المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

9 - ثمَّ قَالَ {سماعون للكذب أكالون للسحت} فَذكر أَنهم فِي - دقائق التفسير - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما لبن الْميتَة وأنفحتها فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران للْعُلَمَاء

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي عُقُوبَة الْمُحَاربين بَين وقطاع الطَّرِيق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قَالَ الشَّيْخ الْإِسْلَام رحمه الله

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي بطلَان الِاسْتِدْلَال بالمتشابه

- ‌فصل فِي ادِّعَاء النَّصَارَى أَن الْقُرْآن سوى بَين الْأَدْيَان

- ‌ فصل فِي كَفَّارَة الْيَمين

- ‌ فصل فِي معنى روح الْقُدس

- ‌فصل عِيسَى عبد الله وَرَسُوله

- ‌معنى التوفي

- ‌فصل فَسَاد قَول النَّصَارَى فِي أَن الْمَسِيح خَالق

- ‌الرَّد عَلَيْهِم

- ‌فصل

- ‌فَصِلَ

- ‌فصل

- ‌لَا أحب الآفلين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذَبَائِح أهل الْكتاب

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌ فصل

- ‌فَصْل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل عرض لما تضمنته السُّورَة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَسُئِلَ رحمه الله

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} الْآيَة فَمن سبقت لَهُ من الله الْحسنى فَلَا بُد أَن يصير مُؤمنا تقيا فَمن لم يكن من الْمُؤمنِينَ لم تسبق لَهُ من الله الْحسنى لَكِن الله إِذا سبقت للْعَبد مِنْهُ سَابِقَة اسْتَعْملهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يصل بِهِ إِلَى تِلْكَ السَّابِقَة كمن سبق

- ‌فصل وَأما قَول الْقَائِل مَا لنا فِي جَمِيع أفعالنا قدرَة فقد كذب فَإِن الله تَعَالَى فرق بَين المستطيع الْقَادِر وَغير المستطيع وَقَالَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف ثمَّ

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام فَقيل لَهُ

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

الفصل: 9 - ثمَّ قَالَ {سماعون للكذب أكالون للسحت} فَذكر أَنهم فِي

9

- ثمَّ قَالَ {سماعون للكذب أكالون للسحت} فَذكر أَنهم فِي غذاءي الْجَسَد وَالْقلب يغتدون الْحَرَام بِخِلَاف من يَأْكُل الْحَلَال وَلَا يقبل إِلَّا الصدْق وَفِيه ذمّ لمن يروج عَلَيْهِ الْكَذِب ويقبله أَو يؤثره لموافقته هَوَاهُ فَيدْخل فِيهِ قبُول الْمذَاهب الْفَاسِدَة لِأَنَّهَا كذب لَا سِيمَا إِذا اقْترن بذلك قبُولهَا لأجل الْعِوَض عَلَيْهَا سَوَاء كَانَ الْعِوَض من ذِي سُلْطَان أَو وقف أَو فتوح أَو هَدِيَّة أَو أُجْرَة أَو غير ذَلِك وَهُوَ شَبيه بقوله {إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله} اهل الْبدع وَأهل الْفُجُور الَّذين يصدقون بِمَا كذب بِهِ على الله وَرَسُوله وَأَحْكَامه وَالَّذين يطيعون فِي مَعْصِيّة الْخَالِق

وَمثله {هَل أنبئكم على من تنزل الشَّيَاطِين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السّمع وَأَكْثَرهم كاذبون} فَإِنَّمَا تنزلت بِالسَّمْعِ الَّذِي يخلط فِيهِ بِكَلِمَة الصدْق ألف كلمة من الْكَذِب على من هُوَ كَذَّاب فَاجر فَيكون سَمَاعا للكذب من مسترقة السّمع

ثمَّ قَالَ فِي السُّورَة {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت} فَقَوْل الْإِثْم وَسَمَاع الْكَذِب وَأكل السُّحت أَعمال متلازمة فِي الْعَادة وللحكام مِنْهَا خُصُوص فَإِن الْحَاكِم إِذا ارتشى سمع الشَّهَادَة المزورة وَالدَّعْوَى الْفَاجِرَة فَصَارَ سَمَاعا للكذب أكالا للسحت قَائِلا للإثم

وَلِهَذَا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بَين الحكم بَينهم وَبَين تَركه لِأَنَّهُ لَيْسَ قصدهم قبُول الْحق وسماعه مُطلقًا بل يسمعُونَ مَا وَافق أهواءهم وَإِن كَانَ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ الْعلمَاء الَّذين يتقولون الرِّوَايَات المكذوبة

‌فصل

قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ الْكَلم} إِلَى قَوْله {وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله}

ص: 49

يعلم من هَذَا أَن التَّوْرَاة الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة بعد خراب بَيت الْمُقَدّس وَبعد مَجِيء بخْتنصر وَبعد مبعث الْمَسِيح وَبعد مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِيهَا حكم الله

والتوراة الَّتِي كَانَت عِنْد يهود الْمَدِينَة على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِن قيل أَنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فَلَا نشْهد على كل نُسْخَة فِي الْعَالم بِمثل ذَلِك فَإِن هَذَا غير مَعْلُوم لنا وَهُوَ أَيْضا مُتَعَذر بل يُمكن تَغْيِير كثير من النّسخ وإشاعة ذَلِك عِنْد الأتباع حَتَّى لَا يُوجد عِنْد كثير من النَّاس إِلَّا مَا غير بعد ذَلِك وَمَعَ هَذَا فكثير من نسخ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل متفقة فِي الْغَالِب إِنَّمَا يخْتَلف فِي الْيَسِير من ألفاظها فتبديل أَلْفَاظ الْيَسِير من النّسخ بعد مبعث الرَّسُول مُمكن لَا يُمكن أحدا أَن يجْزم بنفيه وَلَا يقدر أحد من الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن يشْهد بِأَن كل نُسْخَة فِي الْعَالم بالكتابين متفقة الْأَلْفَاظ إِذْ هَذَا لَا سَبِيل لأحد إِلَى علمه وَالِاخْتِلَاف الْيَسِير فِي أَلْفَاظ هَذِه الْكتب مَوْجُود فِي الْكثير من النّسخ كَمَا قد تخْتَلف نسخ بعض كتب الحَدِيث أَو تبدل بعض أَلْفَاظ بعض النّسخ وَهَذَا بِخِلَاف الْقُرْآن الْمجِيد الَّذِي حفظت أَلْفَاظه فِي الصُّدُور وبالنقل الْمُتَوَاتر لَا يحْتَاج أَن يحفظ فِي كتاب كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَذَلِكَ أَن الْيَهُود قبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعَلى عَهده وَبعده منتشرون فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَعِنْدهم نسخ كَثِيرَة من التَّوْرَاة

وَكَذَلِكَ النَّصَارَى عِنْدهم نسخ كَثِيرَة من التَّوْرَاة وَلم يتَمَكَّن أحد من جمع هَذِه النّسخ وتبديلها وَلَو كَانَ هَذَا مُمكنا لَكَانَ ذَلِك من الوقائع الْعَظِيمَة الَّتِي تتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا وَكَذَلِكَ فِي الْإِنْجِيل قَالَ تَعَالَى {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ}

فَعلم أَن فِي هَذَا الْإِنْجِيل حكما أنزلهُ الله تَعَالَى لَكِن الحكم هُوَ من بَاب الْأَمر وَالنَّهْي وَذَلِكَ لَا يمْنَع أَن يكون التَّغْيِير فِي بَاب الْأَخْبَار وَهُوَ الَّذِي وَقع فِيهِ التبديل لفظا وَأما الْأَحْكَام الَّتِي فِي التَّوْرَاة فَمَا يكَاد أحد يَدعِي التبديل فِي ألفاظها وَقد ذكر طَائِفَة من الْعلمَاء أَن قَوْله تَعَالَى فِي الْإِنْجِيل {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} هُوَ خطاب لمن كَانَ على دين الْمَسِيح قبل النّسخ والتبديل لَا الْمَوْجُودين بعد مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

وَهَذَا القَوْل يُنَاسب مُنَاسبَة ظَاهِرَة لقِرَاءَة من قَرَأَ وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِكَسْر اللَّام كَقِرَاءَة حَمْزَة فَإِن هَذِه لَام كي فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وقفينا على آثَارهم بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ}

ص: 50

فَإِذا قَرَأَ وليحكم كَانَ الْمَعْنى وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل لكذا وَكَذَا وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَهَذَا يُوجب الحكم بِمَا أنزل الله فِي الْإِنْجِيل الْحق وَلَا يدل على أَن الْإِنْجِيل الْمَوْجُود فِي زمن الرَّسُول هُوَ ذَلِك الْإِنْجِيل

وَأما قِرَاءَة الْجُمْهُور {وليحكم أهل الْإِنْجِيل} فَهُوَ أَمر بذلك فَمن الْعلمَاء من قَالَ هُوَ أَمر لمن كَانَ الْإِنْجِيل الْحق مَوْجُودا عِنْدهم أَن يحكموا بِمَا أنزل الله فِيهِ وعَلى هَذَا يكون قَوْله تَعَالَى {وليحكم} أمرا لَهُم قبل مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَقَالَ آخَرُونَ لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكْلِيف فَإِن القَوْل فِي الْإِنْجِيل كالقول فِي التَّوْرَاة وَقد قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم سماعون للكذب أكالون للسحت فَإِن جاؤوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ إِن الله يحب المقسطين وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص فَمن تصدق بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ وقفينا على آثَارهم بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل} فَهَذَا قد صرح بِأَن أُولَئِكَ الَّذين تحاكموا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم من الْيَهُود عِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله ثمَّ توَلّوا عَن حكم الله وَقَالَ بعد ذَلِك {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} وَهَذِه لَام الْأَمر وَهُوَ أَمر من الله أنزلهُ على لِسَان مُحَمَّد وَأمر من مَاتَ قبل هَذَا الْخطاب

ص: 51

مُمْتَنع وَإِنَّمَا يكون الْأَمر لمن آمن بِهِ من بعد خطاب الله لِعِبَادِهِ بِالْأَمر فَعلم أَنه أَمر لمن كَانَ مَوْجُودا حِينَئِذٍ أَن يحكموا بِمَا أنزل الله فِي الْإِنْجِيل وَالله أنزل فِي الْإِنْجِيل الْأَمر بِاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَمَا أَمر بِهِ فِي التَّوْرَاة فليحكموا بِمَا أنزل الله فِي الْإِنْجِيل مِمَّا لم ينسخه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَمَا أَمر أهل التَّوْرَاة أَن يحكموا بِمَا أنزلهُ مِمَّا لم ينسخه الْمَسِيح وَمَا نسخه فقد أمروا فِيهِ بِاتِّبَاع الْمَسِيح وَقد أمروا فِي الْإِنْجِيل بِاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لمن حكم من أهل الْكتاب بعد مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بِمَا أنزلهُ الله فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَلم يحكم بِمَا يُخَالف حكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانُوا مأمورين فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بِاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل}

وَقَالَ تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق}

فَجعل الْقُرْآن مهيمنا والمهيمن الشَّاهِد الْحَاكِم المؤتمن فَهُوَ يحكم بِمَا فِيهَا مِمَّا لم ينسخه الله وَيشْهد بِتَصْدِيق مَا فِيهَا مِمَّا لم يُبدل وَلِهَذَا قَالَ {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا}

وَقد ثَبت فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد هَذَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنه قَالَ إِن الْيَهُود جاؤوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَذكرُوا لَهُ أَن امْرَأَة مِنْهُم ورجلا زَنَيَا فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن الرَّجْم قَالُوا نفضحهم ويجلدون فَقَالَ عبد الله بن سَلام كَذبْتُمْ إِن فِيهَا الرَّجْم فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فنشروها فَوضع أحدهم يَده على آيَة الرَّجْم فَقَرَأَ مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا فَقَالَ لَهُ عبد الله ارْفَعْ يدك فَرفع يَده فَإِذا فِيهَا آيَة الرَّجْم فَقَالُوا صدق يَا مُحَمَّد فَأمر بهما النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا

وَأخرج البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ

أُتِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قد زَنَيَا فَانْطَلق حَتَّى جَاءَ يَهُودِيّ فَقَالَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة على من زنى قَالُوا نسود وُجُوههمَا وَيُطَاف بهما قَالَ فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين قَالَ فجاؤوا بهَا فقرؤوها حَتَّى إِذا مروا بِآيَة الرَّجْم وضع الْفَتى الَّذِي يقْرَأ يَده على آيَة الرَّجْم وَقَرَأَ مَا بَين يَديهَا وَمَا وَرَاءَهَا فَقَالَ عبد الله بن سَلام وَهُوَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مره فَليرْفَعْ يَده فَرَفعهَا فَإِذا تحتهَا آيَة الرَّجْم قَالُوا صدق فِيهَا آيَة الرَّجْم ولكننا نتكاتمه بَيْننَا وَإِن أحبارنا أَحْدَثُوا التحميم

ص: 52

والتحبية فَأمر رَسُول الله وَسلم برجمهما فَرُجِمَا

وَأخرج مُسلم عَن الْبَراء بن عَازِب رضي الله عنه أَنه قَالَ

مر على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ محمم مجلود فَدَعَاهُمْ فَقَالَ هَكَذَا تَجِدُونَ حد الزَّانِي فِي كتابكُمْ قَالُوا نعم فدعى رجلا من عُلَمَائهمْ فَقَالَ أنْشدك الله الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى أهكذا تَجِدُونَ حد الزَّانِي فِي كتابكُمْ قَالَ لَا وَلَوْلَا أَنَّك نشدتني بِهَذَا لم أخْبرك نجد الرَّجْم وَلكنه كثير فِي أشرافنا فَكُنَّا إِذا أَخذنَا الشريف تَرَكْنَاهُ وَإِذا أَخذنَا الضَّعِيف أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد فَقُلْنَا تَعَالَوْا فلنجتمع على شَيْء نقيمه على الشريف والوضيع فَجعلنَا التحميم وَالْجَلد مَكَان الرَّجْم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أول من أَحْيَا أَمرك إِذا أماتوه فَأمر بِهِ فرجم فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم} إِلَى قَوْله {فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} إِلَى {الظَّالِمُونَ} إِلَى {الْفَاسِقُونَ} قَالَ هِيَ فِي الْكَفَّارَة كلهَا

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر بن عبد الله أَنه قَالَ

رجم النَّبِي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم ورجلا من الْيَهُود وَأما السّنَن فَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن زيد بن أسلم عَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَنه قَالَ

أَتَى نفر من الْيَهُود فدعوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى القف فَأَتَاهُم فِي بَيت الْمدَارِس فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم إِن رجلا منا زنى بِامْرَأَة فاحكم بَينهم فوضعوا لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وسَادَة فَجَلَسَ عَلَيْهَا ثمَّ قَالَ ائْتُونِي التَّوْرَاة فَأتي بهَا فَنزع الوسادة من تَحْتَهُ وَوضع التَّوْرَاة عَلَيْهَا وَقَالَ آمَنت بك وبمن أنزلك ثمَّ قَالَ ائْتُونِي بأعمالكم فَأتي بشاب ثمَّ ذكر قصَّة الرَّجْم

وَأخرج أَيْضا ابو دَاوُد وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ

زنى رجل من الْيَهُود بِامْرَأَة فَقَالَ بَعضهم لبَعض اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِي فَإِنَّهُ نَبِي بعث بِالتَّخْفِيفِ فَإِن أَفتانا بِفُتْيَا دون الرَّجْم قبلناها واحتججنا بهَا عِنْد الله فَقُلْنَا نَبِي من أنبيائك قَالُوا فَأتوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم مَا ترى فِي رجل وَامْرَأَة مِنْهُم زَنَيَا فَلم يكلمهم كلمة حَتَّى أَتَى بَيت مدارسهم فَقَامَ على الْبَاب فَقَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة على من زنى إِذا أحصن

قَالُوا نحمم ونحبيه ونجلده والتحبية أَن يحمل الزانيان على حمَار ويقابل

ص: 53

أقفيتهما وَيُطَاف بهما قَالَ وَسكت شَاب مِنْهُم فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ساكتا أنْشدهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِذا نَشَدتنَا فَإنَّا نجد فِي التَّوْرَاة الرَّجْم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَمَا أول مَا ارتخصتم أَمر الله قَالَ زنى ذُو قرَابَة من ملك من مُلُوكنَا فَأخر عَنهُ الرَّجْم ثمَّ زنى رجل فِي أسرة من النَّاس فَأَرَادَ رجمه فحال قومه دونه وَقَالُوا لَا يرْجم صاحبنا حَتَّى تَجِيء بصاحبك فترجمه فَاصْطَلَحُوا هَذِه الْعقُوبَة بَينهم قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أحكم بِمَا فِي التَّوْرَاة فَأمر بهما فَرُجِمَا

قَالَ الزُّهْرِيّ فَبَلغنَا أَن هَذِه الْآيَة نزلت فيهم {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا}

وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهُم وَأَيْضًا فقد تحاكموا إِلَيْهِ فِي الْقود الَّذِي كَانَ بَين بني قُرَيْظَة وَالنضير وَكَانَ النَّضِير أشرف من قُرَيْظَة فَكَانَ إِذا قتل بعض إِحْدَى القبيلتين قَتِيلا من الْأُخْرَى فيقتلونه وَلم يضعفوا الدِّيَة وَإِذا قتل من الْقَبِيلَة الشَّرِيفَة قتلوا بِهِ وأضعفوا الدِّيَة

قَالَ أَبُو دَاوُد سلمَان بن الْأَشْعَث فِي سنَنه حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعلَا حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن عَليّ بن صَالح عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ قُرَيْظَة وَالنضير وَكَانَ النَّضِير أشرف من قُرَيْظَة فَكَانَ إِذا قتل رجل من قُرَيْظَة رجلا من النَّضِير قتل بِهِ وَإِذا قتل رجل من النَّضِير رجلا من قُرَيْظَة ودي مائَة وسق من تمر

فَلَمَّا بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النَّضِير رجلا من قُرَيْظَة فَقَالُوا ادفعوه إِلَيْنَا نَقْتُلهُ فَقَالُوا بَيْننَا وَبَيْنكُم مُحَمَّد فَأتوهُ فَنزلت {وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ}

والقسط النَّفس بِالنَّفسِ ثمَّ نزلت {أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ} قَالَ أَبُو دَاوُد قُرَيْظَة وَالنضير من ولد هَارُون

وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر وعَلى كل قَول فقد أخبر الله عز وجل أَن فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة بعد الْمَسِيح عليه السلام حكم الله وَأَن أهل الْكتاب الْيَهُود تركُوا حكم الله الَّذِي فِي التَّوْرَاة مَعَ كفرهم بالمسيح وَهَذَا ذمّ من الله لَهُم على مَا تَرَكُوهُ من حكمه الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكتاب الأول وَلم ينسخه الرَّسُول الثَّانِي

وَهَذَا من التبديل الثَّانِي الَّذِي ذموا عَلَيْهِ وَدلّ على أَن فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة بعد مبعث الْمَسِيح حكما أنزلهُ الله أمروا أَن يحكموا بِهِ وَهَكَذَا يُمكن أَن يُقَال فِي الْإِنْجِيل وَمَعْلُوم أَن

ص: 54

الحكم الَّذِي أمروا أَن يحكموا بِهِ من أَحْكَام التَّوْرَاة لم ينسخه الْإِنْجِيل وَلَا الْقُرْآن فَكَذَلِك مَا أمروا أَن يحكموا بِهِ من أَحْكَام الْإِنْجِيل هُوَ مِمَّا لم ينسخه الْقُرْآن وَذَلِكَ أَن الدّين الْجَامِع أَن يعبد الله وَحده وَيَأْمُر بِمَا أَمر الله بِهِ وَيحكم بِمَا أنزلهُ الله فِي أَي كتاب أنزلهُ وَلم ينسخه فَإِنَّهُ يحكم بِهِ

وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَب جَمَاهِير السّلف وَالْأَئِمَّة أَن شرع من قبلنَا شرع لنا مَا لم يرد شرعنا بِخِلَافِهِ وَمن حكم بِالشَّرْعِ الْمَنْسُوخ فَلم يحكم بِمَا أنزل الله كَمَا أَن الله أَمر أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَن يحكموا بِمَا أنزل الله فِي الْقُرْآن وَفِيه النَّاسِخ والمنسوخ فَهَكَذَا القَوْل فِي جنس الْكتب الْمنزلَة

قَالَ تَعَالَى سُورَة الْمَائِدَة الْآيَات 48 56

فقد أَمر نبيه مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَن يحكم بِمَا أنزل الله إِلَيْهِ وحذره اتِّبَاع أهوائهم وَبَين أَن الْمُخَالف لحكمه وَهُوَ حكم الْجَاهِلِيَّة حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}

ص: 55

وَأخْبرهُ تَعَالَى أَنه جعل لكل من أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن شرعة ومنهاجا وَأمره تَعَالَى بالحكم بِمَا أنزل الله أَمر عَام لأهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن لَيْسَ لأحد فِي وَقت من الْأَوْقَات أَن يحكم بِغَيْر مَا أنزل الله وَالَّذِي أنزلهُ الله هُوَ دين وَاحِد اتّفقت عَلَيْهِ الْكتب وَالرسل وهم متفقون فِي أصُول الدّين وقواعد الشَّرِيعَة وَإِن تنوعوا فِي الشرعة والمنهاج بَين نَاسخ ومنسوخ فَهُوَ شَبيه بتنوع حَال الْكتاب فَإِن الْمُسلمين كَانُوا أَولا مأمورين بِالصَّلَاةِ لبيت الْمُقَدّس ثمَّ أمروا أَن يصلوا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام وَفِي كلا الْأَمريْنِ إِنَّمَا اتبعُوا مَا أنزل الله عز وجل

وَكَذَلِكَ مُوسَى عليه السلام كَانَ مَأْمُورا بالسبت محرما عَلَيْهِ مَا حرمه الله فِي التَّوْرَاة وَهُوَ مُتبع مَا أنزلهُ الله عز وجل والمسيح صلى الله عليه وسلم أحل بعض مَا حرمه الله فِي التَّوْرَاة وَهُوَ مُتبع مَا أنزل الله عز وجل فَلَيْسَ فِي أَمر الله لأهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَن يحكموا بِمَا أنزل الله أَمر بِمَا نسخ كَمَا أَنه لَيْسَ فِي أَمر أهل الْقُرْآن أَن يحكموا بِمَا أنزل الله أَمر بِمَا نسخ بل كَانَ إِذا نَاسخ ومنسوخ فَالَّذِي أنزل الله هُوَ الحكم بالناسخ دون الْمَنْسُوخ فَمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بِغَيْر مَا أنزل الله وَمِمَّا يُوضح هَذَا قَوْله تَعَالَى {قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا فَلَا تأس على الْقَوْم الْكَافرين} فَإِن هَذَا يبين أَن هَذَا أَمر لمُحَمد صلى الله عليه وسلم أَن يَقُول لأهل الْكتاب الَّذِي بعث إِلَيْهِم أَنهم لَيْسُوا على شَيْء حَتَّى يقيموا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم فَدلَّ ذَلِك على أَنهم عِنْدهم مَا يعلم أَنه منزل من الله وَأَنَّهُمْ مأمورون بإقامته إِذا كَانَ ذَلِك مِمَّا قَرَّرَهُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَلم ينسخه وَمَعْلُوم أَن كل مَا أَمر الله بِهِ على لِسَان نَبِي وَلم ينسخه النَّبِي الثَّانِي بل أقره كَانَ الله آمرا بِهِ على لِسَان نَبِي بعد نَبِي وَلم يكن فِي بعثة الثَّانِي مَا يضاد وجوب اتِّبَاع مَا أَمر بِهِ النَّبِي الأول وَقَررهُ النَّبِي الثَّانِي

وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن الله ينْسَخ بِالْكتاب الثَّانِي جَمِيع مَا شَرعه بِالْكتاب الأول إِنَّمَا الْمَنْسُوخ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اتّفقت عَلَيْهِ الْكتب والشرائع

وَأَيْضًا فَفِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مَا دلّ على نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَإِذا حكم أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فيهمَا حكمُوا بِمَا أوجب عَلَيْهِم اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهَذَا يدل على أَن فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مَا يعلمُونَ أَن الله أنزلهُ إِذْ لَا يؤمرون أَن يحكموا بِمَا أنزل الله وَلَا يعلمُونَ

ص: 56

مَا أنزل الله وَالْحكم إِنَّمَا يكون فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالْعلم بِبَعْض مَعَاني الْكتب لَا يُنَافِي عدم الْعلم بِبَعْضِهَا وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الْمعَانِي فَإِن الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى متفقون على أَن فِي الْكتب الإلهية الْأَمر بِعبَادة الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَنه أرسل إِلَى الْخلق رسلًا من الْبشر وَأَنه أوجب الْعدْل وَحرم الظُّلم وَالْفَوَاحِش والشرك وأمثال ذَلِك من الشَّرَائِع الْكُلية وَأَن فِيهَا الْوَعْد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر وَقد تنازعوا فِي بعض مَعَانِيهَا وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير ذَلِك كَمَا اخْتلفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيح المبشر بِهِ النبوات هَل هُوَ الْمَسِيح بن مَرْيَم عليه السلام أَو مسيح آخر ينْتَظر والمسلمون يعلمُونَ أَن الصَّوَاب فِي هَذَا مَعَ النَّصَارَى لَكِن لَا يوافقنهم على مَا أَحْدَثُوا فِيهِ من الْإِفْك والشرك

وَكَذَلِكَ يُقَال إِذا بدل قَلِيل من ألفاظها الخبرية لم يمْنَع ذَلِك أَن يكون أَكثر ألفاظها لم يُبدل لَا سِيمَا إِذا كَانَ فِي نفس الْكتاب مَا يدل على الْمُبدل وَقد يُقَال إِن مَا بدل من أَلْفَاظ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَفِي نفس التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مَا يدل على تبديله فَبِهَذَا يحصل الْجَواب على شُبْهَة عَن يَقُول إِنَّه لم يُبدل شَيْء من ألفاظها فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِذا كَانَ التبديل قد وَقع فِي أَلْفَاظ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل قبل مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لم يعلم الْحق من الْبَاطِل فَسقط الِاحْتِجَاج بهما وَوُجُوب الْعَمَل بهما على أهل الْكتاب فَلَا يذمون حِينَئِذٍ على ترك اتباعهما وَالْقُرْآن قد ذمهم على ترك الحكم بِمَا فِيهَا وَاسْتشْهدَ بهما فِي مَوَاضِع وَجَوَاب ذَلِك أَن ماوقع من التبديل قَلِيل وَالْأَكْثَر لم يُبدل وَالَّذِي لم يُبدل فِيهِ أَلْفَاظ صَرِيحَة بَيِّنَة بِالْمَقْصُودِ تبين غلط مَا خالفها وَلها شَوَاهِد ونظائر مُتعَدِّدَة يصدق بَعْضهَا بَعْضًا بِخِلَاف الْمُبدل فَإِنَّهُ أَلْفَاظ قَليلَة وَسَائِر نُصُوص الْكتب يناقضها وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَة كتب الحَدِيث المنقولة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ إِذا وَقع فِي سنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَو غَيرهمَا أَحَادِيث قَليلَة ضَعِيفَة كَانَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا يبين ضعف تِلْكَ بل وَكَذَلِكَ صَحِيح مُسلم فِيهِ أَلْفَاظ قَليلَة غلط وَفِي نفس الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَعَ الْقُرْآن مَا يبين غلطها مثل مَا رُوِيَ أَن الله خلق التربة يَوْم السبت وَجعل خلق الْمَخْلُوقَات فِي الْأَيَّام السَّبْعَة فَإِن هَذَا الحَدِيث قد بَين أَئِمَّة الحَدِيث كيحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم أَنه غلط وَأَنه لَيْسَ فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم بل صرح البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير أَنه من كَلَام كَعْب الْأَحْبَار كَمَا قد بسط فِي مَوْضِعه وَالْقُرْآن يدل على غلط هَذَا وَبَين أَن الْخلق فِي سِتَّة أَيَّام وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن آخر الْخلق كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فَيكون أول الْخلق يَوْم الْأَحَد وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عليه وسلم صلى الْكُسُوف بركوعين أَو ثَلَاثَة فَإِن الثَّابِت الْمُتَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَغَيرهم أَنه صلى كل رَكْعَة بركوعين وَلِهَذَا لم يخرج البُخَارِيّ إِلَّا ذَلِك وَضعف الشَّامي وَالْبُخَارِيّ وَأحمد فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا

ص: 57

صلى الْكُسُوف مرّة فِي أحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَغَيرهم حَدِيث الثَّلَاثَة والأربع فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صلى مرّة وَاحِدَة وَفِي حَدِيث الثَّلَاث والأربع أَنه صلاهَا يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم ابْنه وَأَحَادِيث الركوعين كَانَت ذَلِك الْيَوْم فَمثل هَذَا الْغَلَط إِذا وَقع كَانَ فِي نفس الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا يبين أَنه غلط وَالْبُخَارِيّ إِذا روى الحَدِيث بطرق فِي بَعْضهَا غلط فِي بعض الْأَلْفَاظ ذكر مَعَه الطّرق الَّتِي تبين ذَلِك الْغَلَط كَمَا قد بسطنا الْكَلَام على ذَلِك فِي مَوْضِعه

فَكَذَلِك إِذا قيل أَنه وَقع تَبْدِيل فِي بعض أَلْفَاظ الْكتب الْمُتَقَدّمَة كَانَ فِي الْكتب مَا يبين ذَلِك الْغَلَط وَقد قدمنَا أَن الْمُسلمين لَا يدعونَ أَن كل نُسْخَة فِي الْعَالم من زمن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بِكُل لِسَان من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور بدلت ألفاظها فَإِن هَذَا لَا أعرف أحدا من السّلف قَالَه وَإِن كَانَ من الْمُتَأَخِّرين من قد يَقُول ذَلِك كَمَا فِي بعض الْمُتَأَخِّرين من يجوز الِاسْتِنْجَاء بِكُل مَا فِي الْعَالم من نسخ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَلَيْسَتْ هَذِه الْأَقْوَال وَنَحْوهَا من أَقْوَال سلف الْأمة وأئمتها وَعمر بن الْخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كَعْب الْأَحْبَار نُسْخَة من التَّوْرَاة قَالَ يَا كَعْب إِن كنت تعلم أَن هَذِه هِيَ التَّوْرَاة الَّتِي أنزلهَا الله على مُوسَى بن عمرَان فاقرأها فعلق الْأَمر على مَا يمْتَنع الْعلم بِهِ وَلم يجْزم عمر رضي الله عنه بِأَن أَلْفَاظ تِلْكَ مبدلة لما لم يتَأَمَّل كل مَا فِيهَا وَالْقُرْآن وَالسّنة المتواترة يدلان على أَن التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الْمَوْجُودين فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيهمَا مَا أنزلهُ الله عز وجل والجزم بتبديل ذَلِك فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي فِي الْعَالم مُتَعَذر وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكره وَلَا علم لنا بذلك وَلَا يُمكن أحدا من أهل الْكتاب أَن يَدعِي أَن كل نُسْخَة فِي الْعَالم بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَة من الْكتب متفقة على لفظ وَاحِد فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يُمكن أحدا من الْبشر أَن يعرفهُ بِاخْتِيَارِهِ وامتحانه وَإِنَّمَا يعلم مثل هَذَا بِالْوَحْي وَإِلَّا فَلَا يُمكن أحدا من الْبشر أَن يُقَابل كل نُسْخَة مَوْجُودَة فِي الْعَالم بل نُسْخَة من جَمِيع الْأَلْسِنَة بالكتب الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين وَقد رأيناها مُخْتَلفَة فِي الْأَلْفَاظ اخْتِلَافا بَينا والتوراة هِيَ أصح الْكتب وأشهرها عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمَعَ هَذَا فنسخة السامرة مُخَالفَة لنسخة الْيَهُود وَالنَّصَارَى حَتَّى فِي نفس الْكَلِمَات الْعشْر ذكر فِي نُسْخَة السامرة مِنْهَا من أَمر اسْتِقْبَال الطّور مَا لَيْسَ فِي نُسْخَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَهَذَا مِمَّا يبين أَن التبديل وَقع فِي كثير من نسخ هَذَا الْكتب فَإِن عِنْد السامرة نسخا مُتعَدِّدَة وَكَذَلِكَ رَأينَا فِي الزبُور نسخا مُتعَدِّدَة تخَالف بَعْضهَا بَعْضًا مُخَالفَة كَثِيرَة فِي كثير من الْأَلْفَاظ والمعاني يقطع من رَآهَا أَن كثيرا مِنْهَا كذب على زبور دَاوُد عليه السلام وَأما الأناجيل فالاضطراب فِيهَا أعظم مِنْهُ فِي التَّوْرَاة

فَإِن قيل فَإِذا كَانَت الْكتب الْمُتَقَدّمَة مَنْسُوخَة فلماذا ذمّ أهل الْكتاب عَن ترك الحكم بِمَا أنزل الله مِنْهَا قيل النّسخ لم يَقع إِلَّا فِي قَلِيل من الشَّرَائِع وَإِلَّا فالأخبار عَن الله وَعَن

ص: 58