الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأما قَوْله {لن يستنكف الْمَسِيح} الْآيَة وَقَوله {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} فَإِنَّهُ حكى قَوْلهم الَّذِي قَالُوهُ وهم قد نسبوه إِلَى الله أَنه ابْنه فَلم يضمنوا ذَلِك قَوْلهم الْمَسِيح ابْن مَرْيَم
وَقَوله {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} نفي للشركاء والأنداد يدْخل فِيهِ كل من جعل شَيْئا كفوا لله فِي شَيْء من خَواص الربوبية مثل خلق الْخلق والإلهية كالعبادة لَهُ ودعائه وَنَحْو ذَلِك
فَهَذِهِ نكت تبين اشْتِمَال كتاب الله على إبِْطَال قَول من يعْتَقد فِي أحد من الْبشر الإلهية باتحاد أَو حُلُول أَو غير ذَلِك
فصل
قَوْله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} سُورَة الْأَنْعَام 103
أَولا النزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بَين طوائف الإمامية كَمَا النزاع فِيهَا بَين غَيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وَطَائِفَة من غير الإمامية تنكرهَا والإمامية لَهُم فِيهَا قَولَانِ فجمهور قدمائهم يثبت الرُّؤْيَة وَجُمْهُور متأخريهم ينفونها وَقد تقدم أَن أَكثر قدمائهم يَقُولُونَ بالتجسيم
قَالَ الْأَشْعَرِيّ وكل المجمسة إِلَّا نَفرا قَلِيلا يَقُول بِإِثْبَات الرُّؤْيَة وَقد يثبت الرُّؤْيَة من لَا يَقُول بالتجسيم
قلت وَأما الصَّحَابَة والتابعون وأئمة الْإِسْلَام المعروفون بِالْإِمَامَةِ فِي الدّين كمالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وأمثال هَؤُلَاءِ وَسَائِر أهل السّنة والْحَدِيث والطوائف المنتسبين إِلَى السّنة وَالْجَمَاعَة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وَغَيرهم فَهَؤُلَاءِ كلهم متفقون على إِثْبَات الرُّؤْيَة لله تَعَالَى وَالْأَحَادِيث بهَا متواترة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْد أهل الْعلم بحَديثه
وَكَذَلِكَ الْآثَار بهَا متواترة عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وَقد ذكر الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْأَئِمَّة الْعَالمين أَقْوَال السّلف أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان متفقون على أَن الله يرى فِي الْآخِرَة بالأبصار ومتفقون على أَنه لَا يرَاهُ أحد فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِه وَلم يتنازعوا فِي ذَلِك
إِلَّا فِي نَبينَا صلى الله عليه وسلم خَاصَّة مِنْهُم من نفى رُؤْيَته بِالْعينِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْهُم من أثبتها وَقد بسطت هَذِه الْأَقْوَال والأدلة من الْجَانِبَيْنِ فِي غير هَذَا الْموضع وَالْمَقْصُود هُنَا نقل إِجْمَاع السّلف على إِثْبَات الرُّؤْيَة بِالْعينِ فِي الْآخِرَة ونفيها فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْخلاف فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَاصَّة
وَأما احتجاجه واحتجاج النفاة أَيْضا بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} سُورَة الْأَنْعَام 103 فالآية حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم لِأَن الْإِدْرَاك إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ مُطلق الرُّؤْيَة أَو الرُّؤْيَة الْمقيدَة بالإحاطة وألأول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ كل من رأى شَيْئا يُقَال أَنه أدْركهُ كَمَا لَا يُقَال أحَاط بِهِ كَمَا سُئِلَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن ذَلِك فَقَالَ أَلَسْت ترى السَّمَاء قَالَ بلَى قَالَ أكلهَا ترى قَالَ لَا
وَمن رأى جَوَانِب الْجَيْش أَو الْجَبَل أَو الْبُسْتَان أَو الْمَدِينَة لَا يُقَال أَنه أدْركهَا وَإِنَّمَا يُقَال أدْركهَا إِذا أحَاط بهَا رُؤْيَة وَنحن فِي هَذَا الْمقَام لَيْسَ علينا بَيَان ذَلِك وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا بَيَانا لسند الْمَنْع بل الْمُسْتَدلّ بِالْآيَةِ عَلَيْهِ أَن يبين أَن الْإِدْرَاك فِي لُغَة الْعَرَب مرادف للرؤية وَأَن كل من رأى شَيْئا يُقَال فِي لغتهم أَنه أدْركهُ وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ كَيفَ وَبَين لفظ الرُّؤْيَة وَلَفظ الْإِدْرَاك عُمُوم وخصوص أَو اشْتِرَاك لَفْظِي فقد تقع رُؤْيَة بِلَا إِدْرَاك وَقد يَقع إِدْرَاك بِلَا رُؤْيَة فَإِن الْإِدْرَاك يسْتَعْمل فِي إِدْرَاك الْعلم وَإِدْرَاك الْقُدْرَة فقد يدْرك الشَّيْء بِالْقُدْرَةِ وَإِن لم يُشَاهد كالأعمى الَّذِي طلب رجلا هَارِبا مِنْهُ فأدركه وَلم يره وَقد قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهدين} سُورَة الشُّعَرَاء 61 62 فنفى مُوسَى الْإِدْرَاك مَعَ إِثْبَات الترائي فَعلم أَنه قد يكون رُؤْيَة بِلَا إِدْرَاك والإدراك هُنَا هُوَ إِدْرَاك الْقُدْرَة أَي ملحقون محاط بِنَا وَإِذا انْتَفَى هَذَا الْإِدْرَاك فقد تَنْتفِي إحاطة الْبَصَر أَيْضا
وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن الله تَعَالَى ذكر هَذِه الْآيَة يمدح بهَا نَفسه سبحانه وتعالى وَمَعْلُوم أَن كَون الشَّيْء لَا يرى لَيْسَ صفة مدح لِأَن النَّفْي الْمَحْض لَا يكون مدحا إِن لم يتَضَمَّن أمرا ثبوتيا وَلِأَن الْمَعْدُوم أَيْضا لَا يرى والمعدوم لَا يمدح فَعلم أَن مُجَرّد نفي الرُّؤْيَة لَا مدح فِيهِ
وَهَذَا أصل مُسْتَمر وَهُوَ أَن الْعَدَم الْمَحْض الَّذِي لَا يتَضَمَّن ثبوتا لَا مدح فِيهِ وَلَا كَمَال فَلَا يمدح الرب نَفسه بِهِ بل وَلَا يُوصف نَفسه بِهِ وَإِنَّمَا يصفها بِالنَّفْيِ المتضمن معنى ثُبُوت كَقَوْلِه {لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} وَقَوله {من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَوله {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَوله {وَلَا يؤوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} سُورَة الْبَقَرَة 225 وَقَوله {لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الأَرْض} سُورَة سبأ 3 وَقَوله {وَمَا مسنا من لغوب}
سُورَة ق 38 وَنَحْو ذَلِك من القضايا السلبية الَّتِي يصف الرب تَعَالَى بهَا نَفسه وَأَنَّهَا تَتَضَمَّن اتصافه بِصِفَات الْكَمَال الثبوتية مثل كَمَال حَيَاته وقيوميته وَملكه وَقدرته وَعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية وَنَحْو ذَلِك وكل مَا يُوصف بِهِ الْعَدَم الْمَحْض فَلَا يكون إِلَّا عدما مَحْضا وَمَعْلُوم أَن الْعَدَم الْمَحْض يُقَال فِيهِ أَنه لَا يرى فَعلم أَن نفي الرُّؤْيَة عدم مَحْض وَلَا يُقَال فِي الْعَدَم الْمَحْض لَا يدْرك وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا فِيمَا لَا يدْرك لعظمته لَا لعدمه
وَإِذا كَانَ الْمَنْفِيّ هُوَ الْإِدْرَاك فَهُوَ سبحانه وتعالى لَا يحاط بِهِ رُؤْيَة كَمَا لَا يحاط بِهِ علما وَلَا يلْزم من نفي إحاطة الْعلم والرؤية نفي الْعلم والرؤية بل يكون ذَلِك دَلِيلا على أَنه يرى وَلَا يحاط بِهِ كَمَا يعلم وَلَا يحاط بِهِ فَإِن تَخْصِيص الْإِحَاطَة بِالنَّفْيِ يَقْتَضِي أَن مدرك الرُّؤْيَة لَيْسَ بمنفي وَهَذَا الْجَواب قَول أَكثر الْعلمَاء من السّلف وَغَيرهم وَقد رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وَغَيره وَقد رُوِيَ فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا تحْتَاج الْآيَة إِلَى تَخْصِيص وَلَا خُرُوج عَن ظَاهر الْآيَة فَلَا نحتاج أَن نقُول لَا نرَاهُ فِي الدُّنْيَا أَو نقُول لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار بل المبصرون أَو لَا تُدْرِكهُ كلهَا بل بَعْضهَا وَنَحْو ذَلِك من الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا تكلّف
ثمَّ نَحن فِي هَذَا الْمقَام يكفينا أَن نقُول الْآيَة تحْتَمل ذَلِك فَلَا يكون فِيهَا دلَالَة على نفي الرُّؤْيَة فَبَطل اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ بهَا على الرُّؤْيَة وَإِذا أردنَا أَن نثبت دلَالَة الْآيَة على الرُّؤْيَة مَعَ نَفيهَا للإدراك الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَة أَقَمْنَا الدّلَالَة على أَن الْإِدْرَاك فِي اللُّغَة لَيْسَ هُوَ مرادفا للرؤية بل هُوَ أخص مِنْهَا وأثبتنا ذَلِك باللغة لَيْسَ هُوَ مرادفا للرؤية بل هُوَ أخص مِنْهَا وأثبتنا ذَلِك باللغة وأقوال الْمُفَسّرين من السّلف وبأدلة أُخْرَى سمعية وعقلية