الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع عشر: تأسيس الدولة السعودية الثانية
…
تأسيس الدول السعودية الثانية (1238هـ - 1309هـ - 1819م – 1890م)
علمنا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نهض بدعوته الإسلامية التي قيض الله سبحانه وتعالى لها تلك الخامات العربية التي انطوت على عناصر الحرية والكرامة، واستوت على أقطار الحياة، فردها إلى الفطرة السمحة، وغذاها بوحي الكتاب والسنة، وانطلق بها مؤمنة صابرة تحمل أعباء الدعوة الهادية، وتنشر الهدي المحمدي، وتقر الأمن المضطرب، وتحمي البيت الذي يتخطف الناس فيه ومن حوله، ثم تمضي برسالتها إلى أبعد الآفاق.
ونجح هذا الإمام في المرحلة الأولى للدعوة مرحلة الانتصار على الأهواء، وقطع حبال الجاهلية، ثم سار بالدعوة جنباً إلى جنب مع مراحل تكوين الدولة التي تحمي هذه الدعوة التي زلزلت قلوب كثير من السلاطين، وعلماء السوء والفتنة، وأهل البدع والضلالات، الذين رأوا فيها خطراً مروعاً إن امتد يقضي على أوضاعهم الظالمة وعقائدهم الفاسدة.
وكان إحساس تركيا بخطر الدعوة الإسلامية الجديدة مزدوجاً، لأنها كانت تحس في الوقت نفسه بخطر محمد علي باشا الألباني في مصر، فأرادت أن تضرب الضربة لتصيب بها الاثنين معاً، وطلبت إلى محمد علي الألباني1 أن يغزو نجداً،
1 ولد في مقدونيا في بلاد اليونان سنة 1182هـ واستغل في شبابه بعدة أعمال منها الجندية والتجارة، ثم تطوع في الحملة العثمانية التي أرسلت لإخراج نابليون من مصر سنة 1215هـ-1801م، واستطاع هناك بذكائه أن يستغل تناقضات القوى الثلاث الكبرى في مصر آنذاك وهي الأتراك والمماليك والإنجليز لصالحه، فاستقطب ولاء الشعب المصري حتى عين والياً على مصر سنة 1220هـ-1895م من قبل الدولة العثمانية بعد أن كانت الجماهير قد رفعته لذلك المنصب أثر هياج شعبي.
انظر: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر –تأليف عبد الرحمن الرافعي- ط3 سنة النشر 1378- القاهرة ج2 ص355-357.
وأن يقضي على المسلمين الداعين إلى الله فيها. ورآها محمد علي فرصة يضرب بها ضربته باسم خليفة المسلمين ظل الله في أرضه، ثم كانت الغزوات والحروب التي يطول ذكرها، والتي ذهب وقودها مئات الألوف من أبناء مصر، وعشرات الأولوف من أبناء جزيرة الإسلام، وظنوا أنهم قضوا على الدولة التي أقامت حركة التوحيد من جديد بكبوة جوادها، وفاتهم أن حركة التوحيد قد توسع مداها، وأوقدت شعلة قوية في كل أعماق الدعوات الإصلاحية الحديثة، وألهمتها فهماً جديداً متكاملاً قائماً على أن الإسلام دين ونظام واجتماع في نظام موحد، ومن العسير جداً فصل هذه العناصر بعضها عن بعض في تفكير المسلم الواعي، والمعروف أن النفوذ الغربي قد قاوم هذه الدعوة لأنه لا يريد أن يسمع في هذه المنطقة صوت يقظة حتى يتم تمزيقها وسلخها عن الدولة العثمانية وإدخالها في مناطق نفوذه، وكانت منطقة الخليج والجزيرة في تلك الفترة هي أخطر هذه المناطق التي تطمع فيها بريطانيا، وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد أكد دعوة التوحيد بضرورة التماس مفهوم الأساس من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وأن وسيلة الإصلاح والنهضة لن تتحقق إلا بحملة ضخمة قوامها القوة والإقناع معاً للقضاء على البدع1 والمفاسد التي دخلت الإسلام ظلماً، والعودة إلى نقاوته الأولى، وعدم الاعتراف بما تركه المفسدون مما يتعارض مع أصول
1 مقدمات العلوم والمناهج 3/211.
الإسلام في بساطته وسماحته، وترك الطقوس وأنواع الاحتفالات والبدع الخاصة بتقديس الأولياء، وقصر العبادة على توحيد الله وحده، وفق ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ووفق تعاليم القرآن الكريم.
ولا شك أن صدق الإمام والأمير، وعمق أيمانهما وصلابتهما، كانت كلها عوامل أساسية في النتائج التي حققتها الدعوة، حيث تسلمت قيادة الحركة الإسلامية، وكان أبرز معطايتها أنها فتحت باب الاجتهاد في الفروع، والقيام بواجب الجهاد في سبيل الله، وإحياء هذه الفريضة التي أصابها الوهن، وكشف الظالمين، وهزت مراكزهم ونفوذهم، ولهذا اعتبرها الاستعمار الخطر الأول، ولكن هذه الدعوة المباركة سجلت أمراً خطيراً وبعيد الأثر في حركة اليقظة المعاصرة كلها، ذلك أنها أيقظت عالم الإسلام وأمة العرب قبل قدوم حملة نابليون بأكثر من ستين عاماً، وهدته إلى وسائل النهضة وأسبابها.
من أجل ذلك كان التركيز الشديد من قبل النفوذ الاستعماري على الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، فقد أحس أنها تمثل مفهوم الإسلام في اليقظة والمقاومة والعودة إلى عوامل القوة، وكان أبناء الدعوة الإسلامية في الجزيرة قد وضعوا أمامهم خطاً أساسياً هو الدفاع عن حوزة الإسلام ضد الأخطار المحدقة به، بعد أن حسبوا مدى الوهن والتراخي الذي طرأ على الوحدة الإسلامية في استنبول، وإذا كانت الدولة الأولى التي أقامتها الدعوة الإسلامية قد انتهت بالقضاء على إمامها عبد الله بن سعود رحمه الله فإن الذين تربوا في مدرسة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أهل نجد، لا يمكن أن يضعفوا أو يستكينوا لأنهم يعملون لنصر الله عز وجل وما داموا يعتقدون أن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، وأن الله
قد أكد لهم النصر بشرطه في كتابه العزيز فقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (القتال: 7) ، وقد علم المسلمون الأولون أنه لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده، والنصر له وحده في ذات النفس وفي منهج الحياة. لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم1.
وعلى هذا الأساس حمل تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب راية التوحيد، وبنوا بها دولة حققت للمسلمين السيادة والعزة، وبالرغم من سقوط الدولة السعودية الأولى من المفهوم السياسي، إلا أنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، ومداولة الأيام بين الناس سنة من سنن الله عز وجل في الأرض، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: 140) .
فالشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة يكشفان المعادن والدخائل، وفوق ذلك هو أجل مقدر لحكم أخرى يتحقق مع تحقق النصر.
وشاء الله تعالى أن يبتلي أهل نجد بفترة أخرى من الفتن والضياع يصفها ابن بشر، فيقول:
…
فلما حل القضاء، وانتهى الأمد المكتوب، وانقضى، وانحل نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وتطايرت شرار الفتن في تلك الأوطان، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية فساداً، فقتلوا صناديد الرجال،
1 في ظلال القرآن 6/2288.
وصادروا أهلها، فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق الظليلات، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرق علماؤهم وخيارهم ما بين طريد وشريد، وثارت في غالب البلدان الفتن والقتل والقتال والمحن، وظهر المنكر، وعدم الأمر بالمعروف والنهي حتى أن الرجل في جوف بيته وجل مخوف، وتذكروا ما بين أسلافهم من الضغائن الخبيثة القديمة، وتطالبوا بالدماء، فكل منهم يطلب أولاً
…
أولاد غريمه، فتقاتلوا على سنن ما أنزل الله بها من سلطان، وهجر كثير منهم الصلاة، وأفطر في رمضان، وجرى الرباب والغناء في المجالس، وسبت الذراري على المجامع والمدارس، وعمرت المجالس بعد النداء للصلوات، واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد، وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنوات، والشر فيها في زيادة، وظهور وتمكين، وبقيت الفتنة مستمرة حتى أنعش الله أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها وسلاطينها، فبذل نفسه، وجرد سيفه لاجتماعها، وتمكين دينها1، فقضى على الفوضى، ووطد الأمن، وأعاد للإسلام مكانته.
1 المجلة العربية –السنة الأولى- العدد الثاني- ص 98 السعودية.