المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في المقاومة الوطنية - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌في المقاومة الوطنية

-41 -

‌في المقاومة الوطنية

هذه أول حلقة أكتبها لجريدة «الشرق الأوسط» ، والحلقات الثلاث التي نُشرت فيها قبلها ما كُتبت لها بل لمجلة «المسلمون» .

كنت كالذي يسكن غرفة هادئة في نُزُل صغير في ضاحية البلد، فأغلقوا النزُل وحملوه وهو نائم إلى الفندق الكبير الذي يتسابق الناس إليه ويتزاحمون عليه. ولكن الفندق وسط السوق: ضجّة دائمة وحركة دائبة، ولم يجدوا فيه غرفة خالية فنصبوا له سريراً في الردهة، فصحا فإذا الناس من حوله، لا يستطيع أن يواري شخصه عن العيون ولا يداري صوته عن الآذان، فغدا يحسّ أنه كالعريان قد فقد الثياب.

هذا مثالي في مجلة «المسلمون» وفي جريدة «الشرق الأوسط» .

وأنا من جمعية «المحاربين القدماء» . هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالاً أقابل به الرجال وأقاتل الأبطال، فأعود مرة

ص: 27

ومعي غار النصر، وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل (1). قلمٌ إن شئت لانَ في يدي حتى ليخشن معه الحرير، وإن شئت صلب حتى يلين إلى جنبه الحديد. إن أردتُه هديّة نَبَتَ من شقّه الزهرُ وقَطَرَ منه العطرُ، وإن أردتُه رَزيّة حطّمتُ به الصخر وأحرقتُ الجمر؛ قلم كان عذباً عند قوم وعذاباً لقوم آخرين.

ثم أحالتني الحياة على التقاعد، فودّعت قلمي كما يودّع المحتضَر وغسلته من آثار المداد كما يُغسّل من مات، ثم لففته بمثل الكفن وجعلت له من أعماق الخزانة قبراً كالذي يُدفَن فيه الأموات. حتى جاءني من سنة واحدة أخ عزيز، هو في السن صغير مثل ولدي ولكنه في الفضل كبير، فما زال بي يفتلني في الذّروة والغارب (كما كان يقول الأولون)، يحاصرني باللفظ الحلو والحُجّة المقنعة والإلحاح المقبول، يريدني على أن أعود إلى الميت فأنفض عنه تراب الموت وأمزّق من حوله الكفن، وأنا أحاول أن أتخلص وأن أتملص، حتى عجزت فوافقت على أن أكتب عنده ذكرياتي.

بدأتها وأنا لا آمل أن أتمّ عشر حلقات ولا أتصور الأسلوب الذي أتبعه في كتابتها، فاعتمدت على الله، وأرخيت زمام القلم ليمشي وحده، فوفّق الله، وتمّت أربعون حلقة وأنا لا أزال في سنة 1931.

فيا زهير (2) أشكرك؛ فلولاك ما كتبت، وأشكر «المسلمون» ،

(1) الفشل في اللغة الضعف والكسل.

(2)

أعني الأستاذ زهير الأيوبي الذي كان له الفضل الكبير في تدوين هذه الذكريات.

ص: 28

وأرجو أن يرجع آل حافظ البصر، فلعل الله يعيد «المسلمون» . فما فُقد الخير في أمة محمد، وما كل الأغنياء همهم الربح وحده. إن فيهم من يرجو ثواب الآخرة، وإن الحكومة المسلمة لا تبخل على «المسلمون» بمد يد العون إليها، ويدها طويلة بالخير والإحسان تصل إلى أرجاء الأرض كلها. فهل بقي من أمل؟

* * *

إن لديّ من الذكريات الكثير، ما بقي منها ربما ملأ كتباً، لأني ما عشت ثلاثة أرباع القرن كما تشهد تذكرة ميلادي، بل عشت أربعة قرون. بل إن الذي رأيته من تبدل الدول وتطور الحياة لا يكون مثله في أربعة قرون؛ فلقد عشت حيناً من عمري في ظلال راية العثمانيين، ثم عشت تحت علم الدولة العربية، ثم في حكم الفرنسيين، ثم تحوّلَت أحوال وكانت أهوال، جاوزَت في غرابتها الخيال.

وأنا فوق ذلك قد مارست الصحافة كتابة فيها واحترافاً لها، والتعليم في جميع مراحله، من المدارس الأولية في القرى إلى أقسام الدراسات العليا في الجامعات، وعلّمت شباباً ومشايخ، وعلّمت بنات. في دمشق وقراها، وفي العراق أدناه وأقصاه، وفي لبنان، وفي هذه المملكة، حجازها ونجدها. واشتغلت بالقضاء قاضياً في أصغر محكمة، إلى أن غدوت مستشاراً في محكمة النقض في دمشق ومحكمة النقض في القاهرة. وكتبت القصة والمقالة، وألّفت مسرحيات وساعدت على إخراجها، وسرت في أرض الله شرقها وغربها. وأعددت نفسي لذلك بالدراسة

ص: 29

النظامية إلى آخر مراحل الدراسة في بلدي، وفي القراءة على المشايخ كما يقرأ طلاّب الأزهر، وبالمطالعة الدائبة المستمرة في كل علم وكل فن.

وكانت هذه الذكريات كقطع من الذهب الثقيل وضعتها في كيس من قماش ضعيف ومشيت بها، فكلما خطوت في طريق الحياة خطوة سقطَت من الذهب قطعة، حتى فقدت أكثرها. ما دوّنتُ شيئاً وكان اعتمادي كله على الذاكرة، وقد خبّرتكم من قبل ماذا صنعت بهذه الذاكرة الأيام.

فأنا أقرأ الحلقة المنشورة ولا أدري والله ما الذي أكتبه بعدها، فذهني كالمستودَع فيه من كل بضاعة، ولكن بضائعه مركومة رَكماً تداخلت أنواعها واختلطت، فإذا أردت أن أستخلص نوعاً منها جردتها كلها، أو عجزت عن جردها فنمت إلى جنبها ثم نسيتها.

وطالما فكرت في الهرب، ولكن الحارس يقظ يسدّ عليّ الطريق، فلما نقلت إلى الجريدة رأيت أن قد وجب الهرب؛ فما يُنشَر في الجريدة هو صدى لما يقوله الناس وصورة لما يشغلهم من أحداث يومهم ممّا يهمّ جمعهم، وأنا أجيء لأحدثهم عن أحداث مضت، لم تكن تاريخهم كلهم بل تاريخي أنا من دونهم، فيكون حديثي أبرد الأحاديث وأثقلها. هم يقدّمون للقرّاء طعامهم المفضّل لديهم حاراً في طبق صُبّ لهم، وأنا أقدّم لهم في طبقي «البائتَ» من طعامي، فاسألوا القرّاء: هل يهمّهم أن يعرفوا ماذا فعلت أو ما قلت أو ماذا رأيت وما سمعت من خمسين سنة، وهم

ص: 30

مهتمّون بالذي يرونه ويسمعونه في يومهم الذي يعيشونه؟ ما لهم ولما وقع لي، وما هم فيه يزيد عن طاقة احتمالهم؟

لذلك أظن أني سأستقيل، بل أنا أضع استقالتي تحت يد أصحاب الجريدة. والوزارة التي تستقيل تصرف الأعمال حتى تأتي وزارة تخلفها، فأنا أستمر في الكتابة حتى يصدر قرار قبول استقالتي

أفعل اليوم فعل الوزراء وما فيّ إلاّ تلك من صفات الوزراء.

* * *

أعود إلى ما كنت فيه، إلى ما قطعني عن ذكره بيغن وشارون مجرما العصر، ولكل عصر مجرموه كما أن لكل بلدة مَجاريها، فالمجاري فيها أقذار الناس والمجرمون هم أقذر الناس.

قلت إن تلك الخطبة التي ألقيتها سنة 1929 وتلك المظاهرة التي قدّمتُها نبّهَتا الناس إليّ ودلّتا قيادة النضال الوطني عليّ. وكانت القيادة للكتلة الوطنية، ولم تكُن -فيما أعلم- حزباً منظماً كالأحزاب التي كانت قبلها وبعدها، بل كانت مجموعة من الزعماء الوطنيين رئيسهم الشيخ الجليل هاشم الأتاسي، ومن أعضائها: فارس الخوري وشكري القوّتْلي وجميل مَرْدَم وزكي الخطيب ولطفي الحفّار وفخري البارودي، ومَن لست أذكر الآن.

وما الكتلة الوطنية؟

لما كنا في أوائل الدراسة الثانوية كان في البلد حزبان: حزب الشعب الذي كان أبرز رجاله الطبيب الكاتب الخطيب

ص: 31

عبد الرحمن شهبندر، وحزب الاستقلال. فلما قامت الثورة الكبرى سنة 1925 (وقد سبق الكلام عنها) وحكم الفرنسيون بالعقاب ظلماً على أكثر الزعماء بالقتل أو بالسجن فرّ منهم من استطاع الفرار وتوارى أكثرهم عن الأنظار، حتى إذا أمنوا تجمعوا وتعاونوا، فكان من ذلك «الكتلة الوطنية» .

كانت الكتلة الوطنية هي الرأس المفكّر وكانت لها يدان تبطش بهما؛ اليمنى منهما الطلاّب والشباب، واليسرى الأقوياء من رجال الأحياء. أمّا الأحياء (المَيدان والشّاغور والصالحيّة والأكراد والعِمارة والعُقَيْبة والقَنَوات ومسجد القَصَب والقَيْمَريّة) فكان يتولّى أمرَها زعماؤها، وأمّا الشباب من غير الطلاّب فكان يتولّى جمعهم شفيق سليمان ومحمود البيروتي، وأما الطلاّب فقد كان أمرهم سنة 1930 إلى اللجنة العليا لطلاب سوريا.

أتدرون ما هذه اللجنة العليا؟ إنها من الباب الذي دعاه المنفلوطي «خداع العناوين» ، أقول هذا بعد خمسين سنة لأن أيام الدعاية ولّت، وهذا يوم أكتب فيه للتاريخ.

لمّا تنبه الناس إليّ ورأوا فيّ طاقة خطابية وقدرة على إثارة الجماهير، ازدحموا عليّ يريد كلٌّ أن أعمل له وأن يسخّرني مَطيّة تحمله إلى غايته. وكانت الجامعة في ثورة على وزير المعارف، أستاذنا محمد كرد علي، لأنه أراد أن يأخذ من موازنتها خمسة وعشرين ألف ليرة (1) يفتح بها مدارس أولية في القرى التي تغلب على أهلها الأمية، حُجّته أن قرشاً تشتري به خبزاً يدفع عنك لذع

(1) كانت موازنة الدولة كلها سبعة ملايين.

ص: 32

الجوع أَولى من قرش تشتري به الحلوى، وأنّ رصف الأزقّة وتمهيدها أجدى من إقامة نُصُب الزينة لتجميلها، والذي ما معه إلاّ خمسون ريالاً لا يبتاع بها عقدة (كرافات) تزين صدره بل ثوباً يستر عريه.

ولكن القائمين على الجامعة أبوا إلاّ أن يبقى ما كان على ما كان. وكانت الجامعة تشمل كلية الطب، وهي أكبر مني سناً، وبناتها: الصيدلة وطب الأسنان والتمريض، وكلية الحقوق، وهي أحدث مولداً ولكنها أدنى إلى التأثر بأحداث البلد وهزّات المجتمَع.

وكنا نسمي الكلية المعهد فنقول «المعهد الطبي» و «معهد الحقوق» . ولقد أسدى المعهد الطبي إلى العربية خيراً كثيراً لم يستطع أحد إلى الآن -على كثرة المؤسسات وعظم النفقات- أن يقوم بنصفه؛ ذلك أنهم وضعوا المصطلحات العلمية والطبية حتى صارت كليتنا هي الكلية الوحيدة التي لم تدرّس الطب بغير العربية، وقد تحمّل ثقل هذا العمل الضخم جماعة من جاء على ذهني الآن منهم ذكرته ومن نسيته فإن الله لا ينساه، والمؤرّخون المنصفون سيذكرونه: أحمد حمدي الخيّاط، وجميل الخاني، وشوكت الشطي، ومرشد خاطر، وحسني سَبَح (رئيس مجمع اللغة العربية الآن في دمشق، وهو أقدم المجامع العربية، أنشأه كرد علي سنة 1920) ومحمد محرّم، وصلاح الدين الكواكبي.

أمّا الحقوق فقد وجدت أساتذتها لمّا دخلتها في السنة التي أتكلم الآن عنها صنفين: صنف من العلماء حقاً منهم فارس

ص: 33

الخوري، ولما كان رئيس مجلس الأمن وعُرضت قضية مصر سنة 1947 ألقى (وكان يتكلم الإنكليزية ببلاغة شو أو ويلز) خطبة رأيت الناس في القاهرة (وكنت يومئذٍ أقيم فيها) يزدحمون على الرّوَادّ (1) في الشوارع لسماعها، لأنها كانت أبلغ في ذاتها من خطبة النقراشي مندوب مصر في المجلس وأقوى منها في الدفاع عن حقّ مصر. وكتبت في الرسالة مقالة عنوانها «ما أعرفه عن فارس الخوري» تناقلَتها وعلّقَت عليها الصحف والمجلاّت، وممّن علّق عليها العقاد شيخ الكتّاب. وسأعود إلى الكلام عن كلية الحقوق.

وكان مدير الجامعة الدكتور رضا سعيد، وهو عدوّ لدود للأستاذ كرد علي. وهو طبيب عيون عظيم، أصاب عيني اليسرى شيء في داخلها جعلني لا أرى زاوية من الساحة البصرية فراجعته، وذلك سنة 1924، ففحصها وقال لي: هذا شيء لا يزول ولا يزيد. وعرضتها من تلك الأيام إلى الآن على أطباء لا أحصيهم عداً في الشام ومصر وبيروت وألمانيا وبلجيكا وكراتشي وبومباي فكلهم قال مثلما قال، وهي إلى الآن لم تَزُل ولم تَزِد.

وكان مدير معهد الحقوق (أي عميد الكلية) عبد القادر العظم، فعمدا، هو ومدير الجامعة، إلى تحريض الطلاّب وإثارتهم حتى اضطرّوا الحكومة لرفض اقتراح وزير المعارف وهو حقّ، وكم ضاع صوت حقّ في صخب العامّة.

(1) جمع رادّ، وهو الراديو. سمّيته رادّاً لأنه يردّ علينا الصوت الذي يخرج من الإذاعة.

ص: 34

ولقد أرادوني على أن أنضم إليهم فلم أُرِد ذلك، ولو أردته لما قدرت عليه؛ لأن الله خلقني كالخطّ المستقيم: إن قلت لم أكذب، وإن وعدت لم أخلف. فمن كذب عليّ أو أخلف وعده لي جاهرته باللوم، أو عاقبته إن كرّر ذلك بالهجران. ثم إني صعبُ القِياد لا يستطيع أحد أن يسيّرني في طريق لا أريد السير فيه أو يُنطِقني بقول لا أعتقد صحته. ولطالما لقيت في سبيل امتناعي هذا الشدائد وأصابني الأذى، من الحُكّام ومن غيرهم من الظُلاّم، فكنت إذا انهزمت كسرت سيفي لكنْ لا أسلمه إلى عدوّي ولا أرفع له -لأنجو منه- الراية البيضاء. لذلك ابتعدت عن كل حزب أو هيئة أو جماعة أن أصير عضواً فيها. ولطالما ظن قوم أنهم استغلّوني حين جاؤوا بي أخطب في ناديهم وأنهم سخّروني فيما يريدون، ما دروا أني أنا أسخّرهم فيما أريد، ذلك أن لي غايات ثلاثاً ما عدلت عن واحدة منها ولا استبدلت بها، وما حدت عنها ولا جئت يوماً -ولله الحمد- بما يعارضها وينافيها؛ هي الدعوة إلى الإسلام وإلى العربية والدفاع عنهما وبيان محاسنهما، والدعوة إلى القوة وإلى مكارم الأخلاق، والذي نُشر ممّا كتبت أكثر من عشرة آلاف صفحة، ففتّشوا: هل ترون فيها ما يكذّب هذا الادعاء؟

* * *

وكان مقرّ قيادة النضال الشعبي ومصدرُ روح الجهاد أشرفَ مكان في دمشق: الجامع الأموي؛ فيه يكون اللقاء وفيه تُلقى الخُطَب ومنه تخرج المظاهرات، وإليه يأوي المناضلون إذا طاردهم المستعمرون (المنتدبون) ومن يمشي منّا في أذنابهم،

ص: 35

ومن سطحه يُلقون الحجارة عليهم. وما جاز عتبتَه يوماً جندي من جنود فرنسا، فلما جاء الاستقلال رأينا ممّن يُعَدّ منا (وما هم في الحقيقة منا، بل هم شرّ علينا من عدوّنا) رأينا ممّن ينطق بلساننا ووُلد في أرضنا مَن يكسر باب المسجد ويدخله بسلاحه وسياراته، ويذبح المجاهدين على أرضه، ويفعل فيه كل ما ينكره الدين وتأباه المروءة وتستكبره إنسانية الإنسان، حتى لقد مرّت سنوات طوال ولا تزال على سجّاده آثار الدماء الطاهرة الزكية التي أراقها من ليس طاهراً ولا زكياً، ولكنْ جباراً عتياً وكفاراً غوياً.

فيا عجباً! أيكون من أبنائنا من هو أقسى علينا وأعدى لنا وأشد حرباً لديننا من مستعمري بلادنا؟

كنا إن أردنا أمراً تداعينا إلى صلاة الجمعة في الأموي، فإذا انقضت الصلاة خطب الخطباء ثم خرجت المظاهرة. وتوالت سنوات وأبرز هؤلاء الخطباء هو كاتب هذه السطور، وصدّقوا إن قلت لكم إني أجد أشد الحرج حين أقول هذا عن نفسي، فسلوا من شئتم ممّن أدرك تلك الأيام يخبركم بأكثر ممّا يسمح لي الخجل أن أقوله، لأن الأمر كان أظهر وأشهر من أن أقيم عليه البراهين.

وكانت بداية ذلك أن كنت يوماً أقيم في شارع بغداد (وهو ثاني شارع فُتح في دمشق بعد شارع النصر، وقد كان فتحه أيام الثورة سنة 1925)، وكنت على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في حيّنا، فجاءني جماعة من طلاّب الطبّ (وكنت أنا في الحقوق) فقالوا: إنّا نفتّش عنك فهيا معنا. قلت: إلى أين؟ قالوا:

ص: 36

إلى الأموي، فقد احتشد فيه جمهور من غير الوطنيين (وكان اسم الوطنيين علَماً على معارضي الانتداب) واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم، فرأينا أنهم لا يقوم لهم غيرك.

فحاولت الاعتذار فقطعوا عليّ طريقه حين قالوا: هذا قرار الكتلة، فذهبتُ. وكان لي -بحمد الله- صوت جهير، فقمت على السدّة ممّا يلي باب العمارة وناديت:«إليّ إليّ عباد الله» ، وكان نداء غير مألوف ثم صار ذلك شعاراً لي كلما خطبت. فلما التفتوا إليّ بدأت بيت شوقي:

وإذا أتَونا بالصفوفِ كثيرةً

جئنا بصفٍّ واحدٍ لن يُكسَرا

وأشرت إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد وإلى صفّنا، وأفضت في الكلام أضرب على وترَين لهما في نفس كل سامع صدى: الدين وهو أول محرك للناس إن كانوا مؤمنين وكان القائل صادقاً فيما يقول، والاستقلال وهو مطمح كل سوري إلاّ من مالت به الدنيا ومنافعها إلى تأييد الغاصبين فآثرها على آخرته وعلى مرضاة ربه.

وكانت خطبة نسيها الناس إلاّ أثرها، ونسيت أنا ما قلت فيها، ولكن الذي لم أنسَه أنها أفسدت على الآخرين أمرهم وصرفت الناس عنهم، فلما خرجت خرج الجمهور ورائي، وكانت مظاهرة للكتلة لا لهم، أي للوطن لا عليه.

وقد كان يختلف الشيوخ والشباب في أسلوب العمل: أما الحرص على الاستقلال والرغبة في النضال فقدرٌ مشترك عند الشباب والكهول. ولقد قلت في محاضرة لي عن الشباب قديماً

ص: 37

إن الغاية واحدة، كلهم يريد الثواب إن كان مؤمناً والمجد إن كان طموحاً، ما اختلفت الغايات ولكن السرعة هي التي تختلف، فالشاب يريدها عاجلة جاهزة والشيخ يصبر ويتأنى.

وكان عندي موهبة الخطابة على أكمل صورها، يكفي أن أصعد المنبر وأواجه الناس حتى يتدفّق عليّ سيل الكلام.

والارتجال من أصعب الأشياء، فالخطيب يفكّر فيما يقول وفي انتقاء الألفاظ المعبِّرة عنه، يعرضها ليختار أحسنها، ويفكّر فيما قال قبلُ ليصله به ولا يقطعه عنه، وفيما سيقوله بعدُ ليسوّي له المعنى ويتخير له اللفظ. عمليات صعبة متعاقبة لا بد فيها من السرعة البالغة، وإلاّ انقطع الكلام وأعرض السامعون، تجري كلها معاً، ولكن الملَكة المكتسَبة تسهّلها والمرانة تهوّنها، حتى لا يشعر الخطيب بها ولا يحسّ ثقلها وإنما يستمتع بها. على أني لا أكتمكم، بل أعترف لكم، بأنها تمرّ بي الدقائق الأخيرة قبل أن أشرع بالخطبة ثقيلة، وأني ربما استشعرت الهيبة أحياناً، فإذا بدأت الكلام ذهب هذا كله.

أقول هذا وأنا أعلو هذه المنابر وأعتادها من يوم خطبت أول خطبة لي على درَج مدرسة طارق بن زياد الابتدائية في دمشق سنة 1921. أقوله وقد ألِفت هذه الأعواد وألِفَتني. لذلك أكره أن يقدّمني أحد حين أُحاضر؛ إنه يحمل عليّ ثقلين: ثقل المدح، ومدح المرء في وجهه إحراج له، وأنا أجيب من يسألني وأسب من يسبني، لكن ماذا أقول لمن يمدحني، لا سيما إذا كنت أعلم أنه يمدحني بلسانه ويشتمني بقلبه؟! الثقل الثاني: أني أحب أن تقصر

ص: 38

دقائق الانتظار وأشرع في الكلام، وهذا يطيل انتظاري.

* * *

قلت لكم إن «اللجنة العليا لطلاب سوريا» كانت من باب خداع العناوين، وقد آن الأوان لبيان حقيقتها.

كنت أنا أخطب، ولكن لا أصلح لما يسبق الخطبة من إعداد ومن مفاوضات ومحادثات، وكان لي رفيق هو أصلح الناس للمحادثات والمفاوضات ولكن لا يصلح للخطابة. هو اجتماعي مئة على مئة كما يقولون، وأنا رجل متوحّد منفرد، لا أستطيع أن أوغل في مخالطة الناس لأني لا أكذب ولا أحتمل كذباً من أحد ولا أخلف الوعد ولا أصبر على إخلاف المواعيد، ومن قال لي شيئاً ولم يحقّقه غضبت منه، ومن شعرت أنه مخادع سقط من عيني

فكمّل أحدُنا نقصَ الآخر. كان رفيقي في مكتب عنبر، ثم صار طالباً في «الطب» وصرت أنا طالباً في «الحقوق» ، فكنا نتلقّى الأمر من الكتلة، ثم نقعد معاً في مكان أو نتحدث في طريق، فنرسم الخطّة ويقوم كلٌّ منّا بحمل قسطه منها، وهذه هي «اللجنة العليا» .

هذا الرفيق هو الدكتور صبري القباني، وربما انضمّ إلينا ثالث هو الدكتور مدحت البيطار سفير سوريا السابق في المملكة. وقد نشأنا نحن الثلاثة نشأة فقر، كما نشأ رفيقنا أحمد السمّان الذي صار مدير جامعة دمشق. رحمه الله ورحم القباني ورحم من سبقنا من الإخوان.

* * *

ص: 39