المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسائل «سيف الإسلام» - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌رسائل «سيف الإسلام»

-39 -

‌رسائل «سيف الإسلام»

الناس يبدؤون باللين وأنا بدأت الكتابة بالعنف، وهم يكتبون للفنّ والأدب وأنا بدأت للنقد والإصلاح؛ بدأت برسائل الإصلاح فهِجْت على نفسي حرباً لا طاقة لي بها، حرباً ما لي فيها نفع ولا لي في غنائمها أمل، ما غنمت منها إلاّ أنه كان لي راتب من الأوقاف فقطعته بيدي. لقد كان قليلاً ولكنّ أصغرَ رقم أكبرُ من الصفر، وأسوأ المساكن -كما قال كافور (بطل الوحدة الإيطالية) - أفضل من فقد المسكن. لقد أثَرْتُ الناسَ عليّ: الشبان الذين كانوا يكرهون كل دعوة إلى الدين ويستعملون ما تلقّوه عن الأوربيين في إضعافه أثارهم أنهم رأوني أحاربهم بسلاحهم، وقد كرّه إليهم الدينَ صنفان من الناس: دعاة جهلوا أسلوب دعوة الشباب فأبعدوهم عنه بلا قصد، وناس من شياطين الإنس قصدوا إبعادهم عنه قصداً، كبعض المدرّسين وبعض الأدباء أو الصحفيين.

وأثرت بعض المشايخ لمّا نقدت طريقتهم في الدعوة إليه وفي تلقين المتعلمين أحكام شريعته، وكانت (في الحقّ) أسوأ الطرق في التدريس في كتب أُلِّفت على أسوأ الأساليب

ص: 5

في التأليف: «متن» موجز إيجازاً مُخِلاًّ، كأن مؤلّفه بخيل كُلّف بأن يرسله في «برقية» إلى أستراليا يُغرَّم أجرتها من ماله، فهو يقتصد في الكلمات لتقلّ عليه النفقات! وانظروا «جمع الجوامع» و «التحرير» في الأصول مثلاً على هذه المتون، وقابلوا أسلوبه بأسلوب الغزالي في «المستصفى» .

كانت أكثر الكتب التي يعكفون عليها بعيدة عن البيان بُعْدَ الأرض عن السماء، معقّدة العبارة، أعجمية السبك وإن كانت عربية الكلمات. فيأتي مَن يوضّح غامض المتن، فيُدخِل جملة من عنده بين كل جملتين منه، كما يرقّعون اليوم الجلد المحروق من الإنسان بقطعة من جلده السليم، فينجح الرتق أو يظهر أثر الفتق، وهذا هو «الشرح» . ويأتي مَن يضع لهذا الشرح حواشي وذيولاً، يطوّله فيها فيجمله أو يقبّحه ويعطّله، وهذه هي «الحاشية» ، ويبدو ضعف الإنشاء في القرون المتأخرة حتى في مثل حاشية ابن عابدين التي هي اليوم عمدة المفتين على المذهب الحنفي. ثم يجيء مَن يعلّق على هذه الحاشية تعليقات، وتُسمّى «التقريرات» . فلا الأسلوب عربي فصيح ولا المنهج قويم صحيح. وانظروا «المبسوط» مثلاً للسرخسي أو «البدائع» للكاساني، ثم انظروا «الحاشية» . أو انظروا في مذهب الشافعية «الأم» ثم «مُغني المحتاج» ، إن ما بينهما كالذي بين «أسرار البلاغة» وشروح «التلخيص» ؛ في كتب الأولين البلاغة والبيان والأسلوب العربي المنير، وفي حواشي الآخرين

فيها ما تعرفون!

وأزعجت بنقدي العنيف «الأوقاف» ، إدارتها وأكثر خطباء مساجدها، فأغرتهم بي. وما كانوا في حاجة إلى إغراء ففيما كتبت

ص: 6

عنهم ما يكفيهم، فنزل عليّ البلاء من فوق المنابر، وصرت المثل المضروب للشابّ الأرعن الوقح قليل الحياء، الذي يتطاول على العلماء ويتناول الخطباء

وما أوسع أبواب الهجاء لمن شاء دخوله.

وكانت «نهضة المشايخ» لا تزال مستمرّة، وإن خفّت شدّتها وقلّت حدّتها، فجاءنا من حلب شيخ في الزيّ شابّ في السنّ، لم يكن عالماً ولا طالب علم متمكّن ولكنه كان خطيباً من أعظم من سمعت من الخطباء؛ جهير الصوت، حاضر البديهة، حسن الإلقاء، يتدفّق بالكلام تدفّق النبع الغزير، هو الشيخ أحمد الصابوني. فصار لسان جماعة المشايخ من أصحاب الشيخ علي الدقر، المحامي عنهم، وانضمّ إليه آخر من دمشق أصغر منه في السنّ ومثله في العلم! ودونه في الخطابة واللسَن، لا يقاربه على صهوات المنابر ولا يدانيه ولكنه متكلّم خطيب.

وكان الشيخ الصابوني يريد (والله أعلم بحقيقة ما يريد) الوصول إلى الجمهور وكان يفتّش عن أقرب طريق يسلكه إلى غايته، وكانت «رسائل الإصلاح» -على قِلّة عدد المطبوع منها- قد سرَت (كما كان يقول الأولون) سريان النار في الهشيم، أي في القشّ اليابس، وصار الرجل يقرأ النسخة ثم يعطيها غيره ليقرأها، فتمرّ كل نسخة على عدد من الناس، كان أكثرهم (والحقّ يُقال) لا يقرؤها ليثني عليّ بل ليسبّني، وكان الغضب عليّ وعليها يسبق وصول الرجل إليها، فكان الطريق تأليف كتاب صغير في الردّ عليها.

ص: 7

وصار الشيخ أحمد يخطب في المساجد، يشرح ما وصلَت إليه الحال من سوء، وما آل إليه الشباب من البعد عن الدين والإعراض عنه والإساءة إلى علمائه، وهم حَمَلة لوائه، ويضرب المثل برسائلي، ثم يُشير إلى كتابه الذي ألّفه في الردّ عليّ، وكان معه من يحمله له فيبيعه بالثمن الذي يريده. ولو كان كتابه الذي سَمّاه «الإفصاح عن رسائل الإصلاح» عندي لنقلت فقرات ممّا كتب عنّي، وقد عرف الناس من أحاديثي في الإذاعة أو الرائي أني أقرأ أشنع السبّ لي وأنا هادئ لا تتحرك من الغضب شعرة في جسدي، لأني لكثرة ما كتب عني «تعوّدت مسّ الضر حتى أَلِفتُه» . وقد حشرني في زمرة طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي، وسلامة موسى النصراني الصليبي المفتري وأمثالهما، ثم كتب في آخر الكتاب أنه تحقق أني لست منهم ولا من أشباههم، ولأني مسلّم متمسك طالب علم وسليل علماء فهو لذلك «يسلّني منهم سلّ الشعرة من العجين» . ولكنه بقي بعد سلّ الشعرة يبيع العجين غير مخبوز ولا ناضج (كأنه الخبز في هذه الأيام)، بل يلقيه عليّ ويلطّخ به ثيابي ويقبض الثمن!

وقد أصابه في آخر عمره الفالج وتوفّي. وأنا أكتب هذا وما في قلبي ذرّة من الحقد عليه أو الكره له، رحمه الله ورحمني، فما منّا إلا من أحسن وأساء (وأيّ الرجال المهذّب؟).

وأنا (صدّقوني) لا أحمل حقداً على أحد؛ لا لأني بلغت غاية الحِلم وسموت إلى ذروة الخلق، لا؛ فأنا جريء عنيف حادّ المزاج سريع الغضب كما أني سريع الرضا. بل لأني أردّ الصاع صاعَين أو ثلاثة إن كان الذي يكتب عني كبير القدر في الأدب أو

ص: 8

في الفكر أو كان الموضوع ممّا لا يجوز السكوت عنه، وإن كان الذي يكتب عني ما له قيمة أو كان الموضوع لا خطر له نهجت منهج جرير حيث يقول بشّار عنه:"هجوت جريراً فأعرَضَ عنّي واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس". كان يريد الصعود على كتف جرير ليراه الناس، فتخلّى عنه فرماه. لذلك أدَعُ الردّ على أكثر الذين يسبّونني، بل إني في أكثر الأحيان لا أقرأ ما يكتبون.

* * *

وأنا من يوم شرفت بالنزول إلى ميدان الدعوة (جندياً صغيراً) أقاتل على جبهتين: واجهت الجامدين والجاحدين، نازلت بعض المشايخ كما نازلت بعض الشبان.

فلما انتهت قصة «رسائل الإصلاح» بدأت قصة رسائل «سيف الإسلام» : ما كان في الشام يومئذٍ نوادٍ أدبية، و «النادي العربي» الذي أُسّس أيام الشريف فيصل قبل ميسلون كان نادياً سياسياً، والمجمع العلمي كان للمحاضرات وكان منبره مصدراً من مصادر ثقافتنا؛ محاضرات المجمع الأسبوعية وحلقات الأموي الدائمة، مع دروس المدرسة وما آخذه عن المشايخ وما أستفيده من المطالعة، كانت ثقافتي كلها من هذه الينابيع. لذلك كانت مكتبة عَرَفة في «المِسْكيّة» (1) مجمع الأدباء؛ يقفون

(1) المسكية سوق (أو سُوَيق) كان مخصصاً لبيع الكتب، وهو بين سوق الحميدية والباب الغربي للجامع الأموي، وقد سمعت أنه أُزيل منذ سنين ولم أحقق ما سمعت (مجاهد).

ص: 9

أمامها، وربما قعد كبارهم على كرسي كان هناك، وربما دخل بعضهم إليها. وهي صغيرة جداً، ولكن حماسة صاحبها وذكاءه وطلاقة وجهه وحلاوة لسانه كانت تحبّبه إلى الناس، وهو الشيخ ياسين عَرَفة، أحد رفقاء العمر. وكم قامت أمامها مناقشات ومجادلات، وكم عُرِضت مسائل في الدين وفي الأدب وتُليت قصائد ومقالات، وقد يستمرّ وقوفنا ساعات. وأمام هذه المكتبة عرفت الشاعر أحمد صافي النجفي يوم قدم دمشق، وقد وقف علينا بزيّه الغريب وعباءته البالية وعقاله يتأبط شـ

أعني شعراً في جرائد يحملها ومجلات. قرأ علينا منه وعرّفَنا نفسه، وأنا الذي عرّف الشاميين به في مقالة نشرتها عنه. وليس الكلام عن النجفي، إنما الكلام عن رسائل «سيف الإسلام» والنجفي مررنا بذكره مروراً.

أعود إلى الموضوع: كنا يوماً أمام مكتبة عرَفة فجاء رجل لا يعرفه منّا أحد فاندسّ بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلاماً عجيباً أدركنا معه أنه يدعو إلى نِحلة من النِّحَل الباطلة. فتناوشوه بالردّ القاسي والسخرية الموجعة، فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي. فكَفّوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألفّ به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حُجّة أبلغ من الكلام. فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود. قال: حاضر. وأخرج ليرتين ذهبيّتين

يوم كانت الليرة الذهبية شيئاً عظيماً، يوم كنت أدخل أكبر وأشهر محلّ شواء فآخذ أوقية من اللحم المشوي (والأوقية مئتا غرام) ورغيفاً تَنّورياً وقطعة مخلَّل

ص: 10

فيكلّفني هذا الغداء مع الخدمة في المطعم فرنكاً واحداً، أي خمس هللات (هلالات)، والليرة الذهبية يومئذٍ بخمس ليرات سورية ونصف الليرة، أي بمئة وعشرة فرنكات!

مدّ يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعاً، وانصرف الرجل بعد أن عرّفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرَت الصدور بالضحك وأقبلوا عليّ مازحين، فمِن قائل: شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بهما وليمة أو نزهة في بستان

وقد عرفتم أنهما تكفيان ثمناً لمئتين وعشرين غداء!

قلت: سترون ما أنا صانع.

وذهبت فكتبت رسالة تكلمت فيها عن المِلَل والنّحَل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها «سيف الإسلام» ، وكتبت على غلافها «طُبعت بنفقة فلان» ، باسم الرجل الذي دفع الليرتين. وبلغني أنه كاد يُجَنّ ولم يدرِ ماذا يفعل، ولم يستطع أن يُنكِر أمراً يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردَته بعد أن عاقبَته.

وتوالت هذه الرسائل حتى زادت على العشر، وكانت تُوزّع مَجّاناً، يتولّى جمعَ المال لطبعها ويقوم بأكبر العمل في نشرها الشيخ عبد القادر العاني رحمه الله وجمعية الهداية الإسلامية، ولا أحتاج أن أقول إني لم آخذ منها قرشاً وإني كتبتها لله لا للمال.

الرسالة الأولى منها ليست عندي، عندي الثانية وتاريخ طبعها 1349 (1930) جاء في أولها قولي: هذه هي الكلمة الثانية

ص: 11

نقذف بها في وجوه هؤلاء المفسدين الذين يتسمّون بالمجدّدين، بعد أن داخلناهم وعرفنا طواياهم، فعلمنا أن الجمود الذي أنكرناه على بعض المشايخ يُعَدّ خيراً إن قيس بهذا الجحود الذي وجدناه عند بعض الشباب

وما نفع قوم مسلمين بأسمائهم وألقابهم كافرين بأقوالهم وأفعالهم، لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يصومون رمضان

يقولون إنهم مسلمون، ونساؤهم سافرات وأولادهم منحرفون وبيوتهم

مسلم زوجته تخرج سافرة برضاه تُبدي للناس نحرها وسحرها وذراعَيها وساقَيها! مسلم يدخل المسجد مرة في الشهر ويدخل السينما أو الملهى كل يوم!

ومضيت على هذا السنَن، ومضت الرسائل يزداد عددها ويتسع انتشارها، ويتبرّع أهل الخير (وما أكثرهم دائماً) بطباعتها والإنفاق عليها، وصار الناس يتداولونها وهم يُثنون عليّ ويدعون لي. وكان الطبع حراً والمطابع مفتوحة، نكتب (أيام الانتداب!) ما نريد ونطبع ما نريد، لا نحتاج في ذلك إلى استئذان وليس علينا فيه رقيب، ولا يأتينا مَن يمنعنا ولا مَن يسألنا، إلاّ في حدود القانون. وما كان عندنا قانون يقيّد الأقلام أو يحجر على العقول.

توالت أربع رسائل على هذا النمط، وكانت الخامسة بعنوان «وجوب الدعوة إلى الله» ، والسادسة عنوانها «صدقي بك، قصة اجتماعية فيها موعظة وذكرى» ، والسابعة «الصلاة وأسرارها» مكتوب على غلافها:«من لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم ما فيها إلاّ سعادته وصلاح أمره، لا يمكن أن يفي لأمته ولا لوطنه» ، والثامنة عنوانها «البلاء الأعظم في المغرب الأقصى»

ص: 12

وهي تعليق على «الظهير البربري» الذي أصدره الفرنسيون باسم سلطان المغرب، والرسالة مكتوبة بقلم من نار أسلوبها يشتعل اشتعالاً.

ثم نشرت رسالة عنوانها «لماذا أنا مسلم؟» ، بعدها رسالة عنوانها «قضية التجهيز» (ومدرسة التجهيز هي مكتب عنبر)، ثم رسالة عنوانها «الشيوعية أكبر خطر على البشرية» كتبتها رداً على رسالة «لماذا يناضل الحزب الشيوعي السوري» ، وطبعَت رسالتي جمعية الهداية الإسلامية. بعدها رسالة «الأدب القومي» رددت فيها على الأستاذ شفيق جبري حين قرر في محاضراته في مدرسة الآداب العليا أن الأدب أُلْهِيّة، طُبعت سنة 1349، ثم رسالة عنوانها «بدعة جديدة» فضحت فيها مُضِلاًّ يدّعي أنه «المهدي» أسس حزباً للشيطان سمّاه «حزب الله» ، طبعَتها جمعية الهداية سنة 1350. وكلها (وكثير غيرها) كتبتُه لله وطُبع بنفقة أهل الخير ووُزّع مَجّاناً، وكلها نفد ولم يُجمَع في كتاب، ولم يبقَ منه إلاّ نُسَخ معدودات عندي وعند بعض الأصحاب. ولو أنني جمعت كل ما كتبتُ

ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان!

* * *

ص: 13