المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صفة الْمَخْلُوق هِيَ صفة الْخَالِق بل وَلَا مثلهَا بل فِيهَا - دقائق التفسير - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما لبن الْميتَة وأنفحتها فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران للْعُلَمَاء

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي عُقُوبَة الْمُحَاربين بَين وقطاع الطَّرِيق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قَالَ الشَّيْخ الْإِسْلَام رحمه الله

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي بطلَان الِاسْتِدْلَال بالمتشابه

- ‌فصل فِي ادِّعَاء النَّصَارَى أَن الْقُرْآن سوى بَين الْأَدْيَان

- ‌ فصل فِي كَفَّارَة الْيَمين

- ‌ فصل فِي معنى روح الْقُدس

- ‌فصل عِيسَى عبد الله وَرَسُوله

- ‌معنى التوفي

- ‌فصل فَسَاد قَول النَّصَارَى فِي أَن الْمَسِيح خَالق

- ‌الرَّد عَلَيْهِم

- ‌فصل

- ‌فَصِلَ

- ‌فصل

- ‌لَا أحب الآفلين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذَبَائِح أهل الْكتاب

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌ فصل

- ‌فَصْل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل عرض لما تضمنته السُّورَة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَسُئِلَ رحمه الله

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} الْآيَة فَمن سبقت لَهُ من الله الْحسنى فَلَا بُد أَن يصير مُؤمنا تقيا فَمن لم يكن من الْمُؤمنِينَ لم تسبق لَهُ من الله الْحسنى لَكِن الله إِذا سبقت للْعَبد مِنْهُ سَابِقَة اسْتَعْملهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يصل بِهِ إِلَى تِلْكَ السَّابِقَة كمن سبق

- ‌فصل وَأما قَول الْقَائِل مَا لنا فِي جَمِيع أفعالنا قدرَة فقد كذب فَإِن الله تَعَالَى فرق بَين المستطيع الْقَادِر وَغير المستطيع وَقَالَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف ثمَّ

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام فَقيل لَهُ

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

الفصل: صفة الْمَخْلُوق هِيَ صفة الْخَالِق بل وَلَا مثلهَا بل فِيهَا

صفة الْمَخْلُوق هِيَ صفة الْخَالِق بل وَلَا مثلهَا بل فِيهَا الدّلَالَة على الْفرق بَين صفة الْخَالِق وَبَين صفة الْمَخْلُوق فَلَيْسَ كَلَامه مثل كَلَامه وَلَا مَعْنَاهُ مثل مَعْنَاهُ وَلَا حرفه مثل حرفه وَلَا صَوته مثل صَوته كَمَا أَنه لَيْسَ علمه مثل علمه وَلَا قدرته مثل قدرته وَلَا سَمعه مثل سَمعه وَلَا بَصَره مثل بَصَره فَإِن الله لَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله

وَلما اسْتَقر فِي فطر الْخلق كلهم الْفرق بَين سَماع الْكَلَام من الْمُتَكَلّم بِهِ ابْتِدَاء وَبَين سَمَاعه من الْمبلغ عَنهُ كَانَ ظُهُور هَذَا الْفرق فِي سَماع كَلَام الله من المبلغين عَنهُ أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى الإطناب

وَقد بَين أَئِمَّة السّنة وَالْعلم كَالْإِمَامِ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ صَاحب الصَّحِيح فِي كِتَابه فِي خلق الْأَفْعَال وَغَيرهمَا من أَئِمَّة السّنة من الْفرق بَين صَوت الله المسموع مِنْهُ وَصَوت الْعباد بِالْقُرْآنِ وَغَيره مَا لَا يخالفهم فِيهِ أحد من الْعلمَاء أهل الْعقل وَالدّين

‌فصل

وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} فَهَذَا قد ذكره فِي موضِعين فَقَالَ فِي الحاقة {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ} فالرسول هُنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي التكوير {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين وَمَا صَاحبكُم بمجنون وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} فالرسول هُنَا جِبْرِيل فأضافه إِلَى الرَّسُول من الْبشر تَارَة وَإِلَى الرَّسُول من الْمَلَائِكَة تَارَة باسم الرَّسُول وَلم يقل إِنَّه لقَوْل ملك وَلَا نَبِي لِأَن لفظ الرَّسُول يبين أَنه مبلغ عَن غَيره لَا منشيء لَهُ من عِنْده {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} فَكَانَ قَوْله {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} بِمَنْزِلَة قَوْله لتبليغ رَسُول أَو مبلغ من رَسُول كريم أَو جَاءَ بِهِ رَسُول كريم أَو مسموع عَن رَسُول كريم وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه أنشأه أَو أحدثه أَو أنشأ شَيْئا مِنْهُ أَو أحدثه رَسُول كريم إِذْ لَو كَانَ منشئا لم يكن رَسُولا فِيمَا أنشأه وابتدأه وَإِنَّمَا يكون رَسُولا فِيمَا بلغه وَأَدَّاهُ وَمَعْلُوم أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى الْقُرْآن مُطلقًا

وَأَيْضًا فَلَو كَانَ أحد الرسولين أنشأ حُرُوفه ونظمه امْتنع أَن يكون الرَّسُول الآخر هُوَ المنشىء الْمُؤلف لَهَا فَبَطل أَن تكون إِضَافَته إِلَى الرَّسُول لأجل أَحْدَاث لَفظه ونظمه وَلَو جَازَ

ص: 183

أَن تكون الْإِضَافَة هُنَا لأجل إِحْدَاث الرَّسُول لَهُ أَو لشَيْء مِنْهُ لجَاز أَن نقُول إِنَّه قَول الْبشر وَهَذَا قَول الوحيد الَّذِي أصلاه الله سقر

فَإِن قَالَ قَائِل فالوحيد جعل الْجَمِيع قَول الْبشر وَنحن نقُول إِن الْكَلَام الْعَرَبِيّ قَول الْبشر وَأما مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَام الله

فَيُقَال لَهُم هَذَا نصف قَول الوحيد ثمَّ هَذَا بَاطِل من وُجُوه أُخْرَى

وَهُوَ أَن مَعَاني هَذَا النّظم معَان مُتعَدِّدَة متنوعة وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ ذَلِك الْمَعْنى وَاحِدًا هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار وتجعلون ذَلِك الْمَعْنى إِذا عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِذا عبر عَنهُ بالعبرانية كَانَ توراة وَإِذا عبر عَنهُ بالسُّرْيَانيَّة كَانَ إنجيلا وَهَذَا مِمَّا يعلم بُطْلَانه بِالضَّرُورَةِ من الْعقل وَالدّين فَإِن التَّوْرَاة إِذا عربناها لم يكن مَعْنَاهَا معنى الْقُرْآن وَالْقُرْآن إِذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن مَعْنَاهُ معنى التَّوْرَاة

وَأَيْضًا فَإِن معنى آيَة الْكُرْسِيّ لَيْسَ هُوَ معنى آيَة الدّين وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي معنى الْكَلَام ومسمى كَلَام الله كَمَا تشترك الْأَعْيَان فِي مُسَمّى النَّوْع فَهَذَا الْكَلَام وَهَذَا الْكَلَام وَهَذَا الْكَلَام كُله يشْتَرك فِي أَنه كَلَام الله اشْتِرَاك الْأَشْخَاص فِي أَنْوَاعهَا كَمَا أَن هَذَا الْإِنْسَان وَهَذَا الْإِنْسَان وَهَذَا الْإِنْسَان يشتركون فِي مُسَمّى الْإِنْسَان وَلَيْسَ فِي الْخَارِج خص بِعَيْنِه هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِج كَلَام وَاحِد هُوَ معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَهُوَ معنى آيَة الدّين وَآيَة الْكُرْسِيّ

وَمن خَالف هَذَا كَانَ فِي مُخَالفَته لصريح الْمَعْقُول من جنس من قَالَ إِن أصوات الْعباد وأفعالهم قديمَة أزلية فَاضْرب بِكَلَام البدعتين رَأس قائلهما والزم الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ

وبسبب هَاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الْفِتَن وعظمت الإحن وَإِن كَانَ كل من أَصْحَاب الْقَوْلَيْنِ قد يفسرونهما بِمَا قد يلتبس على كثير من النَّاس كَمَا فسر من قَالَ إِن الصَّوْت المسموع من العَبْد أَو بعضه قديم وَأَن الْقَدِيم ظهر فِي الْمُحدث من غير حُلُول فِيهِ

وَأما أَفعَال الْعباد فَرَأَيْت بعض الْمُتَأَخِّرين يزْعم أَنَّهَا قديمَة خَيرهَا وشرها وَفسّر ذَلِك بِأَن الشَّرْع قديم وَالْقدر قديم وَهِي مَشْرُوعَة مقدرَة وَلم يفرق بَين الشَّرْع الَّذِي هُوَ كَلَام الله والمشروع الَّذِي هُوَ الْمَأْمُور بِهِ والمنهي عَنهُ وَلم يفرق بَين الْقدر الَّذِي هُوَ علم الله وَكَلَامه وَبَين الْمَقْدُور الَّذِي هُوَ مخلوقاته والعقلاء كلهم يعلمُونَ بالاضطرار أَن الْأَمر وَالْخَبَر نَوْعَانِ للْكَلَام لَفظه وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمر وَالْخَبَر صِفَات لموصوف وَاحِد فَمن جعل الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر صِفَات للْكَلَام لَا أنواعا لَهُ فقد خَالف ضَرُورَة الْعقل وَهَؤُلَاء فِي هَذَا بِمَنْزِلَة من زعم أَن الْوُجُود

ص: 184

وَاحِد إِذْ لم يفرق بَين الْوَاحِد بالنوع وَالْوَاحد بِالْعينِ فَإِن انقسام الْمَوْجُود إِلَى الْقَدِيم والمحدث وَالْوَاجِب والممكن والخالق والمخلوق والقائم بِنَفسِهِ والقائم بِغَيْرِهِ كانقسام الْكَلَام إِلَى الْأَمر وَالْخَبَر أَو إِلَى الْإِنْشَاء والإخبار أَو إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر فَمن قَالَ الْكَلَام معنى وَاحِد هُوَ الْأَمر وَالْخَبَر فَهُوَ كمن قَالَ الْوُجُود وَاحِد هُوَ الْخَالِق والمخلوق أَو الْوَاجِب والممكن وكما أَن حَقِيقَة هَذَا تؤول إِلَى تَعْطِيل الْخَالِق فحقيقة هَذَا تؤول إِلَى تَعْطِيل كَلَامه وتكليمه

وَهَذَا حَقِيقَة قَول فِرْعَوْن الَّذِي أنكر الْخَالِق وتكليمه لمُوسَى وَلِهَذَا آل الْأَمر بمحقق هَؤُلَاءِ إِلَى تَعْظِيم فِرْعَوْن وتوليه وتصديقه فِي قَوْله {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} بل إِلَى تَعْظِيمه على مُوسَى وَإِلَى الاستحقار بِتَكْلِيم الله لمُوسَى كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع

وَأَيْضًا فَيُقَال مَا تَقول فِي كَلَام كل مُتَكَلم إِذا نَقله عَنهُ غَيره كَمَا قد ينْقل كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء وَالشعرَاء وَغَيرهم وَيسمع من الروَاة أَو المبلغين أَن ذَلِك المسموع من الْمبلغ بِصَوْت الْمبلغ هُوَ كَلَام الْمبلغ أَو كَلَام الْمبلغ عَنهُ

فَإِن قَالَ كَلَام الْمبلغ لزم أَن يكون الْقُرْآن كلَاما لكل من سمع مِنْهُ فَيكون الْقُرْآن المسموع كَلَام ألف ألف قارىء لَا كَلَام الله تَعَالَى وَأَن يكون قَوْله إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ونظائره كَلَام كل من رَوَاهُ لَا كَلَام الرَّسُول وَحِينَئِذٍ فَلَا فَضِيلَة لِلْقُرْآنِ {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} فَإِنَّهُ على قَول هَؤُلَاءِ قَول كل مُنَافِق قَرَأَهُ وَالْقُرْآن يقرأه الْمُؤمن وَالْمُنَافِق كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب وَمثل الْمُؤمن الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن مثل التمرة طعمها طيب وَلَا ريح لَهَا وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مثل الريحانة رِيحهَا طيب وطعمها مر وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن مثل الحنظلة طعمها مر وَلَا ريح لَهَا وعَلى هَذَا التَّقْدِير فَلَا يكون الْقُرْآن قَول بشر وَاحِد بل قَول ألف ألف بشر وَأكْثر من ذَلِك وَفَسَاد هَذَا فِي الْعقل وَالدّين وَاضح

وَإِن قَالَ كَلَام الْمبلغ عَنهُ علم أَن الرَّسُول الْمبلغ لِلْقُرْآنِ لَيْسَ الْقُرْآن كَلَامه وَلكنه كَلَام الله وَلَكِن لما كَانَ الرَّسُول الْملك قد يُقَال إِنَّه شَيْطَان بَين الله أَنه تَبْلِيغ ملك كريم لَا تَبْلِيغ شَيْطَان رجيم وَلِهَذَا قَالَ {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين} إِلَى قَوْله {وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم} وَبَين فِي هَذِه الْآيَة أَن الرَّسُول البشري الَّذِي صحبناه وسمعناه مِنْهُ لَيْسَ بمجنون وَمَا هُوَ على الْغَيْب بمتهم وَذكره باسم الصاحب لما فِي ذَلِك

ص: 185

من النِّعْمَة بِهِ علينا إِذْ كُنَّا لَا نطيق أَن نتلقى إِلَّا عَمَّن صحبناه وَكَانَ من جنسنا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} وَقَالَ {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} وَبَين أَن الرَّسُول الَّذِي من أَنْفُسنَا وَالرَّسُول الملكي أَنَّهُمَا مبلغان فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيق أَنه كَلَام الله

فَلَمَّا كَانَ الرَّسُول البشري يُقَال إِنَّه مَجْنُون أَو مفتر نزهه عَن هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَة الْأُخْرَى قَالَ {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ تَنْزِيل من رب الْعَالمين} وَهَذَا مِمَّا يبين أَنه إِضَافَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بلغه وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أحدثه وأنشأه فَإِنَّهُ قَالَ {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين نزل بِهِ الرّوح الْأمين} فَجمع بَين قَوْله {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} وَبَين قَوْله {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين} والضميران عائدان إِلَى وَاحِد فَلَو كَانَ الرَّسُول أحدثه وأنشأه لم يكن تَنْزِيلا من رب الْعَالمين بل كَانَ يكون تَنْزِيلا من الرَّسُول وَمن جعل الضَّمِير فِي هَذَا عَائِدًا إِلَى غير مَا يعود إِلَيْهِ الضَّمِير الآخر مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يَقْتَضِي اخْتِلَاف الضميرين وَمن قَالَ أَن هَذَا عبارَة عَن كَلَام الله فَقل لَهُ هَذَا الَّذِي تَقْرَأهُ أهوَ عبارَة عَن الْعبارَة الَّتِي أحدثها الرَّسُول الْملك أَو الْبشر على زعمك أم هُوَ نفس تِلْكَ الْعبارَة فَإِن جعلت هَذَا عبارَة عَن تِلْكَ الْعبارَة جَازَ أَن تكون عبارَة جِبْرِيل أَو الرَّسُول عبارَة عَن عبارَة الله وَحِينَئِذٍ فَيبقى النزاع لفظيا فَإِنَّهُ مَتى قَالَ إِن مُحَمَّدًا سَمعه من جِبْرِيل جَمِيعه وَجِبْرِيل سَمعه من الله جَمِيعه والمسلمون سَمِعُوهُ من الرَّسُول جَمِيعه فقد قَالَ الْحق وَبعد هَذَا فَقَوله عبارَة لأجل التَّفْرِيق بَين التَّبْلِيغ والمبلغ عَنهُ كَمَا سنبينه

وَإِن قلت لَيْسَ هَذَا عبارَة عَن تِلْكَ الْعبارَة بل هُوَ نفس تِلْكَ الْعبارَة فقد جعلت مَا يسمع من الْمبلغ هُوَ بِعَيْنِه مَا يسمع من الْمبلغ عَنهُ إِذْ جعلت هَذِه الْعبارَة هِيَ بِعَينهَا عبارَة جِبْرِيل فَحِينَئِذٍ هَذَا يبطل أصل قَوْلك

وَاعْلَم أَن أصل القَوْل بالعبارة أَن أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب هُوَ أول من قَالَ فِي الْإِسْلَام إِن معنى الْقُرْآن كَلَام الله وحروفه لَيست كَلَام الله فَأخذ بِنصْف قَول الْمُعْتَزلَة وَنصف قَول أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَكَانَ قد ذهب إِلَى إِثْبَات الصِّفَات لله تَعَالَى

ص: 186

وَخَالف الْمُعْتَزلَة فِي ذَلِك وَأثبت الْعُلُوّ لله على الْعَرْش ومباينة الْمَخْلُوقَات وَقرر ذَلِك تقريرا هُوَ أكمل من تَقْرِير أَتْبَاعه بعده وَكَانَ النَّاس قد تكلمُوا فِيمَن بلغ كَلَام غَيره هَل يُقَال لَهُ حِكَايَة عَنهُ أم لَا وَأكْثر الْمُعْتَزلَة قَالُوا هُوَ حِكَايَة عَنهُ فَقَالَ ابْن كلاب الْقُرْآن الْعَرَبِيّ حِكَايَة عَن كَلَام الله لَيْسَ بِكَلَام الله

فجَاء بِعَهْد أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فسلك مسلكه فِي إِثْبَات أَكثر الصِّفَات وَفِي مَسْأَلَة الْقُرْآن أَيْضا واستدرك عَلَيْهِ قَوْله أَن هَذَا حِكَايَة وَقَالَ الْحِكَايَة إِنَّمَا تكون مثل المحكي فَهَذَا يُنَاسب قَول الْمُعْتَزلَة وَإِنَّمَا يُنَاسب قَوْلنَا أَن نقُول هُوَ عبارَة عَن كَلَام الله لِأَن الْكَلَام لَيْسَ من جنس الْعبارَة فَأنْكر أهل السّنة وَالْجَمَاعَة عَلَيْهِم عدَّة أُمُور

أَحدهَا قَوْلهم إِن الْمَعْنى كَلَام الله وَإِن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لَيْسَ كَلَام الله وَكَانَت الْمُعْتَزلَة تَقول هُوَ كَلَام الله وَهُوَ مَخْلُوق فَقَالَ هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوق وَلَيْسَ بِكَلَام الله لِأَن من أصُول أهل السّنة أَن الصّفة إِذا قَامَت بِمحل عَاد حكمهَا على ذَلِك الْمحل فَإِذا قَامَ الْكَلَام بِمحل كَانَ هُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ كَمَا أَن الْعلم وَالْقُدْرَة إِذا قاما بِمحل كَانَ هُوَ الْعَالم الْقَادِر وَكَذَلِكَ الْحَرَكَة وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ على الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من الْجَهْمِية فِي قَوْلهم إِن كَلَام الله مَخْلُوق خلقه فِي بعض الْأَجْسَام قَالُوا لَهُم لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ الْكَلَام كَلَام ذَلِك الْجِسْم الَّذِي خلقه فِيهِ فَكَانَت الشَّجَرَة هِيَ القائلة {إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} فَقَالَ أَئِمَّة الْكلابِيَّة إِذا كَانَ الْقُرْآن الْعَرَبِيّ مخلوقا لم يكن كَلَام الله فَقَالَ طَائِفَة من متأخريهم بل نقُول الْكَلَام مقول بالاشتراك بَين الْمَعْنى الْمُجَرّد وَبَين الْحُرُوف الْمَنْظُومَة فَقَالَ لَهُم الْمُحَقِّقُونَ فَهَذَا يبطل أصل حجتكم على الْمُعْتَزلَة فَإِنَّكُم إِذا سلمتم أَن مَا هُوَ كَلَام الله حَقِيقَة لَا يُمكن قِيَامه بِهِ بل بِغَيْرِهِ أمكن الْمُعْتَزلَة أَن يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامه إِلَّا مَا خلقه فِي غَيره

الثَّانِي قَوْلهم إِن ذَلِك الْمَعْنى هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر وَهُوَ معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَقَالَ أَكثر الْعُقَلَاء هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُوم الْفساد بضرورة الْعقل

الثَّالِث أَن مَا نزل بِهِ جِبْرِيل من الْمَعْنى وَاللَّفْظ وَمَا بلغه مُحَمَّد لأمته من الْمَعْنى وَاللَّفْظ لَيْسَ هُوَ كَلَام الله

وَمَسْأَلَة الْقُرْآن لَهَا طرفان أَحدهمَا تكلم الله بِهِ وَهُوَ أعظم الطَّرفَيْنِ وَالثَّانِي تَنْزِيله إِلَى خلقه وَالْكَلَام فِي هَذَا سهل بعد تَحْقِيق الأول وَقد بسطنا الْكَلَام فِي ذَلِك فِي عدَّة مَوَاضِع وَبينا مقالات أهل الأَرْض كلهم فِي هَذِه الْمسَائِل وَمَا دخل فِي ذَلِك من الِاشْتِبَاه ومأخذ كل طَائِفَة وَمعنى قَول السّلف الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق وَأَنَّهُمْ قصدُوا بِهِ إبِْطَال

ص: 187