الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر: نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال
…
نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال
ليس للجهاد الإسلامي هدف سوى إزالة العقبات من طريق الإسلام كي يتاح تبليغه للناس في جو خال من الضغط والفتنة، فكان لا بد من أجل مصلحة الإسلام، بل مصلحة شعوب الأرض، أن يزاح هؤلاء الذين يعترضون على دعوة الله عز وجل الهادي بحد السيف حين لا يكون بد من ذلك. لأن المسلمين ما كانوا ليستطيعوا بحسب تعاليم دينهم التضحية بمصلحة الحياة والأحياء من أجل حفنة من المنحرفين والدجالين والطواغيت. وليس من المعقول أن توصف الحرب في الإسلام بدفاع أو هجوم كما نسمع من بعض الكتاب الإسلاميين اليوم، فهذا الوصف غير وارد، ويتضح لنا ذلك من خلال الظروف التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، والمعاهدات التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم ترك لنا منهاجاً كاملاً نواجه به أية عقبة تبدو في طريق الإسلام العزيز، مواجهة مكافئة لطبائع الأمور، وحسب مصلحة الإسلام وحده، فلا داعي إذن لتسمية الحرب في الإسلام دفاعاً أو هجوماً، إنما هي مصلحة الدين، أو مصلحة الدنيا بأسرها.
وجميع الغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسرايا التي أرسلها تكمن وراءها مصلحة الدعوة الإسلامية، والتمكين لها، وتهيئة الأسباب الموضوعية لتسهيل وصولها إلى الناس كي يعتنقوها ويحققوا باعتناقها مصلحة الدنيا والآخرة، وبما أن أمة الإسلام هي أمة عقيدة ودعوة، وأن دعوتها هي سبب صلتها بشعوب الأرض، هذه الصلة القائمة على عقيدة التوحيد اتخذت شكل منهج متكامل متكاملاً يواجه
مختلف الاحتمالات بما يناسبها، وأن الجهاد عنصر أصيل1 في هذا المنهج الذي تخطى بسموه وشموله وتوازنه كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليه أو تتهاوى عنده المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود لغوية أو سياسية أو عرقية أو جغرافية أو نحوها، وهو بذلك يفتح أبواب رحمة الله عز وجل لأهل الأرض أجمعين، فلا يعقل بعد هذا الفيض الغامر من الخير أن نسمي الجهاد فيه بأنه حرب دفاعية أو هجومية، وإنما الصحيح أن الجهاد في الإسلام عنصر من عناصر المنهج الذي يواجه مختلف الاحتمالات والظروف، وما هو إلا إزالة للحوائل والعقبات التي تعترض مسار دعوة الله الواحد القهار، وأن التحرك لبدء الآخرين بالدعوة إلى الإسلام هو من خصائص هذا الدين، لأنه من السذاجة بمكان أن يتصور الإنسان بقوة عازمة على إخراج البرية من الظلمات إلى النور، ثم يقف أما عقبات الأعداء ليجاهد باللسان والبيان فحسب، وهذا لم يقل به أحد من سلف هذه الأمة الكريمة على ربها سبحانه وتعالى، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توجب على المسلمين الجهاد كعنصر من عناصر منهج المواجهة لإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، وإبلاغ الناس مصلحتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة، وشعار المسلمين في ذلك قول الله عز وجل:
1 لقد تجنب الإسلام لفظة الحرب لأنها كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الراجل والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية، والغايات التي ترمي إليها لا تعدو أن تكون كذلك، وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبل هذه الحروب، لم يكن بد من ترك هذه اللفظة (الحرب) البتة، واستعمال لفظة "الجهاد" لأداء مهمته وتبين تفاصيل دعوته، لأنها أبلغ منها تأثيراً وأكثر منها -يعني لفظة الحرب- إحاطة بالمعنى المقصود، والجهاد المستطاع للوصل إلى الغاية العظمي، وهي أن تكون الأرض ومن عليها لله وحده لا شريك له، والكلمة العليا فيها لله عز وجل، والدين كله فيها لقيوم السموات والأرض، سبحانه وتعالى.
ولا بد من الجهاد لإماطة العقبات عن الطريق، وهذه سنة الله تعالى، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40) .
ولن تتم مصلحة الناس قاطبة إلا عندما يهيمن الإسلام على سلوكهم ومعاملاتهم، ويلتقون على العقيدة الصحيحة والدعوة الربانية، ولما كانت جزيرة العرب هذه الجزيرة التي انبعث منها أعظم رسالة عرفتها البشرية، وأخلد أمانة تقوم عليها خلافة الإنسان في الأرض، وتعتصم بها الإنسانية كلما دهمها طوفات الفتن، وزلزلت كيانها أحداث الحياة، هذه الجزيرة مهد العرب ومنجم الفضائل البشرية التي أمد العالم بأكرم عناصر الحرية والكرامة والحق والعدل والإصلاح
…
هذه الجزيرة كانت ولا تزال تدخر تلك العناصر التي تتوثب بين الفينة والفينة لتؤدي رسالتها الخالدة وتستأنف دورها التاريخي المتجدد على مر العصور، ولقد جعل الله عز وجل أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة تهوي إليه القلوب وتشخص الأبصار، وتتمثل فيه وحدة العبادة، وتتجمع حوله وحدة المشاعر والغايات، وتتفاعل على أرضه الطيبة حياة الملايين بالأخذ والعطاء، تأخذ من هذه الأرض الملهمة ما تفيض به من معاني القوة والتحرر، وتعطي بعض ما في أعناقهم من دين هيهات أن تبلغ منه أدنى مراتب الوفاء.
جعل الله تعالى هذا البلد قبلة ومثابة للناس ليظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على صلة موصولة بمنابع الهداية والنور، والقوة والحرية التي تفيض
بها هذه الجزيرة المباركة، وتظل أرض القبلة بما تعطي وما تأخذ موطن المعجزات التي تجدد على مر العصور.
هذه الجزيرة التي تربطها بالعالم الإسلامي وشائج الأبوة والعقيدة الممتدة إلى أعماق التاريخ، وروابط الجهاد المشترك في سبيل دعم وتأمين مستقبل المسلمين، واستئناف الرسالة الخالدة لخير الإنسانية جمعاء. هكذا تحرك الشيخ وانطلقت الحياة على أرض المعجزات بقيادة المحمدين:"محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود"، اللذين انتفضا لله عز وجل فحققا بدعوتها المباركة أروع وأسرع إنجاز خير فتحت له القلوب واستنارت به العقول، وقامت به دولة بعد جهاد بذل فيه كل الجهد.
وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو ينهض بالدعوة إلى الله عز وجل ليعلم أن الأساس هو أهم وأشق مراحل الطريق، فبقدر ضحامة البناء وارتفاعه بقدر ما تحتاج قاعدته إلى وقت وجهد كبير، وكلما كان الأساس صلياً ومتيناً ظل في صمود وقوة دون أن تنال منه معاول الباطل، وكان أدعى إلى استقرار البناء عليه مهما علا وارتفع، ولذلك أقام الشيخ رحمه الله حلقات العلم في الدرعية، "وبدأ يعلم القادمين إليه الكتاب والسنة من الصباح إلى المساء، وكان يجعل جل اهتمامه الأمور اللازمة المهمة في دعوته -دعوة التوحيد وإخلاص العبادة لله- ويرسخها في قرارة النفوس، وقد أظهر شخصه الجذاب ودعوته الصادقة أثرها العاجل، وكان من فوائد مجالس الوعظ والتذكير أن تقشعت سحائب ما ألفوا عليه آباءهم، وصار الناس ينظرون إلى خرافات التقاليد والعادات بمنظار الكتاب والسنة فقط، وإن جاذبية هذه المجالس بدأت العطاش إلى العلم من البلدان النائية إلى
الدرعية،1 واجتمع للرجل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في اتصاله بحياة المسلمين في كثير من الأقطار، وفي فقهه لأسرار الشريعة ما ملأ قلبه غيرة على حال المسلمين، وحسرة على ما وصلوا إليه من جهالة وضعف وانحلال، وحفزه ذلك إلى الجهاد في سبيل الله لتجديد إيمان هذه الأمة، وتسديد عزائمها إلى مواطن العزة والقوة والاتحاد، وتضافرت الجهود المشتركة بين مؤسس الدعوة وبين حامليها والمشاركين في تأسيسها على إقامة كيان إسلامي يستوعب نظريات الدولة الإسلامية، ويحمي أنظمتها، ويؤجج نشاطها، لتكون أقدر على المواجهة وتحمل العبء بما اعتبر بحق البند الأول في بدء تاريخ الجزيرة العربية، وفق المنهج الإسلامي، بل تاريخ الشرق الأوسط بعد انقراض حكم الخلفاء الراشدين، ذلك بأن تلك الحركة قد غيرت وجه الأحداث في الجزيرة العربية تغييراً أساسياً مذهلاً، لذل يقول:"فيليب حتى" في كتابه تاريخ العرب: إن تاريخ الجزيرة العربية، الحديث يبدأ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهور حركة الموحدين في الجزيرة العربية، وحين شاركت قوة الدين سلطة الحكم2، وهكذا ارتبطت دعوة الشيخ بالدرعية وأميرها وجندها، وأمست دعوة ابن عبد الوهاب ودولة ابن سعود وحدة لا تقبل التجزئة، وأصحبت الدعوة للدين الحق الدولة وسبب وجودها تموت إذا لم تعمل به، وتحيا وتقوى قدر ما تعمل له، وغدت الحروب ضرورة للدفاع، ومن الهجوم وسائل دفاع تحقيقاً لمصلحة الإسلام، ومن هنا كان الأمير محمد بن سعود رحمه الله تعالى كفؤاً للشيخ
1 محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه –مسعود الندوي الطبعة الأولى ص 55.
2 الوهابية حركة الفكر والدولة الإسلامية، عبد الرحمن سليمان الرويشد ص 7.
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وإذا اجتمع نور التوحيد وبأس الحديد تكافأ الشريكان وبلغت الدعوة غرضها، وارتفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهبت ريح الإيمان وراجت سوق الجنة، وقامت الجماعة التي تعبد الله تعالى على بصيرة تجاهد في سبيل الله تعالى، وهي تعلم أن مواقع المعارك كمجالس الدروس، كلها طرق توصل إلى رحمة الله تبارك وتعالى.