المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وَسُئِلَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الحبر الْكَامِل شيخ الْإِسْلَام ومفتي الْأَنَام - دقائق التفسير - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما لبن الْميتَة وأنفحتها فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران للْعُلَمَاء

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي عُقُوبَة الْمُحَاربين بَين وقطاع الطَّرِيق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قَالَ الشَّيْخ الْإِسْلَام رحمه الله

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي بطلَان الِاسْتِدْلَال بالمتشابه

- ‌فصل فِي ادِّعَاء النَّصَارَى أَن الْقُرْآن سوى بَين الْأَدْيَان

- ‌ فصل فِي كَفَّارَة الْيَمين

- ‌ فصل فِي معنى روح الْقُدس

- ‌فصل عِيسَى عبد الله وَرَسُوله

- ‌معنى التوفي

- ‌فصل فَسَاد قَول النَّصَارَى فِي أَن الْمَسِيح خَالق

- ‌الرَّد عَلَيْهِم

- ‌فصل

- ‌فَصِلَ

- ‌فصل

- ‌لَا أحب الآفلين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذَبَائِح أهل الْكتاب

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ فصل

- ‌ فصل

- ‌فَصْل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل عرض لما تضمنته السُّورَة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَسُئِلَ رحمه الله

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام

- ‌فصل

- ‌فصل وَأما قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} الْآيَة فَمن سبقت لَهُ من الله الْحسنى فَلَا بُد أَن يصير مُؤمنا تقيا فَمن لم يكن من الْمُؤمنِينَ لم تسبق لَهُ من الله الْحسنى لَكِن الله إِذا سبقت للْعَبد مِنْهُ سَابِقَة اسْتَعْملهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يصل بِهِ إِلَى تِلْكَ السَّابِقَة كمن سبق

- ‌فصل وَأما قَول الْقَائِل مَا لنا فِي جَمِيع أفعالنا قدرَة فقد كذب فَإِن الله تَعَالَى فرق بَين المستطيع الْقَادِر وَغير المستطيع وَقَالَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف ثمَّ

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام فَقيل لَهُ

- ‌ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

الفصل: ‌ ‌فصل وَسُئِلَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الحبر الْكَامِل شيخ الْإِسْلَام ومفتي الْأَنَام

‌فصل

وَسُئِلَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل

الحبر الْكَامِل شيخ الْإِسْلَام ومفتي الْأَنَام تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية أيده الله وزاده من فَضله الْعَظِيم عَن الصَّبْر الْجَمِيل فِي قَوْله تَعَالَى {فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} و {الصفح} الهجر الْجَمِيل وَمَا أَقسَام التَّقْوَى وَالصَّبْر الَّذِي عَلَيْهِ النَّاس

فَأجَاب رحمه الله

الْحَمد لله أما بعد الله أَمر نبيه بالهجر الْجَمِيل والصفح الْجَمِيل وَالصَّبْر الْجَمِيل فالهجر الْجَمِيل هجر بِلَا أَذَى والصفح الْجَمِيل صفح بِلَا عتاب وَالصَّبْر الْجَمِيل صَبر بِلَا شكوى قَالَ يَعْقُوب عليه الصلاة والسلام {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} مَعَ قَوْله {فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} فالشكوى إِلَى الله لَا تنَافِي الصَّبْر الْجَمِيل ويروى عَن مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَنه كَانَ يَقُول اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكى وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث وَعَلَيْك التكلان وَمن دُعَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وانت رَبِّي اللَّهُمَّ إِلَى من تَكِلنِي إِلَى بعيد يتجهمني أم إِلَى عَدو ملكته أَمْرِي إِن لم يكن بك غضب عَليّ فَلَا ابالي غير أَن عافيتك هِيَ أوسع لي أعوذ بِنور وَجهك الَّذِي اشرقت لَهُ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَن ينزل بِي سخطك أَو يحل عَليّ غضبك لَك العتبى حَتَّى ترْضى وَكَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} ويبكي حَتَّى يسمع نَشِيجه من آخر الصُّفُوف

بِخِلَاف الشكوى إِلَى الْمَخْلُوق قرىء على الإِمَام أَحْمد فِي مرض مَوته أَن طاووسا كره أَنِين الْمَرِيض وَقَالَ إِنَّه شكوى فَمَا أَن حَتَّى مَاتَ وَذَلِكَ أَن المشتكي طَالب بِلِسَان

ص: 294

الْحَال إِمَّا إِزَالَة مَا يضرّهُ أَو حُصُول مَا يَنْفَعهُ وَالْعَبْد مَأْمُور أَن يسْأَل ربه دون خلقه كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِذا فرغت فانصب وَإِلَى رَبك فارغب} وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاس إِذا سَأَلت فاسأل الله وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه

وَلَا بُد للْإنْسَان من شَيْئَيْنِ طَاعَته بِفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور وَصَبره على مَا يُصِيبهُ من الْقَضَاء الْمَقْدُور فَالْأول هُوَ التَّقْوَى وَالثَّانِي هُوَ الصَّبْر قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا} إِلَى قَوْله {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا إِن الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط} وَقَالَ تَعَالَى {بلَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} وَقَالَ تَعَالَى {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} وَقد قَالَ يُوسُف {أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ}

وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلاني وَنَحْوه من المشائخ المستقيمين يوصون فِي عَامَّة كَلَامهم بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ المسارعة إِلَى فعل الْمَأْمُور والتقاعد عَن فعل الْمَحْظُور وَالصَّبْر وَالرِّضَا بِالْأَمر الْمَقْدُور وَذَلِكَ أَن هَذَا الْموضع غلط فِيهِ كثير من الْعَامَّة بل وَمن السالكين فَمنهمْ من يشْهد الْقدر فَقَط وَيشْهد الْحَقِيقَة الكونية دون الدِّينِيَّة فَيرى أَن الله خَالق كل شَيْء وربه وَلَا يفرق بَين مَا يُحِبهُ الله ويرضاه وَبَين مَا يسخطه ويبغضه وَإِن قدره وقضاه وَلَا يُمَيّز بَين تَوْحِيد الألوهية وَبَين تَوْحِيد الربوبية فَيشْهد الْجمع الَّذِي يشْتَرك فِيهِ جَمِيع الْمَخْلُوقَات سعيدها وشقيها مشْهد الْجمع الَّذِي يشْتَرك فِيهِ الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر وَالنَّبِيّ الصَّادِق والمتنبىء الْكَاذِب وَأهل الْجنَّة وَأهل النَّار وأولياء الله وأعداؤه وَالْمَلَائِكَة المقربون والمردة الشَّيَاطِين

فَإِن هَؤُلَاءِ كلهم يشتركون فِي هَذَا الْجمع وَهَذِه الْحَقِيقَة الكونية وَهُوَ أَن الله رَبهم وخالقهم ومليكهم لَا رب لَهُم غَيره وَلَا يشْهد الْفرق الَّذِي فرق الله بِهِ بَين أوليائه

ص: 295

وأعدائه وَبَين الْمُؤمنِينَ والكافرين والأبرار والفجار وَأهل الْجنَّة وَالنَّار وَهُوَ تَوْحِيد الألوهية وَهُوَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ وطاعته رَسُوله وَفعل مَا يُحِبهُ ويرضاه وَهُوَ مَا أَمر بِهِ وَرَسُوله أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتِحْبَاب وَترك مَا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَجِهَاد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ بِالْقَلْبِ وَالْيَد وَاللِّسَان فَمن لم يشْهد هَذِه الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة الفارقة بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَيكون مَعَ أهل الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة وَإِلَّا فَهُوَ من جنس الْمُشْركين وَهُوَ شَرّ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى

فَإِن الْمُشْركين يقرونَ بِالْحَقِيقَةِ الكونية إِذْ هم يقرونَ بِأَن الله رب كل شَيْء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله} وَقَالَ تَعَالَى {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل فَأنى تسحرون} وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} قَالَ بعض السّلف تَسْأَلهُمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ الله وهم مَعَ هَذَا يعْبدُونَ غَيره

فَمن أقرّ بِالْقضَاءِ وَالْقدر دون الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين فَهُوَ أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَإِن أُولَئِكَ يقرونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرسل الَّذين جاؤوا بِالْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين لَكِن آمنُوا بِبَعْض وَكَفرُوا بِبَعْض كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا}

وَأما الَّذِي يشْهد الْحَقِيقَة الكونية وتوحيد الربوبية الشَّامِل للخليقة ويقر أَن الْعباد كلهم تَحت الْقَضَاء وَالْقدر ويسلك هَذِه الْحَقِيقَة فَلَا يفرق بَين الْمُؤمنِينَ والمتقين الَّذين أطاعوا أَمر الله الَّذِي بعث بِهِ رسله وَبَين من عصى الله وَرَسُوله من الْكفَّار والفجار فَهَؤُلَاءِ أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَكِن من النَّاس من قد لمحوا الْفرق فِي بعض الْأُمُور دون بعض بِحَيْثُ يفرق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر وَلَا يفرق بَين الْبر والفاجر أَو يفرق بَين بعض الْأَبْرَار وَبَين

ص: 296

بعض الْفجار وَلَا يفرق بَين آخَرين اتبَاعا لظَنّه وَمَا يهواه فَيكون نَاقص الْإِيمَان بِحَسب مَا سوى بَين الْأَبْرَار والفجار وَيكون مَعَه من الْإِيمَان بدين الله تَعَالَى الْفَارِق بِحَسب مَا فرق بَين أوليائه وأعدائه

وَمن أقرّ بِالْأَمر وَالنَّهْي الدينيين دون الْقَضَاء وَالْقدر كَانَ من الْقَدَرِيَّة كالمعتزلة وَغَيرهم الَّذين هم مجوس هَذِه الْأمة فَهَؤُلَاءِ يشبهون الْمَجُوس وَأُولَئِكَ يشبهون الْمُشْركين الَّذين هم شَرّ من الْمَجُوس

وَمن أقرّ بهما وَجعل الرب متناقضا فَهُوَ من أَتبَاع إِبْلِيس الَّذِي اعْترض على الرب سُبْحَانَهُ وخاصمه كَمَا نقل ذَلِك عَنهُ

فَهَذَا التَّقْسِيم فِي القَوْل والاعتقاد

وَكَذَلِكَ هم فِي الْأَحْوَال وَالْأَفْعَال فَالصَّوَاب مِنْهَا حَالَة الْمُؤمن الَّذِي يَتَّقِي الله فيفعل الْمَأْمُور وَيتْرك الْمَحْظُور ويصبر على مَا يُصِيبهُ من الْمَقْدُور فَهُوَ عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي وَالدّين والشريعة ويستعين بِاللَّه على ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين}

وَإِذا أذْنب اسْتغْفر وَتَابَ لَا يحْتَج بِالْقدرِ على مَا يَفْعَله من السَّيِّئَات وَلَا يرى للمخلوق حجَّة على رب الكائنات بل يُؤمن بِالْقدرِ وَلَا يحْتَج بِهِ كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِيهِ سيد الاسْتِغْفَار أَن يَقُول العَبْد اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وَأَنا على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت أعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَيقر بِنِعْمَة الله عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَات وَيعلم أَنه هُوَ هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السَّيِّئَات وَيَتُوب مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعضهم أطعتك بِفَضْلِك والْمنَّة لَك وعصيتك بعلمك وَالْحجّة لَك فأسألك بِوُجُوب حجتك عَليّ وَانْقِطَاع حجتي إِلَّا غفرت لي وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح الإلهي يَا عبَادي إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها لكم ثمَّ أوفيكم إِيَّاهَا فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه

وَهَذَا لَهُ تَحْقِيق مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْموضع

وَآخَرُونَ قد يشْهدُونَ الْأَمر فَقَط فتجدهم يجتهدون فِي الطَّاعَة حسب الِاسْتِطَاعَة لَكِن لَيْسَ عِنْدهم من مُشَاهدَة الْقدر مَا يُوجب لَهُم حَقِيقَة الِاسْتِعَانَة والتوكل وَالصَّبْر وَآخَرُونَ

ص: 297

يشْهدُونَ الْقدر فَقَط فَيكون عِنْدهم من الِاسْتِعَانَة والتوكل وَالصَّبْر مَا لَيْسَ عِنْد أُولَئِكَ لكِنهمْ لَا يلتزمون أَمر الله وَرَسُوله وَاتِّبَاع شَرِيعَته وملازمة مَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة من الدّين فَهَؤُلَاءِ يستعينون الله وَلَا يعبدونه وَالَّذين من قبلهم يُرِيدُونَ أَن يعبدوه وَلَا يستعينوه وَالْمُؤمن يعبده ويستعينه

وَالْقسم الرَّابِع شَرّ الْأَقْسَام وَهُوَ من لَا يعبده وَلَا يستعينه فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَة الأمرية وَلَا من الْقدر الكوني وانقسامهم إِلَى هَذِه الْأَقْسَام هُوَ فِيمَا يكون قبل وُقُوع الْمَقْدُور من توكل واستعانة وَنَحْو ذَلِك وَمَا يكون بعده من صَبر ورضا وَنَحْو ذَلِك فهم فِي التَّقْوَى وَهِي طَاعَة الْأَمر الديني وَالصَّبْر على مَا يقدر عَلَيْهِ من الْقدر الكوني أَرْبَعَة أَقسَام

أَحدهَا أهل التَّقْوَى وَالصَّبْر وهم الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من أهل السَّعَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

وَالثَّانِي الَّذين لَهُم نوع من التَّقْوَى بِلَا صَبر مثل الَّذين يمتثلون مَا عَلَيْهِم من الصَّلَاة وَنَحْوهَا ويتركون الْمُحرمَات لَكِن إِذا أُصِيب أحدهم فِي بدنه بِمَرَض وَنَحْوه أَو فِي مَاله أَو فِي عرض أَو ابْتُلِيَ بعدو يخيفه عظم جزعه وَظهر هلعه

وَالثَّالِث قوم لَهُ نوع من الصَّبْر بِلَا تقوى مثل الْفجار الَّذين يصبرون على مَا يصيبهم فِي مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الَّذين يصبرون على الآلام فِي مثل مَا يطلبونه من الْغَصْب وَأخذ الْحَرَام وَالْكتاب وَأهل الدِّيوَان الَّذين يصبرون على ذَلِك فِي طلب مَا يحصل لَهُم من الْأَمْوَال بالخيانة وَغَيرهَا وَكَذَلِكَ طلاب الرِّئَاسَة والعلو على غَيرهم يصبرون من ذَلِك على أَنْوَاع من الْأَذَى الَّتِي لَا يصبر عَلَيْهَا أَكثر النَّاس وَكَذَلِكَ أهل الْمحبَّة للصور الْمُحرمَة من أهل الْعِشْق وَغَيرهم يصبرون فِي مثل مَا يهوونه من الْمُحرمَات على أَنْوَاع من الْأَذَى والآلام وَهَؤُلَاء هم الَّذين يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض أَو فَسَادًا من طلاب الرِّئَاسَة والعلو على الْخلق وَمن طلاب الْأَمْوَال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور الْمُحرمَة نظرا أَو مُبَاشرَة وَغير ذَلِك يصبرون على على أَنْوَاع من المكروهات وَلَكِن لَيْسَ لَهُم تقوى فِيمَا تَرَكُوهُ من الْمَأْمُور وفعلوه من الْمَحْظُور وَكَذَلِكَ قد يصبر الرجل على مَا يُصِيبهُ من المصائب كالمرض والفقر وَغير ذَلِك وَلَا يكون فِيهِ تقوى إِذا قدر

وَأما الْقسم الرَّابِع فَهُوَ شَرّ الْأَقْسَام لَا يَتَّقُونَ إِذا قدرُوا وَلَا يصبرون إِذا ابتلوا بل هم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا}

ص: 298

فَهَؤُلَاءِ تجدهم من أظلم النَّاس وأجبرهم إِذا قدرُوا وَمن أذلّ النَّاس وأجزعهم إِذا قهروا إِن قهرتهم ذلوا لَك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فِيمَا يدْفَعُونَ بِهِ عَن أنفسهم من أَنْوَاع الْكَذِب والذل وتعظيم المسؤول وَإِن قهروك كَانُوا من أظلم النَّاس وأقساهم قلبا وَأَقلهمْ رَحْمَة وإحسانا وعفوا كَمَا قد جربه الْمُسلمُونَ فِي كل من كَانَ عَن حقائق الْإِيمَان أبعد مثل التتار الَّذين قَاتلهم الْمُسلمُونَ وَمن يشبههم فِي كثير من أُمُورهم وَإِن كَانَ متظاهرا بلباس جند الْمُسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فَإِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ

فَمن كَانَ قلبه وَعَمله من جنس قُلُوب التتار وأعمالهم كَانَ شَبِيها لَهُم من هَذَا الْوَجْه وَكَانَ مَا مَعَه من الْإِسْلَام أَو مَا يظهره مِنْهُ بِمَنْزِلَة مَا مَعَهم من الْإِسْلَام وَمَا يظهرونه مِنْهُ بل يُوجد فِي غير التتار المقاتلين من المظهرين لِلْإِسْلَامِ من هُوَ أعظم ردة وَأولى بالأخلاق الْجَاهِلِيَّة وَأبْعد عَن الْأَخْلَاق الإسلامية من التتار

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي خطبَته خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة وَإِذا كَانَ خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد فَكل من كَانَ إِلَى ذَلِك أقرب وَهُوَ بِهِ أشبه كَانَ إِلَى الْكَمَال أقرب وَهُوَ بِهِ أَحَق وَمن كَانَ عَن ذَلِك أبعد وَشبهه بِهِ أَضْعَف كَانَ عَن الْكَمَال أبعد وبالباطل أَحَق والكامل هُوَ من كَانَ لله أطوع وعَلى مَا يُصِيبهُ أَصْبِر فَكلما كَانَ أتبع لما يَأْمر الله بِهِ وَرَسُوله وَأعظم مُوَافقَة لله فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه وصبرا على مَا قدره وقضاه كَانَ أكمل وَأفضل وكل من نقص عَن هذَيْن كَانَ فِيهِ من النَّقْص بِحَسب ذَلِك

وَقد ذكر الله تَعَالَى الصَّبْر وَالتَّقوى جَمِيعًا فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَبَين أَنه ينتصر العَبْد على عدوه من الْكفَّار الْمُحَاربين المعاندين وَالْمُنَافِقِينَ وعَلى من ظلمه من الْمُسلمين ولصاحبه تكون الْعَاقِبَة قَالَ الله تَعَالَى {بلَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} وَقَالَ الله تَعَالَى {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون هَا أَنْتُم أولاء تحبونهم وَلَا يحبونكم وتؤمنون بِالْكتاب كُله وَإِذا لقوكم قَالُوا آمنا وَإِذا خلوا عضوا عَلَيْكُم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور إِن تمسسكم حَسَنَة تسؤهم وَإِن تصبكم سَيِّئَة يفرحوا بهَا وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا إِن الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط}

ص: 299

وَقَالَ إخْوَة يُوسُف لَهُ {أئنك لأَنْت يُوسُف قَالَ أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ}

وَقد قرن الصَّبْر بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة عُمُوما وخصوصا فَقَالَ تَعَالَى {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين}

وَفِي اتِّبَاع مَا أُوحِي إِلَيْهِ التَّقْوَى كلهَا تَصْدِيقًا لخَبر الله وَطَاعَة لأَمره وَقَالَ تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ واصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار} وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وَمن آنَاء اللَّيْل} وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين} وَقَالَ تَعَالَى {اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة إِن الله مَعَ الصابرين} فَهَذِهِ مَوَاضِع قرن فِيهِ الصَّلَاة وَالصَّبْر

وَقرن بَين الرَّحْمَة وَالصَّبْر فِي مثله قَوْله تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} وَفِي الرَّحْمَة وَالْإِحْسَان إِلَى الْخلق بِالزَّكَاةِ وَغَيرهَا فَإِن الْقِسْمَة أَيْضا ربَاعِية إِذْ من النَّاس من يصبر وَلَا يرحم كَأَهل الْقُوَّة وَالْقَسْوَة وَمِنْهُم من يرحم وَلَا يصبر كَأَهل الضعْف واللين مثل كثير من النِّسَاء وَمن يشبههن وَمِنْهُم من لَا يصبر وَلَا يرحم كَأَهل الْقَسْوَة والهلع والمحمود هُوَ الَّذِي يصبر وَيرْحَم كَمَا قَالَ الْفُقَهَاء فِي الْمُتَوَلِي يَنْبَغِي أَن يكون قَوِيا من غير عنف لينًا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العَبْد فَإِن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وبالرحمة يرحمه الله تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يرحم الله

ص: 300

من عباده الرُّحَمَاء وَقَالَ من لَا يرحم لَا يرحم وَقَالَ لَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من شقي وَقَالَ الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وَالله أعلم انْتهى

ص: 301