الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-45 -
من الصّحافة إلى التعليم
لا أزال في حديث الانتخابات. وحديثها طويل، كثير الفصول مديد الذيول، والناس يرون في الانتخابات أسّ الديموقراطية وبابها الذي يُبلِغك محرابها. قلت «الديموقراطية» وفي عربيتنا ما يُغني عنها ويسدّ مسدّها، لكن الناس ألفوا ترديد كلمات غريبة عنا تقليداً لغيرنا، ممّن نحسبهم أرقى منا ونحسب أنهم أهل الحضارة من دوننا، لذلك نتخذهم أئمة ونقف من ورائهم «مقتدين» بهم. وأنا لا أرتضي هذا التقليد لكن أقول الكلمة التي يفهمها الناس.
وما الديموقراطية؟
إنها كلمة واحدة من كلمتين إغريقيتين: ديموس (Demos) ومعناها الشعب، وكراتوس (Kratos) بمعنى السلطة. ونحن نقرّ سلطة الشعب ونعرف له حقّه باختيار رئيسه، وهذا هو أسلوب «البيعة» ، ولكنا لا نرى له ولا لرئيسه السلطة المطلقة، لأن لنا -معشر المسلمين- قانوناً أساسياً، دستوراً إلهياً ليس لأحد من البشر مخالفته أو تبديل أحكامه الثابتة. والأحكام في هذا الدستور
ضربان: ضرب لا يُتصوَّر تبدّله بتبدّل الأزمنة والأمكنة، كالعدل في القضاء والشورى في الإدارة، وقسم لا يُنكَر تبدّله بتبدّلها، وهو الطريق إلى إقرار العدل وتحقيق الشورى. فتشكيل المحاكم ودرجاتها، والمرافعات وأصولها، وأسلوب الشورى وطريقتها، وكل ما فيه المصلحة للناس والرفعة للوطن ولم يَرِدْ في تحريمه نص، فلنُوّاب الشعب أن يأمروا به ويُقِرّوه وأن ينهَوا عن ضدّه ويمنعوه.
بقي أن نسأل: كيف نختار من ينوب عن الشعب وينطق باسمه؟ من يبحث عن مصلحته ويبيّن أين توجد هذه المصلحة؟ إنهم «أهل الحلّ والعقد» . وليس لهم عندنا نظام محدّد، ولكن كل واحد منا يستطيع أن يكتب قائمة بأسمائهم. ألا تستطيع أن تسمّي ثلاثين من أهل بلدك ممّن يعرف الناس أقدارهم ويتّفقون على الثقة بهم والاطمئنان إليهم، وإن قالوا استمعوا لقولهم، وإن رأوا رأياً رجعوا إلى رأيهم، أو علّقوا عليه وعدّلوا فيه ولكن لم يهملوه ولم يطّرحوه؟ من علماء الدين، ومن المربّين والمعلّمين والوجهاء والمقدَّمين، وكلّ من كان من أهل الصلاح والخير: من التجار ورجال الأعمال، ومن الأطباء والمحامين، والمتقاعدين المجرّبين من القضاة والموظفين، وأمثال هؤلاء ممّن عُرف بالاستقامة والأمانة وصحّة العقل والحرص على مصلحة البلد وعلى رضا الله. هؤلاء هم «أهل الحلّ والعقد» الذين يختارون الحاكم، خليفةً سمّيناه أم أمير المؤمنين، فليس المدار على الاسم ولكن على المسمّى.
هذه هي «الديموقراطية» المبصرة. أما «الانتخابات» بصورتها
التي نعرفها فهي الديموقراطية العمياء، الحقّ فيها مع مَن هم أكثر عدداً لا مع من هم أقوم سبيلاً وأقوى دليلاً. تُهدَر فيها الكفايات وتُعطّل المزايا، ويستوي عند «التصويت» القاضي واللصّ، وإمام المسجد وسارق الأحذية، وأستاذ الجامعة وناطور الماخور؛ كل منهم له صوت، ولا يَرْجَح في الميزان صوت على صوت.
فإن رأى الطبيب الجرّاح أن المريض محتاج إلى عملية عاجلة إن تأخّرَت مات، ورأت «الأكثرية» من الموظفين الإداريين في المستشفى والممرّضين والخدم رفض العملية، كان الحقّ في النظام البرلماني معهم والرأي لهم، ولو مات المريض! وإن قرّر ربان الطيارة الهبوط هبوطاً اضطرارياً لاختلال المحرّك أو نفاد الوقود أو سوء حال الجوّ، ورأت أكثرية الركاب الاستمرار في الطيران، كان الحق معهم والرأي رأيهم، ولو سقطت الطيارة وتحطمت.
هذا هو النظام البرلماني؛ يضيع فيه علم المجرّب وخبرة الخبير، ويستوي فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
فإن انضمّ إليه ما ابتُدع في بعض البلدان من تخصيص نصيب معيّن من مقاعد المجلس للعُمّال والفلاّحين، ولو كان في المرشَّحين مَن هو أحقّ بالنيابة وأقدر على حمل تبعاتها والنهوض بأعبائها
…
كان ذلك هو النزول إلى الدرك الأسفل من «نار» الإفساد. لا أقول هذا كرهاً بالعمال والفلاحين. لا؛ وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، فالعامل والفلاح هما يدا الأمة إذا كان العلماء هم الرأس الذي يفكّر وكان الأدباء هم القلب الذي
يحسّ، ولا يصلح جسد بُترَت يداه ولو كبر عقله واتسع قلبه. بل لأن كل حكيم منصف يحدّد الغاية ثم يبتغي إليها الوسيلة، فإنْ مرض ولده لم يأخذه إلى المحامي ولو كان أكبر محامي البلد، بل يأخذه إلى أقرب طبيب، وإن كانت له قضية في المحكمة لم يستشر الطبيب ولو كان أحذق الأطباء بل يراجع المحامي، وإن انخرق دولاب السيارة لم يُفِدْه طبيب ولا محامٍ، لم ينفعه إلاّ «عامل البنشر» ، أي مرقّع إطارات الدواليب.
فما الغاية من افتتاح المجلس النيابي وما عمل النائب فيه؟ إن عمله وضع القوانين على ألاّ تخالف دستور البلاد، لا سيما إذا كان منزَّلاً من السماء، فهل يقدر العامل والفلاح على وضع القوانين أو مناقشة مشروعاتها؟ إن الحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه والرجل في مكانه، وإلا كنت كمن يلبس بنطاله بيديه ويدخل كُمَّي ردائه في رجلَيه ويعلّق حذاءه في عنقه ويمشي حافياً!
وإن من أمارات الساعة وعلامات اقتراب القيامة أن يوسَّد الأمر إلى غير أهله، وأن يكلَّف الرجل غير العمل الذي أتقنه وأن يوضع في غير الموضع الذي يصلح له.
ولكنا لمّا فُتِنّا بهذه الحضارة العصرية وأخذناها بكل ما فيها، حتى ولو بان عيبه وبدا فساده، أخذنا النظام البرلماني. وكان بالإمكان تنظيم اختيار أهل الحلّ والعقد ووضع القواعد والضوابط لهذا الاختيار، فلا يبقى فوضى كما هو الآن، ولا نحمل معايب هذه الانتخابات. وليت هذه الانتخابات جرت عندنا كما تجري عندهم! ما سمعنا بانتخابات تُزوَّر في إنكلترا
أو فرنسا فتُرمى صناديقها وتوضع في مكانها صناديق معَدّة من قبلُ، فيها أوراق ما سطرها المنتخبون ولكن أملاها الحاكمون حتى صارت نتيجتها معروفة قبل أن تُجرى، ونسبة الأصوات التي نالها الناجحون حُدّدت قبل أن تكون الانتخابات، لا سيما في «الاستفتاء» الشعبي العامّ. لقد أقبل ديغول عليه وأكثر اللجوء إليه فسقط فيه، وهو الذي أنهض فرنسا من سقطتها وردّ إليها قوتها ومنزلتها، كما سقط تشرشل الذي صنع لإنكلترا ما لم يصنعه لها إلا قليل في تاريخها الطويل. وما جرى استفتاء عندنا إلا كانت نتيجته (المهيّأة من قبل) تسعمئة وتسعة وتسعين وتسعة أعشار من كل ألف من الأصوات!
المسرحيات الهزلية يدَعون فيها شيئاً من «المجهول» ليرغب المشاهدون في علمه، يُبقُون فيها «عقدة» يتشوّقون إلى حلّها؛ هذا ما يقتضيه التأليف المسرحي، وهذه مهازل (كوميديات) جانبت قواعد التأليف كما جانبت طريق الحقّ، فلم تبقَ فيها «عقدة» لأنها هي ذاتها عقدة العُقَد. كلّ خديعة فيها خادع ومخدوع، والخادع هنا معروف فمن المخدوع؟ الشعب؟ ما في الشعب مَن لا يعرف الحقيقة ويسخر منها، ويتّخذ من حديثها ما يملأ بذكره مجالسَه ويضع لها من النكات ما يسلّي به نفسه. فلَمْ يُخدَع الشعب. فمَن إذن؟ الأجانب؟ إن أكثرهم له من «استخباراته» ومن وسائل إعلامه ما يدرك به الحقيقة كلها. ولكنهم يمشون مع مصالحهم، هي دينهم، فربما أظهروا أنهم صدّقوها لأن مصلحتهم في أن يظهروا أنهم قد صدّقوها. فهل يخدعون الله، وهو المطّلع على السرائر والبواطن العالِم بالظواهر والخوافي؟
لقد شهدت انتخابات كثيرة، وخفّ عقلي مرة فدخلت (سنة 1947) واحداً منها، وسيأتي حديثها. فما رأيت فيها كلها انتخابات صحيحة إلا مرتين.
ولقد وصلت في الحلقة السابقة من ذكرياتي إلى «الجمعية التأسيسية» ، أي المجلس النيابي الذي اجتمع سنة 1928 لوضع دستور البلاد. وقد أقرّت الدستورَ الذي وضع مشروعَه فوزي الغزّي، الأستاذ في كلية الحقوق، والذي شغل الناسَ موتُه قتيلاً أكثر ممّا شغلتهم حياته عالماً. لقد كانت حبّة الأستركنين التي أودت به المجالَ الأول لأحاديث الناس في مجالسهم ومقالاتهم في صحفهم ومجلاّتهم زمناً طويلاً. وفي قصّة موته عِبرة أذكّر بها، وأرجو ألاّ أسيء إلى أحد بإعادة ذكرها. لقد كانت له زوجة ذات نسب وذات جمال قليل المثال، وكان له ابن أخ شابّ مكتمل الشباب، أبقاه قريباً منها ثم اشتغل بعمله الوطني عنها، وهي شابّة في عزّ الشباب، فأدخل بذلك الشيطان بينهما، فأغراهما بإزاحته من طريقهما لتتمّ لهما متعة حبهما، فذهب هو إلى لقاء ربه، وذهبا إلى السجن فقضيا فيه أكثر عمرهما.
أقرّت الجمعية التأسيسية الدستور وجعلته كدساتير الدول الحرّة المستقلّة، اقتبسته من أحدثها وأتَمّها، فاشتمل على كل ما يحقّق السيادة الكاملة لنا على أرضنا واستقلالنا التامّ في إدارة شؤوننا، ولكنه لم يراعِ أصول ديننا ومنهج ربنا في التزام شريعته التي لا يكون المسلم مسلماً إلا باتّباعها، وفي وحدة الأمة المسلمة وربطها برابطة الإيمان التي صرّح بها القرآن، لا بروابط اللسان والأوطان والبلدان وكل ما أوحى به الشيطان إلى أعدائنا
ليفرّقوا به جمعنا ويُذهِبوا به ريحنا. وجاء الدستور في مئة وخمس عشرة مادة، واعترض الفرنسيون ستّ مواد منها وأصروا على طلب حذفها، هي التي نسيَت وجودهم في بلادنا وقيامهم على رؤوسنا وتصرّفهم بمقاليد أمورنا، وأصرّت الجمعية التأسيسية عليها. واشتدّ النضال، وتحرّك الشعب وما كان قد سكن، وكانت المظاهرات وكان الصدام مع قُوى الأمن التي كانت في الحقيقة قوى لإذهاب الأمن ولبثّ الذعر. وكان العهد بالثورة قريباً فخافوا أن تعود فتشتعل نارها، فتركوا الدستور كما هو ولكنهم أضافوا إليه مادة تقيّد يديه ورِجليه، هي «المادة 116» التي صارت مثلاً مضروباً وكُتِبت عنها مقالات ونُظمت قصائد، ولشوقي فيها قول لم أعُد أحفظ منه إلا شطر بيت وهو «يَبقى الكتابُ وليس يبقى المُلحَقُ» ، يعني بالملحَق هذه المادة وبالكتاب الدستور.
كان ذلك سنة 1928، وأنا أتكلم الآن عن انتخابات سنة 1931 التي كانت في اليوم العشرين من شهرها الأخير، تلك التي افتُضح تزويرها فهاج الناس عليها وهاجموا مراكزها، واتصلت مواكب المظاهرات في الاحتجاج عليها والمصادمات بين المتظاهرين وبين الجنود المسلحين. الجنود الذين يحملون البنادق وتحميهم المصفّحات والدبّابات، وما للمتظاهرين من سلاح إلا الحجارة والمفرقَعات (1)، وهي قنابل بدائية يصنعها ناس من أهل الشام، مهروا في صنعها من الخرق والبارود والحصى وأشياء يكون لها دويّ عظيم وأذى قليل. وكان أول ما يعبّر به
(1) وضع الناس لها هذا الاسم، لا أدري مَن أول من سمّاها به.
المتظاهرون عن غضبهم عربات الترام الذي أنشأته شركة بلجيكية من قبل مولدي، مدّت له خطّين: خطاً من ميدان المرجة (الذي سُمّي بساحة الشهداء) إلى المَيدان (وكان يعرف قديماً بميدان الحصى)، وخطاً من المرجة إلى المُهاجرين على سفح قاسيون، يتفرّع منه عند الجسر الأبيض على نهر تورا (أكبر أبناء بردى) فرع إلى حيّ الشيخ محيي الدين (المنسوب إلى محييالدين بن عربي، وهو في الفلسفة وفي الكتابة ذروة من الذّرى ولكن في كتبه أشياء هي -بمقياس الدين- كفر لا شك فيه، وليس هذا موضع الكلام على ابن عربي)، وطول كل فرع من فروع الترام الثلاثة نحو ثلاثة أكيال (كيلومترات). ثم مُدّ فرع إلى دوما قصبة الغوطة (وقد اتصلت بدمشق الآن وصارت حياً من أحيائها) طوله ثلاثة عشر كيلاً.
فكلّما هاج الناس أو تظاهروا أو صادمتهم الشرطة والدرَك أقبلوا على عربات الترام يحرقونها، لأنها مِلك لبلجيكا تحميه فرنسا جارتها، وكلتاهما من دول الاستعمار التي تعتدي على الناس وتتسلّط بالباطل عليهم، وتحكم بلادهم رغم إرادتها وتأكل خيراتها من دونهم، فرنسا في سوريا ولبنان وبلاد الشمال الإفريقي وفي الهند الصينية وبلاد غيرها، وبلجيكا في الكونغو تحكم قطراً أكبر منها بعشرات المرات، كما كانت تحكم هولندا أندونيسيا؛ هرّ شرس متوحش يريد أن يبتلع جَملاً
…
أفرأيتم جملاً يبتلعه هرّ؟!
صدر أمر الكتلة الوطنية، بتعطيل الانتخابات، وتولّت التنفيذَ القوى الثلاث التي كانت تأتمر بأمرها، قوة رجال الأحياء،
وقوة الشباب، وقوة الطلاّب التي كنت أقودها. وكانت معارك أصيب فيها كثير من الناس بالجروح، ومن أفظع ما ارتكبناه (أسأل الله التجاوز بكرمه عنه) أننا هدمنا مصلّى صغيراً في دوما، ذلك أن الانتخابات كانت تجري في المدارس وفي بعض المساجد، وكان في هذا المصلّى مركز من مراكز الانتخابات فأدّى تعطيل الانتخابات فيه إلى هدمه. على أنني أحمد الله أن أخي ناجي خلفني في قضاء النَّبْك وقضاء دوما، ثم صار قاضي القُنَيطرة، فألهمه الله العمل على إنشاء المساجد ووُفّق في ذلك، وتمّ على يديه وبنفقة المحسنين من المسلمين، يتولّى جمع المال منهم وبناء المساجد به لجانٌ فيها رجال مؤمنون أمناء موثوق بهم، تمّ على يديه بناء أكثر من عشرين مسجداً كبيراً، فعوّض الله بها على أهل دوما المصلّى الذي انهدم.
* * *
بقيت جريدة «الأيام» وأمرها كل يوم إلى ازدياد حتى صارت لسان الأمّة، المعبر عن أمانيها، المصرّح بمطالبها، المدافع عن حقّها، وحتى ضاق بها الفرنسيون فمنعوا صدورها. وكانت تتوقع المنع يوماً، لذلك حصلت على ترخيص بإصدار جريدة أخرى باسم جريدة «اليوم» ، واستمرّت «اليوم» تسير على نهج «الأيام» ، ما تبدّل فيها إلاّ الاسم. فصبروا عليها قليلاً ثم منعوها بتاتاً، وختموا بابها بالشمع الأحمر وأخذوا رئيس تحريرها، فذهبت معه، فحاول أن يردّني وأفهمني الشرطي أنه لا يريدني، ولكن لم تَطِبْ نفسي أن أتركه وأرجع فركبت معه السيارة التي أخذوه بها حتى وصلنا إلى دار المندوبية، حيث يقيم مندوب المفوض
السامي (أي نائبه في دمشق)، وقد كانت في موضع القصر العدلي الآن، فأمسكوا به فأدخلوه ومنعوني من الدخول.
أُغلقت الجريدة التي أستمدّ منها ما أعيش به وأعيّش أمي وإخوتي. وقد عملت من قبل في جرائد أخرى لم أستفِد من بعضها مالاً، وما استفدته من سائرها (أي باقيها) كان أقلّ من حد الكفاية، وعلّمت قبل ذلك في مدارس ابتدائية أهلية، هي الأمينية والجوهرية والكاملية والتجارية، وألقيت دروساً في تاريخ الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية، وأصدرت كتاب «بشار بن برد» و «الهيثميات» الذي جمع مقالاتي التي كنت أكتب في ذيلها «أبوالهيثم» يوم لم يكن في دمشق من أعلم أن اسمه هيثم، وأصدرت «رسائل الإصلاح» ورسائل «سيف الإسلام» . وكنت قبل ذلك محاسباً وحاولت أن أكون تاجراً، فخرجت من ذلك كله صفر اليدين ما معي ثمن عشائي وعشاء من أعول من أهلي، فماذا أعمل الآن؟ ماذا أعمل وقد أُغلقت في وجهي الأبواب وسُدّت الطرق؟ لقد صار لي اسم في الناس وذكر في أهل الأدب، ولكن هذا الاسم وهذا الذّكر لا يُشترى به رطل من الخبز!
هنا جاءني رفيق لي اسمه غضنفر سَنْجَقْدار، حفظت اسمه لغرابته وندرته، لا أذكر الآن من أين عرفته ولا أين التقيت به، فقال لي: هل تقبل وظيفة في الحكومة؟
لقد كان آخر ما أتصور أن أعمله هو أن أكون موظفاً في حكومة ما فتئنا منذ أمسكنا الأقلام وركبنا المنابر ننقدها ونتكلم عنها، ونراها عوناً للعدوّ وحلفاً للاستعمار وحرباً على الوطن،
وكنت أنكر على من يقبل وظيفة فيها. فهل أكون أنا موظفاً؟
تمر على المرء ساعات اضطرار لا يبقى له فيها خيار، وهل أملك أن أرفض الوظيفة ولم يبقَ لي ولا لأهلي مورد، وليس معي مال، ولا لي في غيرها أمل.
وكان من سياسة الفرنسيين أنهم يقطعون بالوظائف الألسنة ويكفّون عنهم بها الأقلام، كنت أعلم هذا وأعلم أني لو طلبت وظيفة كبيرة لأُعطِيتُها، ولكني قنعت من الشرّ بأقلّه، ورضيت أن أكون معلّماً كما كان كثير من رفاقي: سعيد الأفغاني وجميل سلطان وزكي المحاسني وأنور العطار، وكما كان بعض مشايخي: الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ زين العابدين التونسي والشيخ حامد التقي والشيخ (الطبيب) رفيق السباعي، وكثير غير من ذكرت من هؤلاء وأولئك، كانوا كلّهم معلّمين في المدارس الابتدائية وما أنا بأفضل منهم، بل كانوا هم أفضل مني، رضوا بأن يكونوا موظفين، فما لي لا أرضى بما رضوه لأنفسهم؟
وقضيت ليالي طوالاً لم أعرف فيها ما طعم النوم، أنصب ميزاناً في ذهني أضع في كفّة منه آمالي وأمانيّ وأضع في الكفّة الأخرى حاجات نفسي وأسرتي، هل أضحّي بالآمال والأماني أم أهمل واجبي وأضيّع أهلي؟ لقد كان امتحاناً صعباً، ولكني أنظر إليه اليوم من وراء إحدى وخمسين سنة فأجدني قد نسيت صعوبته، لذلك أعجز عن وصفه. إننا كالذي يمسك المنظار (التلكسوب) ينظر فيه فيرى الصغير كبيراً والبعيد قريباً، فإن قلبنا المنظار ونظرنا من عدسته الكبرى أبصرنا الكبير يصغر والقريب
يبعد، وهذا مثال الماضي والمستقبل.
لو جاءني من يقول لي: أمنحك منيحة، داراً أعْمرك (1) إياها، تسكنها خمسين سنة تردّها بعدها، لرأيت ذلك أمداً بعيداً يسرح الأمل خلاله ويعجز التصوّر عن إدراك مداه. خمسون سنة؟ ما أطولها! ولكني أذكر الآن ما كان قبل خمسين سنة فأقول: ما كان أقصرها! إني أراها كأنها أمس القريب.
تنظر إلى رمضان في أول يوم منه فتراه طويلاً وتفكر كيف تصومه، فإن نظرت إليه الآن بعدما مضى وانقضى أحسست كأنه كان ساعة واحدة.
إن أجلّ فائدة استفدتها من كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي لمّا نشره أخي وكتبت مقدمته الطويلة هي أنه: ما منا إلا مَن نال لذّة في معصية أو حمل ألماً في طاعة. في رمضان هذا الذي صمناه من قريب حملنا مشقّة الجوع في يومه الطويل والعطش في حرّه الشديد، وكنا نشتهي في النهار كوباً من الماء البارد نشتريه بالثمن الوفير وطَبَقاً من الطعام الشهيّ ندفع فيه الكثير، فما الذي يبقى من تعب الصيام بعد أن يؤذّن المغرب فنأكل ونشرب؟ والذي غلبَته نفسه وسيّره شيطانه، فأفطر في رمضان وأعطى نفسه شهوتها وأتبعها لذّتها؟ ماذا بقي الآن من هذه اللذّة ومن ذلك الألم؟
وتَصوّرْ ساعة الموت وفراق هذه الدنيا، تجد أن اللذّات
(1) هذه هي العُمرى، وتسمّى في القانون المدني «حق الانتفاع» .
المحرّمة ذهبت كلها ولكن بقي عقابها، ومتاعب الطاعات ذهبت كلها ولكن بقي ثوابها. هذه الفائدة التي استفدتها من ابن الجوزي أتمنى لو أني أذكرها دائماً، وهيهات ما دام الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء وحب العاجلة، ما دامت كلها موجودة!
* * *
واستجبت لهذا الرفيق، وقبلت الوظيفة.
وصدر قرار من وزير المعارف (أو صدر باسمه، فكان له الاسم ولغيره الفعل) بتعييني معلماً في السلمية، وهي على سِيف البادية بين حمص وحماة إلى الشرق منهما، تذهب إلى حمص إن شئت أو إلى حماة ثم تشرّق حتى تبلغها.
وكان أمر «معارف» حمص وحماة بجميع مدارسهما إلى مفتّش واحد، كان أستاذاً لنا في مكتب عنبر، ومعه بضعة موظفين، وكنا ونحن تلاميذه نتحدث عنه بأنه ممّن يجاري الفرنسيين ويداريهم.
وذهبت أتسلّم العمل، وكان قد بقي من السنة الدراسية شهران وأنا طالب في السنة الثانية من كلية الحقوق، فركبت السيارة إلى حمص، وكانت تلك أول مرة أزورها فيها، ونزلت فندقاً فيها اسمه «رغدان» قالوا إنه لا يزال باقياً كما هو إلى الآن، فبتّ فيه وحيداً. فلما كانت الغداة قصدت السلمية، وهي -كما كانت من قديم- بلد الإسماعيليين. والإسماعيلية أم الفرق الباطنية، وهي الآن فرعان: البُهَرة وأتباع أغاخان.
وفُتحت في كتاب حياتي صفحة جديدة، وما أكثر صفحات هذا الكتاب الذي لم تُكتَب خاتمته بعد، وإن دنا موعدها وقرب مكانها. اللهمّ اجعلها خاتمة حسنة يا رب.
* * *