الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلهم وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لنسائه من أبرأتني مِنْكُن من صَدَاقهَا فَهِيَ طَالِق فأبرأنه كُلهنَّ طلقن كُلهنَّ فَإِن الْمَقْصُود بقوله مِنْكُم بَيَان جنس الْمُعْطِي والمبرىء لَا إِثْبَات هَذَا الحكم لبَعض العبيد والأزواج
فَإِن قيل فَهَذَا كَمَا لَا يمْنَع أَن يكون كل الْمَذْكُور متصفا بِهَذِهِ الصّفة فَلَا يُوجب ذَلِك أَيْضا فَلَيْسَ فِي قَوْله {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات} مَا يَقْتَضِي أَن يَكُونُوا كلهم كَذَلِك
قيل نعم وَنحن لَا ندعي أَن مُجَرّد هَذَا اللَّفْظ دلّ على أَن جَمِيعهم موصوفون بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَلَكِن مقصودنا أَن من لَا يُنَافِي شُمُول هَذَا الْوَصْف لَهُم فَلَا يَقُول قَائِل إِن الْخطاب دلّ على أَن الْمَدْح شملهم وعمهم بقوله {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} إِلَى آخر الْكَلَام وَلَا ريب أَن هَذَا مدح لَهُم بِمَا ذكر من الصِّفَات وَهُوَ الشدَّة على الْكفَّار وَالرَّحْمَة بَينهم وَالرُّكُوع وَالسُّجُود يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا والسيما فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود وَأَنَّهُمْ يبتدؤون من ضعف إِلَى كَمَال الْقُوَّة والاعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة وَالْأَجْر الْعَظِيم لَيْسَ على مُجَرّد هَذِه الصِّفَات بل على الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَذكر مَا بِهِ يسْتَحقُّونَ الْوَعْد وَإِن كَانُوا كلهم بِهَذِهِ الصّفة وَلَوْلَا ذكر ذَلِك لَكَانَ يظنّ أَنهم بِمُجَرَّد مَا ذكر يسْتَحقُّونَ الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم وَلم يكن فِيهِ بَيَان سَبَب الْجَزَاء بِخِلَاف مَا إِذا ذكر الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَإِن الحكم إِذا علق باسم مُشْتَقّ مُنَاسِب كَانَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق سَبَب الحكم
فصل
فِي قَول إِبْرَاهِيم
لَا أحب الآفلين
ظن هَؤُلَاءِ أَن قَول إِبْرَاهِيم عليه السلام {هَذَا رَبِّي} سُورَة الْأَنْعَام 77 أَرَادَ بِهِ هَذَا خَالق السَّمَاوَات وَالْأَرْض الْقَدِيم الأزلي وَأَنه اسْتدلَّ على حُدُوثه بالحركة
وَهَذَا خطأ من وُجُوه
أَحدهَا أَن قَول الْخَلِيل {هَذَا رَبِّي} سَوَاء قَالَه على سَبِيل التَّقْدِير لتقريع قومه أَو على سَبِيل الِاسْتِدْلَال والترقي أَو غير ذَلِك لَيْسَ المُرَاد بِهِ هَذَا رب الْعَالمين الْقَدِيم الأزلي الْوَاجِب الْوُجُود بِنَفسِهِ وَلَا كَانَ قومه يَقُولُونَ إِن الْكَوَاكِب أَو الْقَمَر أَو الشَّمْس رب الْعَالمين الأزلي الْوَاجِب الْوُجُود بِنَفسِهِ وَلَا قَالَ هَذَا أحد من أهل المقالات الْمَعْرُوفَة الَّتِي ذكرهَا النَّاس لَا من مقالات أهل التعطيل والشرك الَّذين يعْبدُونَ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب وَلَا من مقالات غَيرهم بل قوم إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم كَانُوا يتخذونها أَرْبَابًا يدعونها ويتقربون إِلَيْهَا بِالْبِنَاءِ عَلَيْهَا والدعوة لَهَا وَالسُّجُود والقرابين وَغير ذَلِك وَهُوَ دين الْمُشْركين الَّذين صنف الرَّازِيّ كِتَابه على طريقتهم وَسَماهُ السِّرّ المكتوم فِي دَعْوَة الْكَوَاكِب والنجوم وَالسحر والطلاسم والعزائم
وَهَذَا دين الْمُشْركين من الصابئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطو وَأَمْثَاله من أهل هَذَا الدّين وَكَلَامه مَعْرُوف فِي السحر الطبيعي الروحاني والكتب الْمَعْرُوفَة بذخيرة الْإِسْكَنْدَر بن فيلبس الَّذِي يؤرخون بِهِ وَكَانَ قبل الْمَسِيح بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَة سنة
وَكَانَت اليونان مُشْرِكين يعْبدُونَ الْأَوْثَان كَمَا كَانَ قوم إِبْرَاهِيم مُشْرِكين يعْبدُونَ الْأَوْثَان وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل {إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين} سُورَة الزخرف 26 27 وَقَالَ {أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} سُورَة الشُّعَرَاء 75 77 وأمثال ذَلِك مِمَّا يبين تبرؤه مِمَّا يعبدوه غير الله
وَهَؤُلَاء الْقَوْم عامتهم من نفاة صِفَات الله وأفعاله الْقَائِمَة بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَب الفلاسفة الْمَشَّائِينَ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّه لَيْسَ لَهُ صفة ثبوتية بل صِفَاته إِمَّا سلبية وَإِمَّا إضافية وَهُوَ مَذْهَب القرامطة الباطنية الْقَائِلين بدعوة الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالسُّجُود لَهَا كَمَا كَانَ على ذَلِك من كَانَ عَلَيْهِ من بني عبيد مُلُوك الْقَاهِرَة وأمثالهم
فالشرك الَّذِي نهى عَنهُ الْخَلِيل وعادى أَهله عَلَيْهِ كَانَ أَصْحَابه هم أَئِمَّة هَؤُلَاءِ النفاة للصفات وَالْأَفْعَال وَأول من أظهر هَذَا النَّفْي فِي الْإِسْلَام الْجَعْد بن دِرْهَم معلم مَرْوَان ابْن مُحَمَّد
قَالَ الإِمَام أَحْمد وَكَانَ يُقَال إِنَّه من أهل حران وَعنهُ أَخذ الجهم بن صَفْوَان مَذْهَب نفاة الصِّفَات وَكَانَ بحران أَئِمَّة هَؤُلَاءِ الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هَذَا الدّين أهل الشّرك وَنفي الصِّفَات وَالْأَفْعَال وَلَهُم مصنفات فِي دَعْوَة الْكَوَاكِب كَمَا صنفه ثَابت بن قُرَّة وَأَمْثَاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أَبُو معشر الْبَلْخِي وَأَمْثَاله وَكَانَ لَهُم بهَا هيكل الْعلَّة الأولى وهيكل الْعقل الفعال وهيكل النَّفس الْكُلية وهيكل زحل وهيكل المُشْتَرِي وهيكل المريخ وهيكل الشَّمْس وهيكل الزهرة وهيكل عُطَارِد وهيكل الْقَمَر وَقد بسط هَذَا فِي هَذَا الْموضع
الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَو كَانَ المُرَاد بقوله {هَذَا رَبِّي} أَنه رب الْعَالمين لكَانَتْ قصَّة الْخَلِيل حجَّة على نقيض مطلوبهم لِأَن الْكَوَاكِب وَالْقَمَر وَالشَّمْس مَا زَالَ متحركا من حِين بزوغه إِلَى عِنْد أفوله وغروبه وَهُوَ جسم متحرك متحيز صَغِير فَلَو كَانَ مُرَاده هَذَا للَزِمَ أَن يُقَال إِن إِبْرَاهِيم لم يَجْعَل الْحَرَكَة والانتقال مَانِعَة من كَون المتحرك الْمُنْتَقل رب الْعَالمين بل وَلَا كَونه صَغِيرا بِقدر الْكَوْكَب وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَهَذَا مَعَ كَونه لَا يَظُنّهُ عَاقل مِمَّن هُوَ دون إِبْرَاهِيم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَإِن جوزوه عَلَيْهِ كَانَ حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم
الْوَجْه الثَّالِث أَن الأفول هُوَ المغيب والاحتجاب لَيْسَ هُوَ مُجَرّد الْحَرَكَة والانتقال وَلَا يَقُول أحد لَا من أهل اللُّغَة وَلَا من أهل التَّفْسِير إِن الشَّمْس وَالْقَمَر فِي حَال ميسرهما فِي السَّمَاء إنَّهُمَا آفلان وَلَا يَقُول للكواكب المرئية فِي السَّمَاء فِي حَال ظُهُورهَا وجريانها إِنَّهَا آفلة وَلَا يَقُول عَاقل لكل من مَشى وسافر وطار إِنَّه آفل
الْوَجْه الرَّابِع أَن هَذَا القَوْل الَّذِي قَالُوهُ لم يقلهُ أحد من عُلَمَاء السّلف أهل التَّفْسِير وَلَا بُد من أهل اللُّغَة بل هُوَ من التفسيرات المبتدعة فِي الْإِسْلَام كَمَا ذكر ذَلِك عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ وَغَيره من عُلَمَاء السّنة وبينوا أَن هَذَا من التَّفْسِير المبتدع
وبسبب هَذَا الابتداع أَخذ ابْن سينا وَأَمْثَاله لفظ الأفول بِمَعْنى الْإِمْكَان كَمَا قَالَ فِي إشاراته
قَالَ قوم إِن هَذَا الشَّيْء المحسوس مَوْجُود لذاته وَاجِب لنَفسِهِ لَكِن إِذا تذكرت مَا
قيل فِي شَرط وَاجِب الْوُجُود لم تَجِد هَذَا المحسوس وَاجِبا وتلوث قَوْله تَعَالَى {لَا أحب الآفلين} سُورَة الْأَنْعَام 76 فَإِن الْهوى فِي حَظِيرَة الْإِمْكَان أفول مَا فَهَذَا قَوْله
وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من لُغَة الْعَرَب أَنهم لَا يسمون كل مَخْلُوق مَوْجُود آفلا وَلَا كل مَوْجُود بِغَيْرِهِ آفلا وَلَا كل مَوْجُود يجب وجوده بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ آفلا وَلَا مَا كَانَ من هَذِه الْمعَانِي الَّتِي يعنيها هَؤُلَاءِ بِلَفْظ الْإِمْكَان بل هَذَا أعظم افتراء على الْقُرْآن واللغة من تَسْمِيَة كل متحرك آفلا وَلَو كَانَ الْخَلِيل أَرَادَ بقوله {لَا أحب الآفلين} سُورَة الْأَنْعَام 76 هَذَا الْمَعْنى لم ينْتَظر مغيب الْكَوْكَب وَالشَّمْس وَالْقَمَر ففساد قَول هَؤُلَاءِ المتفلسفة فِي الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أظهر من فَسَاد قَول أُولَئِكَ
وأعجب من هَذَا قَول من قَالَ فِي تَفْسِيره إِن هَذَا قَول الْمُحَقِّقين
واستعارته لفظ الْهوى والحظيرة لَا يُوجب تَبْدِيل اللُّغَة الْمَعْرُوفَة فِي معنى الأفول فَإِن وضع هُوَ لنَفسِهِ وضعا آخر فَلَيْسَ لَهُ أَن يَتْلُو عَلَيْهِ كتاب الله تَعَالَى فيبدله أَو يحرفه
وَقد ابتدعت القرامطة الباطنية تَفْسِيرا آخر كَمَا ذكره أَبُو حَامِد فِي بعض مصنفاته كمشكاة الْأَنْوَار وَغَيرهَا أَن الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر هِيَ النَّفس وَالْعقل الفعال وَالْعقل الأول وَنَحْو ذَلِك
وشبهتهم فِي ذَلِك أَن إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم أجل من أَن يَقُول لمثل هَذِه الْكَوَاكِب إِنَّه رب الْعَالمين بِخِلَاف مَا ادعوهُ من النَّفس وَمن الْعقل الفعال الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه رب كل مَا تَحت فلك الْقَمَر وَالْعقل الأول الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه مبدع الْعَالم كُله
وَقَول هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ من دين الْإِسْلَام فابتداع أُولَئِكَ طرق مثل هَؤُلَاءِ على هَذَا الْإِلْحَاد
وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار من لُغَة الْعَرَب أَن هَذِه الْمعَانِي لَيست هِيَ الْمَفْهُوم من لفظ الْكَوْكَب وَالْقَمَر وَالشَّمْس
وَأَيْضًا فَلَو قدر أَن ذَلِك يُسمى كوكبا وقمرا وشمسا بِنَوْع من التَّجَوُّز فَهَذَا غَايَته أَن يسوغ للْإنْسَان أَن يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي ذَلِك لكنه لَا يُمكنهُ أَن يَدعِي أَن أهل اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن كَانُوا يُرِيدُونَ أَن يَدعِي أَن أهل اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن كَانُوا يُرِيدُونَ هَذَا بِهَذَا