدعو العباد إلى الخير، ويوقظهم من غفلتهم ويوجههم إلى الدين والعلم، وضح لهم الطريق، واستنار السبيل، وقامت الحجة، وراجت سوق الجنة، كل ذلك بتأثير العاملين المخلصين، وصدقهم وحسن تمثيلهم للإسلام،

ص: 16

ومعرفتهم بالأخطار الجارفة المحيطة بالأمة، وغيرتهم على إنقاذها من الأدواء الخلقية والاجتماعية

ويعلم الله عز وجل أن الأمة الإسلامية رأت أياماً حالكة السواد، ورياحاً هوجاً ربما لم ترها أمة من قبل ولا من بعد.، ولكن الله سلم.

لقد ظهرت المحن في حياة المسلمين، واختفت بفضل الله عز وجل، ثم بجهد الدعاة المصلحين، وقد تحطمت جميع الحركات الهدامة، والموجات العارمة من الشرور والمفاسد، ثم بقي الإسلام هو الإسلام كما أنزله الله عز وجل، ولقد رد أبناء الإسلام على مؤامرات الخوارج والمعتزلة والباطنية، وتصدوا لموجات الشر يوم أن "رمانا الشرق بدواهيه، وساق إلينا جيوش التتر تحط على بلدان الإسلام العامرة، كما تحط الجرد على الحقل الزاهر، فلا تدع من مظاهر العمران إلا ما يدع الجراد من البوار والخراب".

أبادت الممالك، وهدمت العروش، حتى بلغ هولاكو عرش الخليفة في بغداد، فذبح الخليفة وهدم العرش، وترك بغداد العظيمة حاضرة الدنيا خرائب وأطلالاً، ثم ساح في الأرض لا يرده شيء، وحسب الضعفاء أنها نهاية الإسلام، فإذا الإسلام يطوي أعداءه.. ويدخلهم في رحابه ويظللهم برايته، ويجعلهم جنداً له وأعوانا، وتنسى المصيبة حتى لا يدري اليوم أكثر الناس ما خبر التتار؟

ويوم القرامطة الذين هزموا جيوش بغداد، وعدوا على الحجاج فذبحوهم ذبح النعاج، واستلو الحجر الأسود، فمن يعرف اليوم ما قصة القرامطة؟ ومن يذكر القتلة الحشاشين من الباطنية، والوحوش السود من

ص: 17

أتباع صاحب الزنج؟ والمئات من أعداء الإسلام الكبار الذين كانوا أشد قوة وأعظم نكالاً، فلم يعد يدري خبرهم أحد؟ 1.

ولقد واجه عالمنا الإسلامي هجمات كثيرة، ما أن يشعر المسلمون بواحدة منها حتى يلجأوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيستمدوا من روح الإسلام قوة تقاوم هذا الزحف، وتجرفه إلى سلة المهملات في زاوية التاريخ، ولا ننسى أوربا يوم رمتنا بجيوشها الصليبية، فتصدى لها المسلمون، وانتهت الحروب الصليبية بهزيمة منكرة للكافرين، ونصر ساحق للمسلمين الذين انتزعوا معاقل الصليبيين، وقامت بعد ذلك قوة إسلامية ممثلة في الخلافة العثمانية2 التي ذبت عن حياض الإسلام قروناً كثيرة، وتوالت خطواتها من نصر إلى نصر حتى في قلب أوربا، كل ذلك بسبب اتباع دين الحق بإيمان وصدق، ثم دب في النفوس حب الدنيا وكراهية الموت، وأخلد الناس إلى الترف والدعة3، وتناسى أكثرهم واجبهم الديني، عندما جمع أعداء الإسلام فلولهم لتحقيق رغبتهم في تمزيق عالم الإسلام، واحتوائه، واستخدموا لهذا الغرض جميع الدسائس والمؤامرات، وعملوا بين صفوف المسلمين بالوقيعة، وإثارة

1 هتاف المجد –الشيخ علي الطنطاوي- الطبعة الأولى 1379هـ، صفحة ص 145، الناشر دار الدعوة –دمشق.

2 ظهرت دولة بني عثمان عام 699 هـ، 1300م، أشبة ما تكون بالدولة الأموية في جهادها وفتوحها وذلك في أول عهدها.

3 لقد دب في الأتراك داء الأمم من قبلهم: الحسد والبغضاء واستبداد الملوك وجورهم، وخيانة الأمراء وغشهم للأمة، وأصيبوا كذلك بداء الجمود في العلم والصناعة وتنظيم الجيوش.

ص: 18

الاختلافات من خلال الجمعيات والإرساليات، وأذكوا القوميات، وزرعوا الأحقاد بين العناصر في الدولة الإسلامية الواحدة، كل ذلك للوصول إلى هدفهم في ضرب معاقل الإسلام، وتمزيق أمته، وبدأ العد التنازلي لدولة الخلافة بعد أن وصلت إلى ذروة مجدها، ودب الضعف في أوصالها، وتنفس الشيطان من جديد في ربوع العالم الإسلامي بغياب العلم النافع والوعي السياسي، فتفشى الاستبداد لدى الوزراء، ورؤساء الجيش الإنكشاري الذين لا يعرفون عن السياسة شيئاً، وفوق ذلك فقد انشغل السلاطين بالملذات، وأهملوا شؤون العامة، واهتموا بأمورهم الشخصية، وأساء ولات الأمور في أقاليم الخلافة الواسعة إداراتهم، ولم يهتموا بواجبهم تجاه الشعوب الإسلامية.

ومما زاد الحال سوءاً التدهور العسكري، وتألب الدول الأوربية على دولة الخلافة الإسلامية، والتخطيط للاستيلاء على بلاد المسلمين، وتيقن الصليبيون أن عوامل الضعف دبت في صفوف المسلمين في الداخل وعلى الحدود، ومن هنا فقد عم الانحراف السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب الانحراف، عن تعاليم الدين الحق، والعقيدة الصحيحة يقول العالم الأمريكي "لوثروب ستودارد" عن الحالة التي وصل إليها الدين عند أهل ذلك الزمان:

"وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة "صلى الله عليه وسلم" الناس أستاراً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت (أكثر) المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعاء

ص: 19

الجهلاء

يوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من أصحاب القبور1".

وبما أن (نجد) بقعة من العالم الإسلامي فقد أصابها ما أصابه، وجرفها تيار الانحراف عن الدين الإسلامي الصحيح، من شرك وبدع وخرافات.

وبالرغم من هذا التدهور، فإن الشعوب الإسلامية لا تعدم من توجد عنده الرغبة الصادقة في إصلاح هذا الفساد، تحقيقاً لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" 2، عند ذلك طلعت شمس الهدى والرشد من واد غير ذي زرع، ورمال الأرض العربية التي كانت قد اشتهرت بطيب العرار والخزامي قد فاح فيها طيب التوحيد من جديد، وعلت كلمة الحق حتى عطرت العالم بأسره، تنادي بالعودة إلى الإسلام ويسره، والاستمداد من نبعه الصافي، فتدلى الثمر وطاب بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ابن نجد من جزيرة العرب، هذه البقعة الواسعة التي تغنى بها الشعراء وذكرها المحدثون، لما لها من مكانة خلدتها في نفوس البشر الأدباء والمؤرخين أحداث وأحداث

ولم يذكر الشعراء موضعاً

1 رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –تأليف محمد بن عبد الله السلمان ص 31. مطابع دار طيبة –الرياض.

وانظر أيضاً: حاضر العالم الإسلامي (ترجمة عجاج نويهض) 4-ص34.

2 حديث صحيح رواه أبو داود والحاكم.

ص: 20

أكثر مما ذكروا نجداً1 وتشرقوا إليها، وقالوا فيها أعذب وأمتع المعاني التي تزكى الأحاسيس وتطرب النفس.

وإليك ما قاله أحد الأعراب:

أكرر طرفي نحو نجد وإنني

إليها وإن لم يدرك الطرف أنظر

حنيناً إلى أرض كان ترابها

إذا أمطرت عود ومسك وعنبر

بلاد كأن الأقحوان بروضه

ونور الأقاحيس وشيء برد محبر

أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي

خيام بنجد دونها الطرف يقصر

وما نظري من نحو نجد بنافع

أجل ولكني إلى ذاك أنظر

1 ليس من السهل فهم جغرافية العرب وخاصة نجد، لأنه لا يوجد هناك تقسيم قبل هذا العصر للولايات والإمارات، وبالإجمال فإن نجد منقسمة إلى ثلاث نواح كبيرة:

1-

الناحية الشمالية الغربية وتسمى شجرون، مدنها الشهيرة: حائل-والقصر.

2-

الناحية الشمالية الشرقية وتسمى القصيم، ومن مدنها الشهيرة: عنيزة –بردية.

3-

الناحية الجنوبية وتسمى العارض، ومن أشهر بلادها الرياض، وتسمى ناحية العارض (بجبل اليمامة) أيضاً، وهذا في الأصل اسم للجبل والناحية التي تقع حولها تسمى (وادي حنيفة) أو "اليمامة" وتقع مدينة العينية مسقط رأس الشيخ محمد، والدرعية مركز دعوته في هذا الوادي، وهي كالقلب في نجد: للمزيد من التفاصيل راجع دائرة المعارف الإسلامية ج3 ص893-96..

ص: 21

أفي كل يوم نظرة ثم عبرة

لعينيك مجرى مائها يتحدر

متى يستريح القلب إما مجاور

بحرب وإما نازح يتذكر1

وقال أعرابي آخر:

رأيت بروقاً داعيات إلى الهوى

فبشرت نفسي أن نجداً أشيمها

ألا حبذا نجد ومجرى جنوبه

إذا طاب من برد العشي نسيمها

وقال أعرابي آخر:

ألا يا أيها البرق الذي بات يرتقي

ويجلو ذرى الظلماء ذكرتني نجدا

ألم تر أن الليل يقصر طوله

بنجد وتزداد الرياح به بردا

وقال نوح بن جرير بن الخطفي:

ألا قد أرى أن المنايا تصيبني

فمالي عنهن انصراف ولا بد

1 معجم البلدان –ياقوت الحموي ج5 ص262.

ص: 22

فذا العرش لا تجعل ببغداد منيتي

ولكن بنجد حبذا بلداً نجد

بلاد نأت عنها البراغيت والتقى

بها العين والآرام والعفر والربد

وقدم بعض أهل هجر إلى بغداد فاستوبأها وقال:

أرى الريف يدنو كل يوم وليلة

وازداد من نجد وصاحبه بعدا

ألا أن بغداد بلاد بغيضة

إلي وإن كانت معيشتها رغد

بلاد تهب الريح فيها مريضة

وتزداد خبثاً حين تمطر أو تندى1

وقال آخر:

فيا حبذا نجد وطيب ترابه

إذا هضبته بالعشي هواضبه

وريح صبا نجد إذا تنسمت

ضحى أو سرت جنح الظلام جنائبه

1 جريدة أم القرى العدد (8) 5/7/1343هـ الموافق 30/1/1924م.

ص: 23

وأشهد لا أنساه ما عشت ساعة

وما إنجاب ليل عن نهار يعاقبه

ولا زال هذا القلب مسكن لوعة

يذكراه حتى يترك الماء شاربه1

1 حلم في نجد.. علي الطنطاوي ص 24.

ص: 24