المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أصعب الأيام في حياتي - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌من أصعب الأيام في حياتي

-64 -

‌من أصعب الأيام في حياتي

لما كنت أعلّم في المدارس الابتدائية الأهلية في دمشق كانوا يخرجون مع التلاميذ في جولات في قرى الغوطة وفي وادي بردى الذي يمتدّ إلى الزبداني مسافة خمسين كيلاً، فخرجت معهم مرة، ورجعنا مساء وقد أظلم الليل، وكنا نمشي حيال سكة الحديد (من وراء وزارة الإعلام وساحة الأمويين اليوم)، حيث يجري نهر باناس تحت الأرض لا يظهر إلاّ من فتحات تُخفيها الحشائش، والتلاميذ يُنشِدون الأناشيد ويهزجون ويصيحون. فلما وصلنا إلى المدرسة تنبّه بعضهم إلى أن تلميذاً من التلاميذ قد فُقد، وكان ابن الشيخ ياسين الجويجاتي، وهو أحد القرّاء المجوّدين أصحاب الخلق والدين. فانتشروا يفتّشون عنه واستعانوا بمن حضر من أولياء التلاميذ وبذوي النجدة من الناس، فتبيّن بعد ساعات طِوال ثِقال أنه سقط في إحدى هذه الفتحات، وتحققنا أنه مات. وحاروا كيف يبلّغون النبأ أباه، فاقترح الشيخ عبد الرحمن الخطيب أن يخبروا الشيخ بدر الدين، وكان الأب يحضر درسه. فتكلّم الشيخ في الصبر وسرد ما ورد فيمن فقد الولد، حتى عرف الشيخ ياسين، فاسترجع وصبر. وعوضه الله أولاداً نبغوا وجمع

ص: 349

الله لهم الدين والدنيا.

وكدتُ وأنا معلم في مدرسة سقبا، كدت أقع في مثل هذا، ولكن الله سلّم. أخذت التلاميذ فقطعت بهم عرض الغوطة إلى بَرْزة فسهل القابون، حتى صرنا في حارة الأكراد، وكانت يومئذ (أي قبل خمسين سنة) مغلَقة على أهلها لا يدخلها غيرهم، فلما صرنا فيها اجتمع علينا صبيانها يرجموننا بالحجارة، فأصرخ بهم فيفرّون منّا ثم يكرّون علينا. واستنجدت بمن صادفت من كهول الحيّ فما أنجدني منهم أحد ولا اهتمّ بي ولا بمن معي، فلم يبقَ أمامي إلاّ أن أقابل الشرّ بالشرّ والجنون بجنون مثله، فأمرت التلاميذ بصوت عالٍ أن يجمعوا الحجارة وأن يرموا بها من يرميهم، ومن أصاب واحداً منهم فأسال دمه كافأته ومن أخطأه عاقبته، فناداني كهول الحيّ وقالوا: ماذا تقول؟ أهذه وصية معلّم لتلاميذه؟ قلت: الله يقول: {وَجَزاءُ سَيّئةٍ سَيّئةٌ مِثْلُها} ، فكُفّوا عنّا صبيانكم أكفف عنكم تلاميذي.

وكان ذلك، فكفّوا وكففنا. وكان طريقنا من فوق البيوت، نسير في لحف الجبل، نجوز حيّ الأكراد فالصالحية فالمهاجرين، ثم نمشي على شفير الوادي فنهبط دُمَّر، ثم نصعد الجبل المقابل فننزل معه وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى نبلغ المزة. وقد سلكت هذا الطريق من قبل مرات كثيرة حتى إني لأمشي فيه مغمض العينين، ولكننا وجدنا هذه المرة ما لم نكُن نحتسبه.

لمّا بلغنا ذروة الجبل العالي المطلّ على الربوة ومتنزّهاتها ومقاهيها، المقابل لـ «المنشار» و «قبة السيّار» ، وملنا لنهبط إلى

ص: 350

المزة، اعترضَتنا حظيرة من الجنود السنغاليين على رأسهم عريف فرنسي. فمنعونا، فأردنا أن نرجع من حيث جئنا فأبوا ذلك علينا. قلت لهم: فماذا نصنع؟ فأشاروا إلى الربوة، أي أن نهبط من وجه الجبل. وكان ذلك ممّا يشقّ على المحترفين من متسلّقي الجبال، فما بالكم بأولاد منزلهم الغوطة، ما عرفوا الجبال ولا ألفوا صعودها وهبوطها؟ والجبل من هنا كأنه جدار قائم عليه حجارة صغار، إذا وضع النازل رجله عليها تدحرجت من تحت رجله، فكأنما مشت الأرض أو خُسفت به فهوى معها.

عدنا إليهم نحاول إقناعهم، فلا أقنعهم العقل ولا حركتهم العاطفة ولا نفع معهم كلام، كأننا نكلم صخرة أو نخاطب دابة، وكلما ألححنا عليهم حرّكوا زناد البندقية ووجّهوها إلينا.

امتحان مرّ عليه نصف قرن ولم أنسَ ما قاسيت منه. وكان معي إخوتي الثلاثة، فكنت أضع أخي ناجي مرة أمامهم وأكون أنا من خلفهم، ومرة أكون أنا قدّام وهو من وراء، وكنت أدعو الله أسأله (إذا كان مقدَّراً على أحد منا الموت) أن أموت أنا أو أحد إخوتي وينجو أبناء الناس. هل يفرّط أحد بنفسه أو بأخيه أو يهون عليه فقده؟ ولكني اخترت أن أقع أنا أو أخي ولا أوقع أحداً من هؤلاء لأنهم أمانة في عنقي، فمن يخلّصني من آبائهم وقد عرّضتُهم أنا إلى الهلاك؟

وتردّد الأولاد وخافوا، وكنت أشدّ منهم خوفاً وأكثر تردّداً، ولكني تجلّدتُ وشددت صوتي وأمرتهم أمراً عسكرياً أن ينزلوا بعد أن علّمتهم كيف يكون النزول، وهددت من يتأخر أو يجبن

ص: 351

بالعقوبة وأثرت الحماسة والشجاعة في نفوسهم.

وكنت متعوداً على الجبال، عرفتها وألفتها وطال عهدي بها، فهوّنت النزول عليهم، فنزلوا والحجارة تتدحرج من تحت أقدامهم، وكل من كان في المقاهي أو كان قاعداً على السفح أو كان يتنزّه بين الأنهار التي تجري في الجبل، كلهم يصرخ بي: ما في نزلة من هنا، ارجع، ارجع. ما في نزلة، خطر.

يرون الخطر وأنا أراه معهم، ولكنهم لم يروا ولم يعلموا ما الذي جعلني أهجم على الخطر وأعرّض أولاد الناس إليه.

وكانت ساعة أطول من دهر، لا يعلم إلاّ الله ما مرّ عليّ فيها وأنا أتوجّه إليه أدعوه ضارعاً مضطراً، وهو الذي يجيب دعوة المضطرّ. كنت أرى الموت في كل خطوة نخطوها بأقدامنا وفي كل حجر ينحدر من تحت أرجلنا، أراه في الوادي الذي يبدو لي كقرارة بئر ما إليها وصول، أرى لمعان مياه الأنهار كأنها سيوف مُشرَعة أو سكاكين محدّدة، أمام قلبي الذي كاد من شدة الخفقان يفارق الضلوع، وكانت صورة الولد الذي سقط قديماً في النهر لا تفارق مخيّلتي، فأسأل الله ألاّ تُعاد وأدعوه أن يمرّ اليوم بسلام.

وما كنتَ تراني إلاّ صاعداً ونازلاً، وكذلك يصنع أخواي ناجي وعبد الغني: يتعثّر تلميذ فنسرع إليه أو يعلق فنمضي لإنجاده، والأصوات لا تنقطع من تحتنا من المقاهي ومن شطوط الأنهار، لم يبقَ للناس عمل إلاّ مراقبتنا والنداء علينا.

وما صدقت أن بلغت السفح حتى تشهّدتُ، وألقيت بنفسي

ص: 352

على الأرض أستريح قليلاً لأشرح للناس الذين تكوّموا علينا: لماذا نزلنا من هنا.

* * *

والذكريات -كما تعرفون- يجرّ بعضها بعضاً، فقد ذكّرتني هذه الجولة برحلة إلى حَلْبون (أشرت إليها في الحلقة الماضية)، كنت قد كتبت مقالة أصف فيها الجانب المسلّي منها ووضعتها في كتابي «من حديث النفس» ، ولكني واصفٌ اليوم الجانب الآخر. وإذا كان فيما نُشر من قبل شيء من تهاويل الخيال فإن الذي أقوله اليوم هو الواقع أرويه كما وقع.

كان ذلك سنة 1931، وكان أخي أنور العطار معلّماً في مدرسة مَنين (1) خلفاً لأخي سعيد الأفغاني، فعُيّن صديقنا حكمة هاشم معلّماً في مدرسة حلبون، وكان شاباً في الثامنة عشرة، فضَمِنّا (أنا وأنور) لأبيه أن نذهب معه إليها لنوصله وندبر له أمره. ولقد وصفتُه في المقالة المنشورة يومئذ (مازحاً) بأنه أستاذ جامعة حلبون، فمرّت الأيام ورأيته مدير جامعة دمشق حقاً.

ومنطقة التلّ ومنين إحدى متنزَّهات دمشق ومناطق الاصطياف فيها، يخرج أهل دمشق إليها للتفسّح من ضيق الحياة عليهم والتفرّج من شدتها وكربها. أول هذه المناطق وأَولاها باهتمامهم، بل لتكاد تُعَدّ مَصِيفهم الأصلي، لا يقصدون غيرها

(1) كذا ضبَطها ياقوت في معجمه، بفتح الميم. واسمها الدارج على ألسنة العامة بسكونها، فيلفظونها «مْنِين» (مجاهد).

ص: 353

ولا يفكّرون في سواها، هي منطقة وادي بردى، ابتداء من الرَّبْوة والشّاذِروان إلى دُمَّر والهامَة، وإلى جنب الهامة قرية داثرة هي جَمرايا (2) قرية الشاعر ابن واسانة التي قال فيها قصيدة طويلة لا نظير لها في الشعر العربي، يصف فيها ضيوفاً نزلوا عليه نزول البلاء وأكلوا ما عنده أكل الجراد، وخرّبوا عامره وسرقوا متاعه وهمّوا بالتعدي على عِرضه، كأنهم جيش الدفاع الإسرائيلي، أي الدفاع عن شرع إبليس لعنه الله ولعنهم ولعن من يُعينهم ويحمي أمنهم، إنه أمن اللصّ الذي يريد أن يسرق (على كيفه) فلا يروّعه صاحب الدار. وهذه القصيدة العجيبة في «يتيمة الدهر» فاقرؤوها.

وعند الهامة يتّسع الوادي قليلاً، ثم يأخذ في الضيق عند الجدَيْدة، فإذا صار عند «العين الخضراء» لم يبقَ منه إلاّ ما يسع بردى، يجري فيه كالشاب المتهوّر الطائش المجنون ولكنه قوي جميل، وعين الخضراء تتوارى وراء الصخرة عند رِجل الجبل كالفتاة الفتّانة المستحية العذراء. وهو أجمل من وادي زحلة عند البردوني، الذي قال فيه شوقي «يا جارة الوادي» وغنّى عبد الوهاب ما قال شوقي، فكان من ذلك أحلى لحن في أحلى شعر.

ثم يصل إلى «الفيجَة» (وقد سبق الحديث عنها)، فيمشي بعدها بين جبلين متقاربَين إلى «التكيّة» حيث نُصبت من قديم مولّدات الكهرباء يحرّكها الماء المتحدر، ثم يصير الوادي الضيّق

(2) وهي اليوم في أرض الدكتور عدنان والشيخ أبي الفرج الموروثة عن والدهم الشيخ عبد القادر الخطيب.

ص: 354

سهلاً فسيحاً، هو الصورة المصغّرة لسهل البقاع الذي تدور فيه الآن المعارك وتتحدث عنه الصحف والإذاعات. هذا هو سهل الزَّبَداني، عن يمينه مَضايا وبُقّين، وفي صدره وعن يساره الزبداني، وفوق الزبداني بْلودان، درة مصايف دمشق وأكثرها عمراناً، وأكثرها فساداً أيضاً. والحضارة المعاصرة لا تدخل بلداً إلاّ دخل معها الفساد.

والمنطقة الثانية منطقة النَّبْك ويَبرود، وسأحدثكم حديثها حينما أنتقل إليها -قاضياً فيها- سنة 1941.

يَبرودُ يَبرُدُ صيفاً من أقامَ بها

لذاكَ قِيلَ مع الإشباعِ يَبرودُ

والإشباع مدّ الفتحة حتى تصير مثل الألف والضمة حتى تصير مثل الواو: كلمة «شَرٌّ» مثلاً تصير بالإشباع «شارون» : أصله وحقيقته شر ولكنهم شبّعوا الفتح والضم فصار شارون، وبقي شراً على الحالَين

وهل يأتي من يهودي إلاّ الشرّ؟

والمنطقة الثالثة منطقة التل ومنين التي أتحدث عنها.

* * *

كان لدمشق يومئذ ثلاثة مداخل (أو مخارج): غربيّ من وادي الربوة إلى بيروت، وجنوبيّ من «القَدَم» في آخر الميدان إلى درعا ثم الأردن ثم إلى المدينة المنورة، وشرقيّ من آخر حيّ النصارى «القَصّاع» ، وهو طريق حلب الذي يُضرَب به المثل في الوضوح فيُقال:«أوضح من طريق حلب» ، يتفرع عنه من أوله طريق يوصل إلى القَابُون ثم إلى بَرْزَة، وكلاهما صار الآن من

ص: 355

أحياء دمشق. ومن برزة يبدأ وادٍ صغير مُقفِر (أو كان يومئذٍ مقفراً) إلى مَعْرَبا، وهي قرية تقع على الوجه الآخر لجبل قاسيون، ومنها إلى «التلّ» ، وهي قرية كبيرة، أو بلدة صغيرة، وأهلها كلهم من البنّائين المَهَرة، وهم الذين بنوا بأيديهم مدينة الرياض في مطلع نهضتها العمرانية من نحو ثلاثين سنة أو أقلّ. ثم تمشي في وادٍ أخضر فيه الشجر والماء إلى منين، وعين منين من أجمل العيون: ينبوع صافٍ غزير حوله بِركة واسعة:

يَرُوعُ حصاهُ حاليةَ العَذارى

فتلمَسُ جانبَ العِقدِ النّظيمِ

أي أن الفتاة ترى الحصى في الماء كاللآلئ فتحسب أنها حبات عقدها، فتلمسه لتتحقق من أنها لم تنفرط. وما رأيت في عمري نبعاً أصفى ماء وأجمل حصى من ماء عين منين وحصاها، وكم لي فيها من ذكريات، ولكنّا حُرمنا منها كما حُرمنا من العين الخضراء ومن كل المتنزَّهات لأن الخمر دخلتها فخرجنا نحن منها. وهذه المتنزَّهات للناس جميعاً، فإن لم تتبع شرع الله وتحرّم ما حرمه (وذلك حقّ الله على كل مسلم) فإن الديمقراطية هي (عندهم) حكم الشعب، والذين يشربون الخمر من الشعب لا يجاوزون بضعة أفراد في الألف، أفمن أجل بضعة أفراد من العُصاة نَحرم بقيّة الألف من الطائعين الاستمتاعَ بجمال بلادهم؟

* * *

كان الطريق المعبَّد ينتهي عند منين، فمن أراد الوصول إلى حلبون مشى على غير طريق. يصعد جبلاً ويهبط وادياً، يسلك سهلاً ووعراً. وكان الوصول إلى حلبون من جهة الوادي أسهل

ص: 356

ولكنه أطول، ومن فوق الجبل أقرب ولكنه أصعب. ولم تكن معنا سيارة (ولا تستطيع أن تمشي سيارة بلا طريق)، لذلك جاؤونا بدابّة واحدة لنتناوب ركوبها، فتركت لهم نوبتي وسرت على قدمي لأني وجدت المشي أهون من ركوب هذه الدابة.

"وذهبنا نصعد الجبل، وكلّما بدت لي قمة قلت: هذه هي النهاية. فإذا وصلت إليها بدت لي من بعدها قمم، وتلفتّ إلى الوراء فإذا منين كلها بقدر الكفّ، وإذا هي من عمقها كأنها في قعر البحر، وإذا أمامنا وعن أيامننا وعن شمائلنا جبال وبِطاح لا حدّ لها مغطّاة كلها بالثلج، وإذا نحن نبلغ موضعاً نُشرِف منه على دمشق من بعيد ونرى جبل قاسيون كأنه أكَمَة تحتنا (أو كذلك خُيّل لنا)، ثم تَوَعّر الطريق فغدا شِعْباً ضيّقاً، على يمينه جبل عال كأنه جدار وعن شماله وادٍ لا يبلغ البصر قرارته"(1). وبلغنا حلبون بعدما بلغت أرواحنا التراقي.

وليست القصة عن بلوغنا حلبون ولكن عن الرجوع منها.

بتنا فيها، فلما كان الغد أبى أنور أن يعود معي وأصررت على أن أعود، فذهبوا يفتّشون لي عن دابّة تحملني ودليل يدلّني، فلم يأتيا إلاّ بعد العصر، فودّعتهم وسرت مع الدليل. وقد نسيت أن أقول لكم إننا كنا في قلب الشتاء، وإن الثلج كان يغطّي تلك الجبالَ كلها ويرتفع سُمْكه أحياناً حتى تغوص فيه القدم، وربما علقت به فلم تدرك صلابة الأرض، وإن الوحوش كثيرة، يدفعها الجوع إلى الإقدام على الفتك بالإنسان. لذلك كنا كلما رأينا

(1) ما كان بين قوسين فهو من المقالة القديمة.

ص: 357

صخرة أو أغصان شجرة يابسة تبدو في الثلج الأبيض حسبنا ما رأينا واحداً من هذه الضواري التي كنا نسمع أصواتها من بعيد

ومن أفتكها الدببة، وما أدراك ما دببة حلبون؟ ولقد رأيت على باب المدرسة (وهو من الخشب السميك) آثارَ أنياب دبّ منها كأنها مسامير دُقّت في الخشب ثم نُزعَت.

ركبت ومشى معي الدليل، ثم عزمت عليه أن يركب هو وأمشي أنا لتكمل المساواة بيننا. وغابت الشمس فنويت الجمع لأني لم أجد مكاناً جافاً أصلّي فيه، وأظلم الكون وسكن الليل ونحن نمشي صامتَين، وبدا لي ضوء من بعيد، قلت: ما هذا؟ قال: هذه منين. قلت: ارجعْ إذن، فأنا أكمل الطريق وحدي. فأخذ الدابة ورجع، ونزلت في منحدر من الأرض فغاب عني الضوء، وكانت السماء غائمة لايبدو فيها نجم أستهدي به، فندمت على أن صرفت الدليل، فناديته فلم أسمع إلاّ صدى صوتي تردّده هذه البطاح، فخفت. نعم، خفت. أتريدون أن أكذب عليكم فأدّعي لنفسي شجاعة تجاوز حدود العقل؟ إن كل ما جاوز العقل جنون.

لمّا جئنا كنا ثلاثة ومعنا دابة ودليل ونحن في النهار، وقد قرأتم وصف ما مرّ بنا، فكيف بي الآن وأنا وحدي والدنيا ليل، لا يبين لي طريق فأسلكه ولا نجم في السماء فأهتدي به، وما معي سلاح أردّ به عن نفسي وحشاً يهجم عليّ؟

خفت، ومن خوفي جعلت أعدو لا أعرف إلى أيّ وجهة أتجه، أسقط في حفرة أخفاها الثلج المتراكب عني، ثم أنهض

ص: 358

فأخرج منها. وكنت ألبس دِثاراً (1) من الصوف فوق القميص، ومن فوقه الرداء (الجاكيت) ومعطف ثقيل، فابتلّت ثيابي كلها من العرق كأنّها غُسِلت بالماء. وكان الجوّ بارداً، جوّ ثلج، فإن وقفت في البرد وثيابي مبتلة أصابني «الرشح» ، فلم يكن أمامي من خيار إلاّ الحركة الدائمة. لم أشعر بالتعب ولا الجوع، لأن الشعور بالخوف غطّى عليهما.

قطعنا على الطريق من منين إلى حلبون لمّا جئنا ثلاث ساعات، وقد مضت عليّ الآن خمس ساعات وأنا كحمار الرحى، أدور وأدور وأنا في مكاني، أعلو وأنزل وأنحرف يميناً وشمالاً على غير هُدى، حتى مَنّ الله عليّ فأبصرت مرة ثانية الضوء الذي قال لي الدليل في أول الليل إنه ضوء منين. فأخذت سَمتي إليه لا أنحرف عنه مهما اعترضني لأن الأمر صار أمر حياة أو موت، وفي مثل هذه الحال قد يتحقق المحال. وصلت منين -بعدما قاسيت ما لم يعلم به إلاّ الله- وقد صارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان مدير الناحية فيها صديقي وقريبي نذير الخطيب (أبوه الشيخ عبد القادر الخطيب ابن عمّ أمي) فاستحيت أن أدق الباب عليه، فسلكت طريق «التل» ، وهو وادٍ متعرّج يجري فيه ماء عين منين في نهر صغير مزبد متحدّر له صوت، فاستسهلت ما كنت فيه وأنا فوق الجبل: كنت أرى ما حولي أحسّ بالخطر قبل أن يصل إليّ، فصرت هنا لا أرى ما بعد منعطف الوادي. وبمقدار جمال الماء المتحدّر المتكسّر في ضياء الشمس

(1) ما لامس الجسد من الثياب فهو الشعار، وما يُلبَس فوقه لطلب الدفء فهو الدّثار.

ص: 359

يكون الخوف منه في سواد الليل، لذلك كان سلوك هذا الوادي أشقّ عليّ من الضلال فوق الجبال!

ووصلت «التل» وقد بقي دون الفجر أقل من ساعتين، وكانت سيارات البلد الكبيرة رابضة تنتظر طلوع النهار وتوافُد الركاب، وكانت أجرة السيارة إن هي امتلأت مقاعدُها كلها ثلاثَ ليرات، فقلت: خذوا ثلاث ليرات وأوصلوني إلى دمشق، فما قبلوا.

فماذا أصنع؟ مشيت الليل كله وأنا جائع خائف وثيابي كلها تقطر ماء، والليلة باردة، وقد أنفقت آخر ذرة من طاقتي. فاضطُررت أن أسأل عن دار معلّم المدرسة، ووجدت بعض المبكّرين فدلّوني عليها، فقرعت عليه الباب فقال: مَن؟ قلت: عليّ الطنطاوي، افتح لي. ففتح مدهوشاً (وربما كان مرعوباً)، فقلت: تسبّني، تشتمني، تقول عني ما شئت، الحقّ معك والله يسامحك، بس (1) أدخلني وأعطِني قميصاً وثوباً حتى أجفّف ثيابي، وشيئاً آكله.

فأدخلني وأوقد المدفأة، وجاءني بثياب وتركني أنزع قميصي وردائي وألبس ما جاءني به، وأتاني بالشاي وبالطعام فأكلت وشربت، ورويت له قصتي باختصار، وتركني لأنام.

* * *

(1) كلمة «بَسْ» بمعنى فقط معرَّبة من القديم.

ص: 360

نمت ثلاث ساعات، ثم نهضت فكتبت له ورقة أشكره فيها وهربت.

أما هذا المعلم فهو الأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي، رفيق المدرسة، كان في مكتب عنبر بعدي بسنة واحدة ثم صار صديقي، أحبّه ويحبّني وأناقشه فأسبّه ويسبّني، ألتقي معه في أصول المسائل وأخالفه في فروعها، نفترق فنشتاق ثم نجتمع فنختصم.

فإذا لقيتموه فأبلغوه أنها مرّت اثنتان وخمسون سنة شمسية ولكني لم أنسَ ما صنع لي تلك الليلة، إنها ليلة أموت ولا أنساها.

* * *

ص: 361