الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي عشر: الدرعية والتلاحم العظيم بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود
…
الدرعية 1 والتلاحم العظيم بين
الإمام محمد بن عبد الوهاب
والأمير محمد بن سعود
وسار رجل التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من العيينة إلى الدرعية تطوعاً لدعوته التي لا يجد طمأنينة حيالها، ولا راحة إلا حيث تستقر وتلقى الرحب والسعة.
ومن عجائب نقائض الحياة واختلاف الناس أن العيينة قالت للشيخ على لسان أميرها المأمور: إن سليمان أمرنا بقتلك، ولا نقدر على غضبه، ولا مخالفة أمره، لأنه لا طاقة لنا بحربه، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلادنا، فشأنك ونفسك، وعلى العكس من العيينة التي شهرت سلاحها لقتل الشيخ استقبلته الدرعية وهي جذلانة طروب يتنافس رجالها على إكرامه، ووصل هناك وقت العصر.
يقول ابن بشر:
"إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد قدومه إلى "الدرعية" نزل عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم، وابن عمه حمد بن سويلم، فلما دخل على ابن سويلم ضاقت عليه داره خوفاً على نفسه من محمد بن سعود، فوعظه الشيخ وسكن جأشه، وقال: "سيجعل الله لنا ولكم فرجاً ومخرجاً، فعلم به الخاصة من أهل
1 الدرعية تقع شمال الرياض على بعد (10) كم.
الدرعية فزاروه خفية، فقرر لهم التوحيد، فراودوه أن يخبروا محمد بن سعود1 ويشيروا عليه بنزوله عنده ونصرته فهابوه، وأتوا إلى زوجته وأخيه ثنيان الضرير، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبروهما بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبيهما معرفة التوحيد، وقذف الله في قلبيهما محبة الشيخ، فلما دخل محمد بن سعود على زوجته أخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به، فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشارا عليه مساعدته ونصرته، فقذف الله في قلب محمد محبة الشيخ ومحبة ما دعا إليه، فأراد أن يرسل إليه، فقالوا لو: لو تسير إليه برجلك وتظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس ويعلموا أنه عندك مكرم. فسار إليه محمد بن سعود ودخل عليه في بيت ابن سويلم فرحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وبالعز والمنعة، فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم البعض، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك2.3
1 آل سعود: من عشيرة عنزة من قبائل ربيعة، من حفدة بكر بن وائل، ولربيعة فروعها في نجد والعراق والشام، وكان جدهم مانع بن السب المريدي يقطن بلدة القطيف، وتربطه لحمة نسب بابن درع صاحب حجر اليمامة.
2 انظر ابن بشر ج1 ص41-50.
3 يذكر الدكتور عبد الله العثيمين أن الدكتور منير العجلاني قد ضعف من هذه الرواية، ورجح أن يكون انتقال الشيخ إلى الدرعية بدعوة من الأمير محمد بن سعود، مؤيداً كلامه بما نقله عن المؤرخ الفرنسي مانجان من أن الأمير محمد بن سعود قد دعا الشيخ إلى الدرعية، ويذكر ابن عثيمين أنه قد عثر على أوراق بخط المؤرخ النجدي ابن لعيون ذكر فيها أن الشيخ محمد قد انتقل إلى الدرعية بدعوة من الأمير محمد بن سعود.. انظر تاريخ المملكة العربية السعودية ج1 ص83-84.
فلما شرح الله صدر محمد بن سعود لذلك وتقرر عنده، طلب من الشيخ المبايعة على ذلك، فبايع الشيخ على ذلك، وأن الدم بالدم والهدم بالهدم، وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله، إلا أن محمد بن سعود شرط مبايعته للشيخ ألا يتعرض له فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه أمراء البلدان على رعاياهم، فأجابه الشيخ على ذلك، رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه، فكان الأمر كذلك، ووسع الله عليهم بأسرع ما يكون1.
وكان الإمام محمد بن عبد الوهاب هو المرجع في مدينة الدرعية.
يقول ابن بشر:
"إن الشيخ كان له الرأي الأول في الدولة الفتية، فلم يكن الأمير محمد بن سعود ولا ابنه عبد العزيز يصدران أمراً دون موافقته.
وكان يرجع إليه في كل أمور الدين التي تنظم كافة جوانب الحياة في الدولة2.
ويقول أيضاً:
"كانت الأخماس والزكاة وما يجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها تدفع إليه يضعها حيث يشاء، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره، فبيده الحل والقصد والأخذ والإعطاء والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه".
1 انظر ابن بشر ج1 ص42-43.
2 انظر ابن بشر ج1 ص46.
وهكذا تمت البيعة1 بين الإمام والأمير رحمهما الله تعالى، وأينع الصبر وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة، وأخذ يستوي على سوقه ليعطي الغلال الطيبة، ويبنشئ مداً إسلامياً زاخراً عظيماً ينتشر في العالم، وتتساقط أمامه معاقل البدع، وتتهاوى بين يديه الأنصاب والأزلام، وتذوب من حوله القيم الزائفة المصطنعة. جاءت هذه الثمار من خارج العيينة، وهذا في الواقع من الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يد العناية الإلهية تحوط حياة الدعوة وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري، لأن الدعوة إلى الإسلام جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، وقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه بهدى النبي صلى الله عليه وسلم وصنع ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره في بيعة العقبة، واستعمل الصيغة النبوية نفسها، وهذا يدل على شدة العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كانت البيعة بين الإمام والأمير نقطة تحول هامة في تاريخ الدعوة، وفي حياة نجد الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وفي تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة.
وبقي الشيخ رحمه الله في الدرعية سنتين يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان يرسل برسائله ومناظراته إلى أهل البلدان المجاورة ورؤسائهم
1 يذكرنا القول ببيعة العقبة الكبرى كما جاء في الصحيح عن ابن إسحاق وابن هشام وأحمد وابن جرير وفيه: "أن أبو هيثم بن الثنيان قال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال -يعني اليهود في المدينة- حبالاً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".
وعلمائهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من أبى وعارض، ولكن لم يستمر الحال على ذلك طويلاً، فقد قام أولئك المعارضون على الشيخ ودعوته بالعدوان، وأعلنوا تكفير الشيخ وأتباعه، وإباحة دمائهم، فأمر الشيخ حينئذ أتباعه بالجهاد دفاعاً عن النفس أمام أولئك المعارضين من ناحية، وكسر الطوق وإزاحة الحجر العثرة أمام نشر هذه الدعوة من ناحية أخرى، فانتقلت الدعوة بذلك إلى مرحلة جديدة ثالثة، هي (مرحلة الجهاد لحمل الناس على الحق) ، وتهيئة الجو الصالح لنشر الدعوة والعودة بالمسلمين إلى منهج الله وشرعه، واتباعه عقيدة ومنهج حياة1 لأن الله تبارك وتعالى قرر في كتابه العزيز أن المبادئ لا تعيش بغير قوة تساندها، والإسلام ذلك الوحي الإلهي جاء ليكون هو النظام القائم على الأرض كلها، فلا بد من قوة ينطلق بها في آفاق الأرض لتحرير الإنسان من عبوديته لغير الله عز وجل.
فكرامة هذا الإنسان مقصورة على الإيمان بالله وحده لا شريك له. ومن هنا جاء قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60) .
فوظيفة القوة تأمين الذين اختاروا الإسلام على دمائهم وأموالهم حتى لا يفتنوا في دينهم، ثم حماية طريق الدعوة وسبيلها حتى لا يتوقف المد الإسلامي، وكذلك تأديب الجبارين الذين يتخذون لأنفسهم صفة الإلوهية فيذلون البشر بما يزرعونه فيهم من ضغائن وأحقاد.
1 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها على العالم الإسلامي، تأليف محمد بن عبد الله بن سليمان بن السيحان ص 32.