الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: مفهوم البطولة في الإسلام
…
مفهوم البطولة في الإسلام
إن تاريخ الإسلام زاخر بأحداث البطولة التي امتدت عبر مراحله المتصلة دون توقف، وهي في صورها القريبة لا تنفصل في مفهومها عن صورتها الأولى، وكلها تستمد وجودها من مفهوم أساسي واضح، هو القيام بدور يدفع الأمة الإسلامية نحو تحقيق أهداف الإسلام الكبرى.
وتتسم البطولة في الإسلام بطابع علمي إيجابي، ومن هنا كان البطل في الإسلام دائماً خادماً لمجتمعه وفكرته وأمته، يؤمن حق الإيمان بأن عمله مقدور في ميزان العمل الصالح عند الله تعالى ثم عند المؤمنين، على تعاقب الأجيال. ومن هنا فهو لا يتطلع إلى الجزاء المادي أو المغنم أو الشهوة.
فتحقيق العبودية الصادقة جعل من القلة المؤمنة في غزوة بدر قوة رهيبة قهرت عظائم الأحداث، وأصبحت قانوناً خالداً ينظم حياة المسلمين على أصول الرسالة الخاتمة، ويضيء أرواح وعقول الرجال المسلمين على مر العصور بالعبر المنهجية، فالصدق والإخلاص في العمل لله وحده لا شريك له يفتح بصيرة المجاهدين حتى يروا ما أعد الله تعالى للشهداء في سبيله، وهم بعد أحياء يمشون على الأرض.
وجاءت غزوة أحد، فكانت إصابات المسلمين في أنفسهم، وفي جراحات النبي صلى الله عليه وسلم أعظم درس تربوي ممحص للمسلمين، ليعرفوا وخيم عاقبة مخالفة
الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة أمره عموماً، وخاصة إذا علموا أنهم مختارون ليكونوا حملة الإسلام إلى الناس في أقطار الأرض، لذلك بين لهم خطورة الاختلاف وحب الدنيا وإرادتها، وأن ذلك هو السبب فيما حل ويحل بالمسلمين، والله تعالى يقول:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران) .
نعم، لقد نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم إلى أن كان منهم الفشل والتنازع وعصيان بعضهم لأمر القائد صلى الله عليه وسلم، عند ذلك تبدل النصر إلى هزيمة، لأن الله تعالى إنما وعد المؤمنين النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة، وفي هذا إيماء إلى سنة من سنن الله عز وجل في أخلاق البشر وأعمالهم على المستوى الفردي أو الجماعي، وهي أن المصائب التي تعرض للمسلمين في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله تعالى قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس، وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه وتعالى بقوله:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) .
فينبغي أن نأخذ من أحداث غزوة أحد وابتلاءاتها عبراً تنفعنا إلى آخر الدهر، خاصة إذا استعرضنا التجربة التي مر بها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأيناهم يخرجون من محنة أحد بإيمان قوي، وعقيدة راسخة وشجاعة فذة، وعزيمة حازمة، وثقة بالله لا يوازنها شيء، وكانت سراجاً أضاء الطريق أمامهم في سيرهم برسالتهم، وجعلتهم يضربون المثل الطيب والأسوة الحسنة في مواقفهم الكثيرة، وحرصهم
على طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتزامهم أمره صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق في حياتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى والشوق إلى جنته.
وقد خلد لنا الإسلام سلاسل مضيئة من أعلام رجالنا الكرام، كان لهم النصيب الأوفى من البطولة والفداء والصدق والوفاء، ونزداد إعجاباً بأولئك السابقين من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، حيث نجد أحدهم يذوب خشية وعبادة لربه سبحانه في محرابه كأنه لا شغل له سوى التعبد والتهجد، فإذا نادى المنادي: حي على الجهاد، نقل محرابه إلى الميدان وجاهد في سبيل ربه خير جهاد، ثم بذل جهوده هنا وهناك في مسالك الحياة وشعابها صالحاً مصلحاً، راغباً في أن يكون عند الله من المقبولين، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة) .
وقد عرف تاريخ الإسلام أبطالاً قاموا بأدوار على قدر عظيم من الأهمية دون أن يكشفوا عن شخصياتهم، أو يبوحوا بأسمائهم، وقد سجل التاريخ هذه المواقف تحت أسماء مجهولة، ومن هؤلاء صاحب النقب، هذا البطل الذي استطاع أن يفتح ثغرة في سور دمشق بعد أن حاصرها المسلمون طويلاً وحاولوا مرات، غير أن هذا البطل الذي لم يعرف التاريخ اسمه، ولم يكشف هو عن شخصيته، اندفع على رأس فرسه وسهام العدو تنوشه من كل مكان دون أن يتوقف أو يرتد، حتى بلغ الجدار فأحدث فيه ثقباً، ثم اخترقه إلى داخل السور وكبر، فكبر المسلمون وعبروا إليه، فلما انتهت الموقعة ظن قائد الجيش محمد بن مسلمة أن صاحب النقب سوف يتقدم إلية دون جدوى، هنالك نادى في الجيش أن يتقدم، فلم يتقدم أحد، ووعد ثم هدد، وبينما هو جالس في خيمته تقدم منه رجل فقال له: أيها القائد، هل تريد
أن تعرف صاحب النقب. قال: نعم، قال: أنا أدلك عليه إذا أعطيتني العهد على أن لا تسألني عن اسمي، فقال القائد محمد بن مسلمة: لك عهد الله على أن لا أسألك عن اسمك، قال: أنا هو، وانطلق خارجاً من خيمة القائد ينتظر حسن الثواب من الله تعالى يوم يقوم الحساب، ولم يتطلع إلى الحظ العاجل وإذاعة أخباره واسمه، وهذا الصنف الكريم يجلي لنا العبر، ويعطينا الموعظة الحسنة، لنعتبر بأن الله تعالى وحده هو الذي يجزي على العمل، وقد وضح لنا هذا المعنى عندما أقبل وباء المرتدين المجرمين بقيادة مسيلمة الكذاب، وخرج جيش الإسلام ليرد ذلك الطوفان، وكان فيه البراء بن مالك الأنصاري1 رضي الله عنه ولم تكن المعركة يومها سهلة ولا ميسرة، واشتد القتال بين المؤمنين والباغين، وهناك رفع البراء بن مالك صوته ينادي في المجاهدين:"يا أهل المدينة، لا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله والجنة"، أي لا تذكروا في هذا الموطن أنفسكم ولا أهليكم ولا بلدكم، بل اجعلوا كل همكم أن تنصروا الله ربكم جل جلاله، وأن تأخذوا الطريق إلى جنته عن طريق الجهاد في سبيل دينه ودعوته. فالبطولة الإسلامية لم تكن الإعلان والشهرة، وإنما هي التماس رضا الله عز وجل، وتحرير العمل لوجه الله تعالى وإخلاصه للحق وحده.
يذكر لنا التاريخ هذه البطولة التي صنعها الإسلام إخلاصاً لله عز وجل وهي: أن رومانوس أمبراطور الدولة البيزنطية، أقبل بجيش يضم مائتي ألف مقاتل، وقيل ستمائة ألف مقاتل، يقوده بنفسه، ومعه البطارقة، يريد أن يقضي على
1 هو البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر الأنصاري النجاري المدني، البطل الكرار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه.
المسلمين -بزعمه- ويزيل ملكهم وينفي جمعهم ويدوس رايتهم، وسرعان ما علم "ألب أرسلان" قائد المسلمين آنذاك بالخطر الزاحف على المسلمين، وأدرك أن لا مفر من الجهاد، فجمع أهل مشورته وقال لهم: تعلمون من أنباء زحف رومانوس وجيشه اللجب، ولقد حاولت أن أثنيه عن عزمه بكل المغريات من مال وممتلكات، أحب أن أضعها بين يدي رومانوس على أن لا يظفر بنا فيهلك جمعنا على القتال، وسأخرج لتوي بكفني وحنوطي، فمن رغب عن الجهاد فدونه المسالك فليسلك أيها أقرب إلى نجاته، ومن رغب في لقاء الله عز وجل، فليتحنط وليلبس كفنه وليلحق بي لملاقاة رومانوس1.
وما هي إلا ساعة حتى كان ألب أرسلان يمتطي جواده ووراءه خمسة عشر ألف جندي، قد تكفنوا جميعاً بقماش أبيض، وقد فاحت منهم رائحة الحنوط، ينتظرون وصول جيش رومانوس أرض المعركة2، وتمر سويعات ثقيلة متباطئه لم يلبث أن يتطاير عن بعد غبار ينبئ بوصول رومانوس، فتتعالى أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصره عبده وهزم الأحزاب وحده، ويفاجأ رومانوس وقادة جيشه بالذي رأوه وسمعوه، ويلقي الله الرعب في قلوبهم، إذ لا يرون أمامهم إلا كتلة واحدة بيضاء، يتعالى تكبيرها إلى عنان السماء.
وتحتدم المعركة بين الجيش المكفن المؤمن، وبين الجيش اليبزنطي اللجب
1 يقول ابن كثير رحمه الله عند ذكر الواقعة: أقبل ملك الروم رمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرخ والفرنج وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف من فارس. (راجع بتوسع، البداية والنهاية/ 100-1-10-106-107) .
2 كان ذلك سنة 465هـ الموافق 1072م.
الجرار، ويتدافع المسلمون بأكفانهم يطرقون أبواب الجنة بجماجم الكفارين من جنود بيزنطة، وسالت الدماء أنهاراً، وتطايرت الرؤوس بلا حساب، وشرعت أبواب الجنة تستقبل المؤمنين، وشرعت أبواب جهنم تستقبل الكافرين، وتطلب المزيد
…
وما كاد النهار أن يستكمل دورته حتى هدأ ضجيج المعركة، وارتفع في الأجواء صوت المنادي ينادي:
أبشروا يا جند الإسلام لقد أسر رومانوس.
فتعالت إذ ذاك أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر، وإذ فرغ ألب أرسلان وجنده من أداء ركعات شكر لله عز وجل، على نصره وتأييده، التفت إلى بعض جنده، وقال لهم: إلي برومانوس، وجيء برومانوس مشدود الوثاق مكبلاً بالأصفاد، فقال له ألب أرسلان:
يا رومانوس، ألم أعرض عليك المال والأرض والممتلكات لتكف عن أذى الإسلام وحرمات المسلمين
…
؟
قال رومانوس: بلى.
قال القائد المؤمن: فلم لم تقبل؟
قال رومانوس: ظننت أني سأقضي على جيشك، وأسحق دولتك.
قال القائد المؤمن: أما وقد أخزاك الله يا رومانوس، ما تظن أني فاعل بك
…
؟
قال رومانوس: إن شئت فاقتلني، وإن شئت جرني بالسلاسل، وإن شئت تقبل فديتي وتعفو عني.
وأطرق القائد المسلم قليلاً ثم قال: يا رومانوس، أتعاهدني إن عفوت عنك ألا تقاتل بعد اليوم مسلماً أبداً. قال رومانوس وقد دمعت عيناه بعد أن أدرك أنه نجا من موت محقق: لك عهدي يا قائد المسلمين.
وقام ألب أرسلان ففك قيود أسيره بيديه، وقال له: ستوصلك جنودي إلى مأمنك يا رومانوس، ولقد أمرت لك بخمسة عشر ألف دينار تستعين بها على وصولك، وحقق الله عز شأنه للمجاهدين المخلصين ما وعدهم بقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة) .
وهكذا نرى البطولة والانتصار يخدمان قضية الإسلام وهدف الدعوة إليه، ولا يقل عمل المصلحين الذين يصححون المفاهيم المنحرفة عن المجاهدين الذين يردون كيد الأعداء، ويحمون بيضة الدين، ويتساوى في الإسلام مداد العلماء ودم الشهداء، ولقد كان تاريخ الإسلام قائماً دائماً على القدرة المتجددة في أن يبعث البطل الذي يقود المعركة، ويواجه الأزمة، وكلما تجمعت التحديات في وجه المسلمين برز القائد العالم المجاهد الذي يحمل اللواء، ويقود الجماعة في معركة مقاومة، سلاحها المصحف والسيف، وكانت الأحداث والأزمات دائماً قادرة على أن تدفع المسلمين إلى الوحدة والتجمع تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يحقق الله عز شأنه لهم النصر.
ولقد عرف التاريخ الإسلامي عدداً من النكسات، ولكنها كانت كلها مقدمات لنصر كبير ظافر، وقد كانت جماعة الموحدين المخلصين دائماً
قادرة على مواجهة الخطر مهما بلغ من الشراسة والعنف بالاعتصام بحبل الله عز وجل والتضحية.
ولقد رسم القرآن الكريم صورة البطولة وجعلها في مواجهة المسلمين، لتكون العبرة قريبة منهم.
وكل الأبطال الذين عرضهم القرآن أبطال مقاومة لا يستسلمون ولا يحنون الرؤوس للظلم والانحراف والطغيان، ومن هنا عجزت قوى الكفر عن أن تقتلعهم أو تنتصر عليهم، وكانت المقاومة عند هؤلاء المسلمين إيماناً في أعماق القلب، وسلاحاً في اليد، يعملان معاً في يقين راسخ بأنهم أصحاب أمانة إلهية ودعوة ربانية، ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل للبطل الإسلامي، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم موضع القدوة لكل الأجيال الإسلامية المتلاحقة، والرجال الذين تربوا على يديه كتبوا صفحات بارعة من المجد التليد، وظلوا رضي الله عنهم موضع إعجاب الأجيال الإسلامية المتوالية، وكانوا قدوة حسنة تقتدي بها الأجيال اللاحقة، ومن ثم اتصلت في تاريخ الإسلام روح البطولة والتضحية والموت من أجل الحياة الإيمانية، وكانت مقاومة الظلم والانحراف هي أبرز صفحات الجهاد في مواجهة كل باغ وظالم ومعتد على الإسلام وأهله، ولقد استمد المجاهدون الأبطال من الرسول صلى الله عليه وسلم أبرز مفاهيم البطولة حيث جمعوا بين بطولة الفكر، وبطولة الجهاد، فقد كان العلماء العاملون كلهم قادة معارك يحملون السلاح في مواقف الجهاد، ولو لم يعيشوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر خلفائه الراشدين، ولا في عصر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن عجيباً أن نرى في تاريخ أمتنا الإسلامية أناساً تجردوا لله عز وجل فتألق نجمهم في مجتمعهم بعد
عصر النبوة بنحو مائة وخمسين عاماً، وكان موضع تألقه بعيداً عن منزل الوحي ومهبط الرسالة، كان هناك في شمال أفريقيا، ومع ذلك بقي الإسلام يمده بالإيمان المشرق، ويرشده إلى منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصده تأخر الزمان ولا بعد المكان عن الإسهام الرائع في بناء مجتمعه على أساس الدين والعلم، والإعداد والربط بين الدرس وجهاد النفس، ذلكم هو الإمام العالم أسد بن الفرات1 الذي جمع الله تعالى له الإمارة والقضاء، وكان يقال له من أجل ذلك: القاضي الأمير، الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والجهاد، وسعى في الدنيا ليربح الآخرة.
ولقد أكرم الله تعالى أمتنا الإسلامية بعلماء كثيرين جاهدوا بلسانهما وسنانهم وإيمانهم وقلمهم، منهم الإمام ابن تيمية الحراني رحمه الله الذي ولد في حران2، وهي مدينة مشهورة على طريق الموصل والشام والروم، من أسرة ذات علم ودين، فأبوه وجده كانا من كبار علماء الإسلام، وقد ارتحل به والده في طفولته إلى دمشق بسبب غارات التتار المخربة على بلاد الإسلام، وهناك نشأ نشأته الإسلامية العلمية القرآنية الحديثية الفقهية العربية، القائمة على أسس من طهارة الأنساب وتقوى الآباء وصفاء البيئة الشامية والاستعداد الطيب لخدمة الإسلام
1 الإمام العلامة القاضي الأمير مقدم المجاهدين أبو عبد الله الحراني ثم المغربي، مولده بحران سنة أربع وأربعين ومائة، ودخل القيروان مع أبيه في الجهاد، وكان أبوه فرات بن سنان من أعيان الجند. وكان أسد رحمه الله مع توسعه في العلم فارساً بطلاً شجاعاً مقداماً
…
سير أعلام النبلاء الجزء العاشر 2251 بتصرف شديد.
2 هي اليوم من مدن تركيا، فتحت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على يد عياض بن غنم رضي الله عنه وإليها ينسب جماعة كثيرة من أهل العلم.
وعلومه، وكان ذكياً حاضر الذهن قوي الذاكرة بصورة باهرة، وكان يجادل ويحاور وهو صغير، وبدأ الإفتاء قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان خبيراً بعلوم الحديث والتفسير والفقه واللغة1، والغوص في دقائق المعاني، وأتقن دراسة المذاهب الفقهية، يقول عنه ابن فضل الله العمري:"كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده"، وقد ازداد ابن تيمية رحمه الله تعالى على مر الأيام صلابة في دينه، وقوة في يقينه، ولا عجب فهو أشهر الأتباع للإمام المجاهد المحتسب الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله الذي احتمل ما لا يحتمله سواه من الأذى في سبيل الاستمساك بعقيدته في كلام الله العزيز وقرآنه المجيد، وكان ابن تيمية رحمه الله متيقظاً شهماً شجاعاً لا يفتر عن الأعداء ليلاً ولا نهاراً، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله، أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عوناً ونصراً للإسلام وأهله، وشوكة في حلوق المارقين من الفرنج والتتار والمشركين، فأبطل الخمور، ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته، وتصدى لمقاومة الفتن، وخاطب عقول الجماهير، وتبنى مهمة الرد على الفرق والملل غير الإسلامية، وقاوم عقائدها وتقاليدها وتأثيرها، وبعث الفكر الإسلامي الصحيح، وجدد العلوم الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة، وما صح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقد بشدة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وفضح البدع والمنكرات وعبادة القبور السافرة المؤيدة من بعض المشايخ، والاستخفاف بشعائر الله عز وجل، وتصدى لأصحاب المشاهد ووقاحة جرأتهم وشركهم، ورفع رحمه الله تعالى لواء تجديد التوحيد، ومنع الاستغاثة
1 البداية والنهاية 14/137.
بغير الله عز وجل، وشرح عقيدة الإسلام الصحيحة، وقام بمسؤولية ورثة الأنبياء عليهم السلام في عصره، وعمل بمصداق قوله جل وعلا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر) . فكان عمله رحمه الله وجهاده دليلاً على ما خصه الله به من مكانة عالية في مجال الإصلاح والتربية والدعوة والتجديد، وقد وجد بتأثير كتاباته ومؤلفاته رجالاً من أهل الدعوة والتربية بين حين وآخر ممن رفعوا راية الجهاد ضد تقاليد الوثنية الجاهلية بكل صدع وإعلان، وارتفع صوت القرآن مدوياً عالياً:
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: 3)
فارتجع العالم الإسلامي وتجاوبه السهل والجبل، وعاش هذا الإمام أكثر سنوات حياته متاعب في سبيل الله عز وجل، وترك لأجيال المسلمين دائرة معارف أو مكتبة تضمنتها مجموعة فتاويه التي تحتوي على (37) مجلداً، نشرتها المملكة العربية السعودية، فترى في كتبه حقائق علمية وبحوثاً نقدية، ومباحث أصولية، تشق طريقاً جديداً لفهم الكتاب والسنة، وتفتح باباً فريداً إلى إدراك مقاصد الشريعة الربانية.
وكانت في الإمام ابن تيمية رحمه الله صفة بارزة رفعت من شأنه وأعزت من مكانته، وهي صفة الثبات على العقيدة الاستمساك بما يثق فيه، والجهر بكلمة الحق، والرائع في موقفه أنه حينما أغلقوا عليه باب السجن، قال مستشهداً من القرآن الكريم:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد: 13) .
وكان يقول رحمه الله: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني صدري، أينما
رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة1.
إن السجن في نظر ابن تيمية رحمه الله تعالى فرصة يخلو فيها إلى العبادة والذكر والمطالعة والبحث والمعرفة والعلم، بعيداً عن الشهوات والملذات.
ويعتبر القتل شهادة في سبيل الله تعالى لأنه يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وابن تيمية رحمه الله تعالى واحد من محبيه ومتبعيه، فليمض إلى ربه مجاهداً لينال أجر المجاهدين الصابرين.
ويؤمن بأن إخراجه من بلده رحلة هجرة في سبيل الله تعالى، أليس هو القائل:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء) . إذن فلا بد من السياحة وكسب الخير والتعرف على الناس، وبث الدعوة، وهكذا امتلأت قلوب المؤمنين بالإسلام شجاعة واندفاعاً، وعلموا أن إنكار الذات في سبيل الله تعالى تصنع البطولات، وفق القيم الأخلاقية لهذا الدين العظيم، لأن المنتصر فيه لا يموت، وهذا نموذج بسيط موجز عن الأبطال العلماء العالمين، أما أمراء العادلين الذين أسهموا بكل إيمان وقوة وهمة وحيوية في بناء دولة الإسلام، وتطبيق أحكام الله تعالى، وصنعوا حياة مليئة بالعمل الصالح والعلم النافع، والبناء الرائع في كل المجالات، فالحديث عنهم يطول ويخرجنا عن
1 الوابل الصيب، لابن القيم ص 66-67.
مقصدنا الذي نبتغيه، ويكفينا أن نعلم أن بطولات المسلمين من العلماء العاملين والأمراء المخلصين، كانت تسير جنباً إلى جنب في بناء الحياة الإسلامية ببذل الجهود في تحصين المسلمين، وتأمين الحدود، مع إثارة روح العمل الصالح والتنافس في مجالات العلم والعمل والجهاد، وقد ظل الإسلام حافلاً بالمسلمين وقادتهم من العلماء والأمراء الذين يحملون اللواء، ويحمون معاقل هذا الدين، وهكذا يتوالى ظهروهم فترة بعد فترة، ويخرجون من قبل مجتمعهم ليصدوا عنه فنتة جديدة، ويظهروا الإسلام في صورته البيضاء الجامعة الحقيقية، ويعدوا العدة لصون العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإيمانية، ولولا الله جل شأنه ثم هؤلاء الرجال الأوفياء الذي أعدهم الله تعالى لخدمة دينه، ووفقهم للقيام في وجه المنكر بأي لو كان، لما عاش المسلمون مبيضي الوجوه، ولما ورثوا الدين نقياً طاهراً من رواسب الجاهليات والأنانيات، ولذلك فإن كل مسلم موحد مدين لهم في إيمانه وعقيدته، وفي صفاء أفكاره، وإن لهم علينا منة كبيرة فيما نعيش فيه من طاعة وسعادة، وما نتمتع به من تاريخ زاهر للمآثر والبطولات والجهاد.
ومن ثم فإن لهؤلاء الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام حقاً كبيراً على كل مسلم معاصر، وعلى الأجيال المتلاحقة التي حظيت بنعمة الدين الخالص والعقيدة الصافية، وإن أداء هذا الحق والوفاء بواجب الشكر لا يتم إلا بالمحافظة على الإسلام الذي جاهدوا من أجله بإحياء سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتركيز على بناء أنفسنا وأجيالنا على هدي من الكتاب والسنة، لنقدم للعالم نموذجاً حياً للمسلم الذي يتمثل فيه الإسلام كاملاً، وعندها تعود أمتنا كما أراد الله تعالى.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) .