المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره - دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية

[أحمد بن عبد العزيز الحصين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين

- ‌الباب الثاني: الإسلام يتحدث عن ذاته بأبطاله في التاريخ

- ‌الباب الثالث: مفهوم البطولة في الإسلام

- ‌الباب الرابع: الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة المباركة

- ‌الفصل الأول: حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب ونشأته

- ‌الفصل الثاني: وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره

- ‌الباب الخامس: نماذج من منهجه في الدعوة إلى العقيدة السلفية

- ‌الفصل الأول: الأنموذج الأول حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌الفصل الثاني: الأنموذج الثاني فصل التوحيد ومايكفر الذنوب

- ‌الفصل الثالث: الأنموذج الثالث من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌الفصل الرابع: الأنموذج الرابع الخوف من الشرك

- ‌الفصل الخامس: الأنموذج الخامس الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌الفصل السادس: الأنموذج السادس تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌الباب السادس: فيما قاله أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب في إعتماده على الكتاب والسنة

- ‌الباب السابع: مؤلفات الإمام رحمه الله

- ‌الباب الثامن: طبيعة الدعوة

- ‌الباب التاسع: التمهيد للدعوة

- ‌الباب العاشر: نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال

- ‌الباب الحادي عشر: الدرعية والتلاحم العظيم بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود

- ‌الباب الثاني عشر: تأسيس الدولة السعودية الأولى

- ‌الباب الثالث عشر: الحملة المصرية على نجد

- ‌الباب الرابع عشر: تأسيس الدولة السعودية الثانية

- ‌الباب الخامس عشر: الإمام تركي بن عبد الله محرر نجد ومؤسس الدولة الثانية

- ‌الباب السادس عشر: الدولة السعودية الثالثة الحالية

- ‌الباب السابع عشر: شخصية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وخصائصه

- ‌الباب الثامن عشر: افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله

- ‌الفصل الأول: الفرية الأولى الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة

- ‌الفصل الثاني: الفرية الثانية زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب من الخوارج

- ‌الفصل الثالث: الفرية الثالثة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تكفير الناس

- ‌الفصل الرابع: الفرية الرابعة الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتقاض الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الخامس: الفرية الخامسة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب منع الإستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السادس: الفرية السادسة الإمام محمد بن عبد الوهاب هدم القباب على القبور ونهى عن شد الرحال لزيارتها

- ‌الفصل السابع: الفرية السابعة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إنكار كرامات الأولياء

- ‌الفصل الثامن: الفرية الثامنة زعمو أن حديث نجد قرن الشيطان

- ‌الفصل التاسع: الأدلة النبوية الصريحة على أن العراق مطلع الفتن وقرن الشيطان

- ‌الفصل العاشر: أقوال الصحابة على أن العراق مطلع قرن الشيطان

- ‌الفصل الحادي عشر: أقوال التابعين على أن العراق مطلع قرن الشيطان

- ‌الفصل الثاني عشر: أقوال الأئمة والمحدثين على أن العراق قرن الشيطان

- ‌الفصل الثالث عشر: الفرية التاسعة تسميتهم بالوهابية

- ‌الفصل الرابع عشر: الفرية العاشرة موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب من دولة الخلافة العثمانية

- ‌الباب التاسع عشر: موقف سليمان بن عبد الوهاب من دعوة أخيه الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌الباب العشرون: هل رجع سليمان بن عبد الوهاب عن ضلالته

- ‌الباب الواحد والعشرون: أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: الشام

- ‌الفصل الثاني: العراق

- ‌الفصل الثالث: اليمن

- ‌الفصل الرابع: مصر

- ‌الفصل الخامس: المغرب

- ‌الفصل السادس: الجزائر

- ‌الفصل السابع: ليبيا

- ‌الفصل الثامن: تونس

- ‌الفصل التاسع: السودان

- ‌الفصل العاشر: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب نبراس يقتدى بها

- ‌الباب الثاني والعشرون: وقفة مع أفكار المتصوفة

- ‌الباب الثالث والعشرون: الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الشرق والغرب عليه

- ‌الفصل الأول: ثناء علماء ومفكري الشرق

- ‌الفصل الثاني: ثناء علماء ومفكري الغرب

- ‌الباب الرابع والعشرون: الدعوة إلى الإسلام والحياة الطيبة في الدنيا ولأخرة

الفصل: ‌الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره

‌الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره

عقيدة الإمام وفكره

عقيدة الشيخ هي عقيدة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، عقيدة أئمة الهدى، أبي حنيفة، والشافعي ومالك وأحمد وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك والبخاري ومسلم وأبي داود، وسائر أهل السنن وأهل الفقه والأثر كالأشعري وابن خزيمة وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير رحمهم الله تعالى يقول رحمه الله:

ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خلافها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق1.

ولقد أسس فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على تصحيح العقيدة الإسلامية وتطهيرها مما علق بها، بهدف تنظيم العلاقة بين الله تبارك وتعالى وبين الإنسان، بحيث يعترف هذا الإنسان الضعيف الفاني بسلطان الله عز وجل في جميع الأمور، فلا يلتفت إلا إليه، ولا يتعلق إلا به، ولا يرجو سواه تبارك وتعالى، وبهذا يعود بالإسلام إلى ما كان عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وذلك من طريق تركيز النشاط الإنساني للقيام بتطبيق أحكام الإسلام

1 محمد بن عبد الوهاب –القسم الخامس في الرسائل الشخصية: الرسالة الخامسة والثلاثون ص 252، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب –الرياض- بدون تاريخ.

ص: 84

وحدوده وشعائره الظاهرة والباطنة، وإقامة مجتمع متكامل يؤمن بالإسلام الحق عقيدة وعبادة ومنهج حياة، ويعتمد في كل ما يأتي أو يدع على القرآن الكريم الذي هو كلام الله عز وجل والسنة النبوية التي فيها أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، ثم الآثار الصحيحة للصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أجمعين.

يقول، رحمه الله:

"إذا بانت لنا سنة صحيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدرونا أجل وأعظم من أن نقدم عليه قول أحد، فهذا الذي نعتقد وندين الله به"1.

"وقد عمل رحمه الله تعالى جاهداً طوال حياته أن تصرف جميع أنواع العبادات لله وحده لا شريك له، وإثبات الكمال المطلق لله عز وجل، وإفراده بالعبادة، ونفي التشبيه والمثال عنه جل وعلا ومنع التوسل2 والاستغاثة3 بغيره، سبحانه وتعالى".

ومجمل القول، فقد اتسم فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالشمول والعمق

1 المصدر السابق ص 252.

2 التوسل المقر لدى أهل السنة والجماعة هو مراعاة سبيل الله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو الاستسقاء به حال حياته وثبت بغيره من الصالحين الأحياء.

3 يجوز الاستغاثة بالمخلوق في الأمور الداخلية في عدد الأعمال البشرية التي يطيقها الإنسان، والذي يسمع نداءك إذا دعوته لحاجتك.

وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله بحث حول منع طلب الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته في الدرر السنية الجزء التاسع ص 301.

ص: 85

في مجال التطبيق العملي، والممارسة السلوكية في شؤون الحياة والاجتماع، بالإضافة إلى كشف كل زيغ وانحراف، ونفض الغبار الذي علق على المفاهيم الصحيحة لتعاليم الإسلام، ولقد كان رحمه الله تعالى إلى جانب شخصيته الوعظية المضيئة يتلهف لإقامة دولة إسلامية قادرة على تحمل مسؤوليات الوازع والراد، فكان للشيخ محمد رحمه الله تعالى فضل الإنجاز والإخراج والريادة للدولة الإسلامية المباركة في جزيرة العرب.

ولقد جمع الله تبارك وتعالى لعبده محمد بن عبد الوهاب موهبة القيادة وصفات الزعامة الدينية لدعوة جددت حياة المسلمين، وتجازوت حدودها إلى آفاق وأبعاد واسعة، تم ذلك بفضل الله تعالى، ثم جهاد الشيخ رحمه الله تعالى، ومن معه من المخلصين ضد الشرك بجميع أشكاله وألوانه، وضد البدع والخرافات والانحطاط، ثم أقام وفي فترة وجيزة كياناً إسلامياً استوعب نظريات الدولة الحديثة، وأجمع فيها النشاذ وأرسى فيها القواعد الثابتة، لتكون أقدر على المواجهة وتحمل العبء الثقيل والأمانة الكبرى لما يستقبل من الأيام.

ولقد غيرت حركة الشيخ وفق المنهج الإلهي وجه الجزيرة العربية تغييراً أساسياً مذهلاً. وكان الشيخ رحمه الله تعالى رائدها الأمين وواضع خطط الإصلاح العملي الذي تمثل في جلسات وندوات للحديث حول العقيدة وأحوال المجتمع، يصحب ذلك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحسنى والموعظة الحسنة بأسلوب وقور، وأخلاق رفيعة، وكلمات وادعة تنبض بالحياة والحياء والوضوح والأصالة، ولاعتماده رحمه الله تعالى على أساسين كبيرين هما: التوحيد الخالص، والدعوة إلى الاجتهاد المشروع، وبهذين

ص: 86

الأساسيين أسبغ على أتباعه من بعده روحاً متألفة جديدة، ورأياً سديداً فرض احترامه على الموالين والمجافين.

يقول محمد جميل:

"دعا محمد بن عبد الوهاب معتمداً على القرآن، إلى شريعة بيضاء نقية، كما تركها محمد صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الغلو في تقديس الأنبياء والأولياء"1.

ويكفيك أخي القارئ أن تفتح على سبيل المثال "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، لترى كيف أن هذا الكتاب الصغير في حجمه اشتمل على أمهات المسائل، وتفوق على أكبر الموسوعات التي جمعت فيها كل النصوص، وقد نسج الشيخ رحمه الله تعالى في جميع رسائله على هذا المنوال، وكلها تنادي المسلمين بالعودة إلى يسر الإسلام ونبعه الصافي، كما تدعوهم إلى تطهير شامل للفكر الإسلامي العام الذي أدخل عليه ما ليس منه إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل -والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون- فقد حرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى العقل الإسلام من قيوده الثقيلة، وأطلقه من معتقلاته الموروثة عن الجاهلية، وانتشله من أعمال الهوان الوثني والجمود والتقليد، وأيقظ "رحمه الله" أحساسيس ومشاعر المسلمين من سباتهم الثقيل، وكان "وجوده رحمه الله" لا يقدر بثمن على جميع المسلمين في العالم حيث بعثت هذه الدعوة المباركة في كثير من المسلمين روح التحرر من لوثات الوثنية وضرورة إقامة المعركة بين الإيمان والشيطان، وألهمت هذه الدعوة عدداً لا يستهان به في أنحاء المعمورة من المفكرين المسلمين مواقف إيجابية كان لها أطيب الأثر في إيقاظ

1 الحلقة المفقودة في تاريخ العرب، تحت عنوان "آل سعود في حكم آل عثمان".

ص: 87

الهمم، حتى انبعثت صيحات الحق من هنا وهناك تهتف: شعارنا الوحيد إلى الإسلام من جديد، وهكذا كانت أفكار الشيخ رحمه الله تعالى، والتي تأسست على التقوى من أول يوم قائمة على التوحيد والدين الخالص، وهذا أقوى عوامل المقاومة الجهادية التي أرغمت النفوذ المنحرف والدعوات الهدامة والتقليد الأعمى.

وهذه رسالة موجهة إلى أهل القصيم1 يشرح فيها عقيدته السلفية المباركة قال رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى) ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أصرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كيف، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وأصدق من أهل التحريف والتعطيل فقال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات) ، فالفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين

1 تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعدد غزوات ذوي الإسلام، ط 3-شركة الصفحات الذهبية –الرياض 1403هـ- تحقيق ناصر الدين الأمد، ص170-178.

ص: 88

القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود: وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على صفيه ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عبده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا تحيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، واعتقد لكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ما يكون بعد الموت، وأؤمن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون) ، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا كما قال الله تعالى:

{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الانبياء)، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} (البقرة) .

وهو لا يرضى إلا التوحيد ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم في الشفاعة نصيب، كما قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر) .

وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأؤمن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد

ص: 89

حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر) .

وأن أترض عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء وأقر بكرامات الأولياء إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئاً، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنبه، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة وجبت طاعته؛ وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتولوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل أسرارهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة، وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان هو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الظاهرة، فهذه عقيدة وجيزة حررتها لتطلعوا على ما عندي والله على ما أقول شهيد.

ص: 90

وسئل رحمه الله عن معنى "لا إله إلا الله"، فأجاب يقول:

(اعلم رحمك الله أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه لعلهم يرجعون، وليس المراد بقولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد بقولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض ما خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً

" وفي رواية: "صادقاً من قلبه" وفي حديث آخر: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله"

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة. فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات حتى محمد صلى الله عليه وسلم حتى جبريل، فضلاً عن غيرهما من الأولياء الصالحين، إذا فهمت ذلك فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله ونفيتها عن محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وغيرهما أن يكون لهم منها مثقال حبة خردل، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي يسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر وهو الذي يسمونه الفقراء الشيخ، ويسميه العامة السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله، فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم الذين يسمونهم الأولون الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط، وإذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة فذلك بأمرين:

الأول: أن تعرف أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم وغنم أموالهم

ص: 91

واستحل نساءهم، كانوا يقرون لله سبحانه بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وهذه مسأله عظيمة مهمة، وهي أن تعرف أن الكفار شاهدون بهذا كله ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم، وكانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون، ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات.

ولكن الأمر الثاني: هو الذي كفرهم وأحل دماءهم وأموالهم، وهو أنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وهو أنه لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن استعان بغيره فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر، وأشباه ذلك، وتمام هذا أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزير وغيرهم من الأولياء، وكفروا بهذا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر.

إذا عرفت هذا عرفت معنى لا إله إلا الله، وعرفت أن من ناجى نبياً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل من المشركين نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم، وندخل عليهم ونستغيث بهم بتلك الوجاهة والشفاعة، وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر، فكل كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيراً والملائكة والأولياء يريدون ذلك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

ص: 92

زُلْفَى} (الزمر: 3)، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس:18) . فإذا تأملت هذا تأملاً جيداً عرفت أن الكفار يشهدون بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق والرزق والتدبير، فهم يناجون عيسى والملائكة والأولياء، يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله.

ويشفعون لهم عند الله، وعرفت أن الكفار خصوصاً النصارى من يعبد الله الليل والنهار، ويزهد في الدنيا ويتصدق بما دخل عليه منها معتزلاً في صومعة عن الناس، ومع هذا هو كافر عدو الله مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه ويذبح له وينذر له، فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليه نبيك صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ"، فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم وأوله وآخره، ورأسه وشهادة أن لا إله إلا الله واعرفوا معناها وأحبوها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم وأبغضوهم وأبغضوا من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم، وقال ما على منهم أو قال ما كلفني بهم فقد كذب على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله، تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم ولا تشركون به شيئاً، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.. ولنختتم كلامنا بآية ذكرها الله في كتابه تبين أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفراً من الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء) .

فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة

ص: 93

والمشائخ فلم يدعوا أحداً منهم، ولم يستغيثوا به بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، واستعانوا به وحده، فإذا جاء الرخاء أشركوا، وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة إذا مسه الشر قام يستغيث بغير الله، مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء زيد بن الخطاب والزبير، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويوسف وأمثالهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذه رسالة أخرى إلى أهل المغرب يقول فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فقد قال الله تعالى:

فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) .

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) .

ص: 94

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) .

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

فأخبر سبحانه وتعالى أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف فقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:3)، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) .

والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ ما أخذت الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال:"فمن؟ " وأخبر في الحديث الآخر أنه ستفترق أمته على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".

وإذا عرف هذا فمعلوم ما جئتم به من حوادث الأمور التي أعظمت الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات وكذلك التقرب إليهم بالزيارة وذبح القربات، والاستغانة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي لا تصح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادات لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل

ص: 95

من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه. وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه:{لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) .

وأخيراً أن من جعل بينه وبين الله وسائط برسم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك به وإذا كانت الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} .

فلا يشفع عنده إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:109)، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) .

وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106) .

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذنه ولا يشفع إبتداء بل يأتي فيخر لله ساجداً فيحمد إنعامه بمحامد نعمه إياماً، فيقول له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع ثم يحد له حدائد يدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء.

وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من المسلمين، قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.

ص: 96

وما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل الصدقة والنذر لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها صلى الله عليه وسلم وحذر أمته منها وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد أقوام من أمتي الأوثان"، وهو صلى الله عليه وسلم حمى حماية الدين وحمى جانب التوحيد أعظم حماية ووسم كل طريق موصل إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر، ويبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من طريق جابر، وثبت فيه لفظاً أنه بعث علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه ولا عالياً إلا طمسه ولذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل الأمر إلى أن قاتلونا وكفرونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39)، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد:25)، إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41) .

ص: 97

فهذا الذي نعتقد وندين لله به، فمن عمل ذلك فهو أخونا المسلم له مالنا وعليه ما علينا.

ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك، وصلى الله على محمد.

ويقول عن حقيقة دعوته في رسالة "لعبد الرحمن بن عبد الله السويدي"، أحد علماء العراق:

أخبرك أني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة1.

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه2.

1 مجموعة مؤلفات الشيخ "الرسائل الشخصية" ج5 ص 36.

2 انظر مجموعة رسائل المسائل النجدية ج1 ص 1344 مصر، ج3 ص367.

ص: 98

ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن1 [282هـ-1367] في رسالة أرسلها إلى أهل الحجاز وعسير واليمن يبين ما قام به الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه:

"اعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهدهم عليهم هو دين الإسلام الذي أوجبه الله تعالى على عباده، وهو حقه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهم

ونأمر بهدم القباب ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره، ونأمر بإقام الصلاة جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها وترك الحضور في المسجد، ونلزم ببقية شرائع الإسلام كالزكاة والصوم والحج للقادر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وننهى عن الربا والزنا وشرب الخمر، وعن لبس الحرير للرجال، وننهي عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام. وبالجملة فإنا نأمر بما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله [عنه] ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحل إلا ما أحل الله، فهذا الذي ندعوا إليه، ومن كان قصده الحق ومراده الخير والدخول فيه، التزم ما ذكرنا وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا وعليه ما علينا2.

1 ولد في الرياض سنة 1282هـ تولى القضاء، ورحل إلى عسير داعياً إلى الله، توفي 1367 هـ، من مشاهير علماء نجد ص 146.

2 انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية. ط (2) المكتب الهلالي –لبنان- 1385هـ ص290.

ص: 99

وهذه رسالة موجهة إلى كافة المسلمين، يشرح فيها عقيدته:

من محمد بن عبد الوهاب إلى من تصل إليه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وبعد، أخبركم أني -ولله الحمد- عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خلاف عادة نشأوا عليها.

وأيضاً ألزمت نفسي ومن تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله. ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنقول:

التوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام، بل أكثر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ

ص: 100

وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبيا مرسلاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن اتبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى أو الملائكة واستنصرهم والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو.

وهذه جملة لها بسط طويل، ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف، أعني على الداعين.

وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم، وبين أهل العلم في أمثال هذا أنه هو الشرك الأكبر وعبادة الأصنام، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر.

والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا

ص: 101

يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.

واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله. قال الله تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية.

واعلم أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً. وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن، والأراضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.

فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 102

يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقرون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم منهم من يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم، ويدعوا رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى -وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} ، الآية. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله- وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب لله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم -عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.

وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد

ص: 103

لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبيا، أو ولياً أو شجرة، أو قبراً أو جنياً، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله. والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .

فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من معنى هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.

فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال فيه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس اليوم فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى الفرح بفضل الله ورحمته، قال الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله، كما ظن المشركون خصوصاً إن ألهمك الله ما قص

ص: 104

عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم طلبوا منه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة} ، فحينئذ يعظم خوفط وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.

واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .

فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى:{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، ولكن إن أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف ولا تحزن:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، فجنده هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان. وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ

ص: 105

تَفْسِيراً} ، قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.

والحاصل أن كل ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وما أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين، فإني لم بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية، وقوله:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} ، وقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} الآية، وغير ذلك قالوا: لا يجوز العمل لنا ولا لمثلنا بكلام الله ولا بكلام الرسول ولا بكلام المتكلمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.

ولما قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبو ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله. وذكر كل ما قالوا بعدم تصريح الدعوة عند القبور والنذر لها، فعرفوا ذلك وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفوراً.

أما التكفير: فإني أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأئمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكناً، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة سيئة مثلها، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه.

ص: 106

فإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى، والله اعلم1.

1 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد، ط5، مكتبة الإمام الشافعي –الرياض 1408هـ ص2-8.

ص: 107