الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-60 -
جلسة في مقهى (في صورة قديمة)
أعددت صحائفي وأمسكت قلمي لكتابة هذه الحلقة، فإذا الهاتف من إدارة الجريدة يخبرني بأن أحمد مَظهر العَظْمة الذي ذكرتُه في الحلقة الماضية قد تُوفّي من شهر، نبّأ بذلك رجل قادم من دمشق.
فسالت مدامعي والله من حيث لا أشعر، ورأيت من خلال الدمع خيال تاريخ طويل مرّ بي في لحظة، تاريخ كله حياة ونشاط وإخلاص وعمل لوجه الله لا للناس، ومال ومنصب وشهرة وشِعر ونثر، كل ذلك غطّت عليه كلمة من ثلاثة أحرف، هي كلمة «الموت» ! رحمه الله رحمة واسعة. أسّس «جمعية التمدّن الإسلامي» من خمسين سنة، وبقي قائماً عليها يحرّر مجلّتها ويكتب فيها، ويقوم على ناديها، ويدعو المحاضرين إليه ويحاضر هو فيه، وكان يدوّن بنفسه أسماء المشتركين في المجلة ويكتب هو عناوينهم بيده ويلصق الطوابع بذاته، ليوفّر على الجمعية أجرة موظف يتولى هذا العمل. يجيء الجمعية كل عشيّة في موعد لا يتأخر عنه ولا يتقدم، عادة استمرّ عليها هذه المدّة كلها حتى
بعد أن صار رئيس مفتّشي الدولة خلفاً لأخي نهاد القاسم، وهو منصب رفيع يراقب منه الوزارات كلها، له الحقّ أن يدخل عليها ويسمع كل شكوى منها ويحقّق فيها. ولمّا كان الانفصال عن مصر (وسيأتي حديثه) وأُلِّفت أول وزارة أعطوا الإسلاميين ثلاث وزارات، مع أن الإسلاميين هم دائماً أصحاب العمل، ولكن القاعدة في كل بلد في مثل هذه الحال هي:
وإذا تكونُ كَريهةٌ أُدعى لها
…
وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعى جُنْدُبُ
وكان لي رأي في اختيار الوزراء الثلاثة، فأصررْتُ على أن يكون الأستاذ مظهر واحداً منهم. صار وزيراً ولكن لم يبدّل عادته، ولم يأخذ دقيقة من وقت الجمعية وإن لم يقصّر في أعمال الوزارة، وبقي يكتب العناوين ويلصق الطوابع، لم يبدّله المنصب ولم تغرره الوزارة لأنه كان أكبر من المنصب ومن الوزارة.
عرفتُه من أيام المدرسة (وإن كان في السن أصغر مني وكان في الصفوف بعدي)، وكنا -كما عرفتم- نسكن في الدّيمَجيّة في طرف العُقَيبة وهو في السّمَّانة. وهذه أسماء أحياء صغيرة فقيرة (ولكنها ليست حقيرة) في دمشق. منها خرج أحمد مظهر العظمة وأنور العطار وشكري فيصل، ومن جوارها خرج أحمد حمدي الخيّاط، وأظن ولا أؤكد أن معروف الأرناؤوط وخير الدين الزّركلي منها. أما العلماء من هذا الحي فكثير. وكان إلى جنب داره مسجد صغير ما له إمام ولا خادم، فتبرع هو فكان مؤذّنَه وإمامَه وخادمَه، وكان يُقيم فيه صلاتَي المغرب والعشاء، حتى أيام تولّيه الوزارة، ولا يستنكف عن كنسه بنفسه.
عرفته في الطريق إلى مكتب عنبر، يمرّ يحمل كتبه وغداءه في «سَفَرْطاس» (وهو طبقان أو ثلاث بعضها فوق بعض يجمعها نطاق تُحمَل منه)، يمشي قُدُماً لا يكلّم أحداً، يحسّ من يراه أنه «ولد مؤدّب» . ثم عرفته من قرب، وكان في صفّ محمد المبارَك الذي تخرج فيه جماعة من الأعلام: المبارك الذي عرفتموه هنا، وفؤاد جبارة الذي صار من كبار القضاة، وعلي أسعد الخانجي وكيل وزارة الخارجية، وأحمد الحاج عبود الفتيح الذي صار وكيل وزارة المعارف والأمين العامّ لرياسة الجمهورية، وداود تكريتي المحامي، ورفيق الفرّا ووجيه القدسي الأستاذان في الجامعة، ومختار وصفي الجابي الطبيب، وفريد السكري أمين سرّ الجامعة، وكلهم كانوا بعدي بثلاث سنوات، وقد مضى أكثرهم إلى لقاء ربه.
وكان يخرج من كل صف (في كل سنة) جماعة من النابغين لا نكاد نجد مثلهم الآن، على كثرة المدارس وفشوّ التعليم. ولما ذهبنا إلى العراق مدرّسين في ثانوياتها سنة 1936 اجتمعنا فيها أنا وهو وأنور العطار رحمهما الله وأحسن خاتمتي. ولما كانت فورة القومية في العراق (1938 - 1939)، وكان الذي تولّى كبرها سامي شوكت المدير العام للمعارف، كان أحد ثلاثة ثبتوا على الدعوة الإسلامية وأبوا القومية التي تنافيها وتخالفها، فنفوهم إلى بلاد الأكراد: مظهر إلى إربل (وتُسمّى اليوم إربيل)، وعبد المنعم خلاّف إلى السليمانية، وعلي الطنطاوي إلى كركوك. فاستقال عبد المنعم وعاد إلى بلده مصر، وذهبنا نحن ثم استقلنا. سبقته أنا إلى العودة إلى الشام وبقي بعدي أشهراً حتى قامت الحرب فرجع.
رافقته في الصغر وفي الكبر، وفي الحضر وفي السفر، وفي الصفو وفي الكدر، فما رأيت فيه إلا مسلماً تقياً، وصديقاً وفياً، ومؤمناً قوياً، ما بدّلته الليالي ولا غيّرته المناصب ولا غرّته الدنيا، أصيبَ من سنين طويلة بمرض عصبيّ مثل الفالج لا أعرف اسمه، فما منعه من العمل ولا من الكتابة. وكان آخر عهدي به صيف سنة 1398، ما رأيته بعدها ولا رأيت الشام. رحم الله أحمد مظهر العظمة وأنور العطار، ورفاقنا الذين تلاحقوا حتى لم يبقَ منهم إلاّ الأقل:
يودّعُ بعضُنا بعضاً ويَمضي
…
أواخرُنا على أثرِ الأوالي
وغدا مَثَلي قول شوقي:
مالَ أصحابُهُ خليلاً خليلا
…
وتولّى اللّداتُ إلاّ قليلا
نصَلوا أمسِ من غبارِ الليالي
…
ومضى وحدَهُ يحثُّ الرّحيلا
اللهم اجعله رحيلاً إلى رحمتك لا إلى عذابك، اللهم اغفر لي ولمن قال: آمين.
* * *
أعود إلى ذكرياتي؟ وأنّى لي أن أعود؟ لقد عزفَت نفسي عن حديث الذكريات. بلغَت الحلقات التي نُشرت ستّين وأنا لا أزال في سنة 1932، لا أزال في أول الطريق ولا تزال أمامي ذكريات نصف قرن كامل فيها أكبر أحداث حياتي، ولقد تبدّلَت فيها الدنيا من حولي، فهل أعيش حتى أسجّلها؟ وإن عشت فهل أذكرها، وما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه؟ وإن ذكرتها
وسجّلتها فما حاجة القرّاء إليها وما استفادتهم منها؟ بل ما انتفاعي أنا بها في آخرتي إذا ودّعت دنياي؟
يا أخي الأستاذ رئيس التحرير، لقد مر وقت طويل على وضع استقالتي بين يديك، أفلا ترى أن من الخير لي وللقراء أن تقبلها وأن تعفيني؟
لقد أخذت الآن ورقة وكتبت أسماء من كانوا هم رفاقي على طريق الحياة، من كنت أشاركهم حلوها ومرّها، من كنت ألقاهم ويلقونني وآنس بهم ويأنسون بي، ومن كنت أزور من أساتذتي ومشايخي وغيرهم من أولي الفضل عليّ، ومَن كان يخطب معي في الاجتماعات التي كنت أخطب فيها ومن كان يكتب في الصحف والمجلات التي كنت أكتب فيها، ومن كان على مشربي أؤيّده ويؤيّدني ومن كان خصماً أحاربه ويحاربني
…
كتبت أسماء مئة وتسعة وسبعين ممّن خطرت أسماؤهم على بالي، كان كل واحد منهم جزءاً من الدنيا التي أعيش فيها، ونظرت فوجدت أنه لم يبقَ منهم إلا ثلاثة وعشرون؛ يتساقطون واحداً بعد واحد يوماً بعد يوم، فلماذا أنتظر حتى يصبح القرّاء في يوم ثلاثاء فيأخذوا «الشرق الأوسط» فلا يجدوا حلقة الذكريات، بل يجدوا اعتذاراً عن عدم نشرها لأن كاتبها لم يَعُدْ يستطيع أن يوالي كتابتها فقد أدركه الأجل:
ما زالَ يدأَبُ في التاريخِ يكتُبُه
…
حتى غدا اليومَ في التاريخِ مكتوبا
وربما كُتبت يومئذ في رثائي فصول ومقالات، وربما أثنوا
عليّ بما لست له بأهل أو هجوني بما لا أستحقّ، أو أعرضوا عني فأهملوني حتى نسوني
…
ما الذي ينالني من ذلك كله؟ ماذا ينفع الميتَ من الثناء وماذا يضرّه من الهجاء، وماذا يؤثّر فيه الإهمال والنسيان؟ إنّ دعوة صالحة من قلبٍ حاضر من أخ مؤمن بظهر الغيب، خير للميت من ديوان كامل من عبقري الشعر في رثائه، ومن مئة خطبة في تأبينه وعشرة كتب في دراسة أدبه.
* * *
وقف هنا القلم وجمد الفكر، ولم يبقَ عندي ما أكتبه، فنحّيت صحيفتي وقعدت. وكانت أمامي بنتي ترتّب أوراقاً لي قديمة فاستخرجَت هذه الصورة وجعلَت تتأملها وتسألني عنها، فأخذتُها فإذا فيها تتمّة الموضوع، صورة أُخِذت في الأيام التي أكتب عنها الآن (مطلع الثلاثينيات)، المكان الذي أُخذت فيه هُدِمَ ولم يبقَ له أثر: مقهى في شارع رامي في دمشق، ذهب وقامت في موضعه عمارة كبيرة، والناس الذين بدوا فيها ماتوا ولم يبقَ إلا اثنان منهم، والدنيا التي كنّا نعيش فيها يومئذ تبدّلَت وصارت دنيا جديدة فيها ناس جُدُد. إنها تمثّل ما يملأ نفسي من صور ورأسي من أفكار وأنا أكتب هذه الحلقة، وما أظنني بحاجة إلى أن أقسم لكم أن الذي قلته هو الحقّ، ما تخيلت ولا جئت بهذا الكلام صنعة أديب بل هو الذي كان، ورُبّ مصادفة كما يقولون خير من ميعاد.
أمسكت الصورة أنظر إليها وأفكّر: أتكون صورة على الورق أبقى من حياة إنسان على الأرض؟ أيموت الإنسان ويُهدَم المكان
وتثبت الصورة؟ نعم، ولكنْ في هذه الدنيا، والدنيا -كما تعرفون- مؤنَّث الأدنى، أمّا الحياة العليا فهي الحياة الأخرى {وإنّ الدّارَ الآخِرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ (أي الحياة) لَوْ كانوا يَعْلَمون} . وأنّى لمن لا يؤمن بالوحي أن يعلم بما لا يعرفه العقل إلا من طريق الوحي؟ أن يعلم بما وراء المادة التي حصر فكره فيها وقصر علمه عليها؟ وإن وراءها لَعوالِم أكبر وأكثر، لا يعلمون علمها لأنهم أعرضوا عن مصدره ولم يُقبِلوا عليه، فعاقبهم الله بكفرهم جهالة بتسعة أعشار ما هو موجود وغروراً يظنّون به أنهم يعلمون، وما يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وأطلت النظر في الصورة فأثارت في نفسي خواطر وأفكاراً وذكرياتٍ، لو كنت أقدر على إبراز الأقلّ منها، وهيهات! لقد قلت مرة: يُطِلّ بي الفكر على آفاق واسعة، وتنبلج في النفس أصباح مشرقة، فأجد في نفسي عشرات من الصورة المبتكَرة وفي رأسي عشرات من الأفكار الجديدة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيّدها بالألفاظ وأغُلّها بالكَلِم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم ولا أنا سجّلتها في مقالة صنعت منها تحفة أدبية. ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكان شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر
…
ولا أصبّ في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجفّ فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي! ويتفجّر الينبوع في نفسي ويتدفّق ويسيل، ثم ينضب وينقطع فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي! وينبثق الفجر في نفسي ويقوى ويشتدّ، ويكون الضحى والزوال، ثم
يعود الليل فآخذ قبضة من ظلام الليل لأكتب منها مقالة عنوانها: «ضياء الفجر» ! (1)
* * *
وانظروا الآن إلى مَن في الصورة (2):
الأول (من اليمين) الدكتور منير العجلاني أطال الله عمره، والثالث كاتب هذه السطور، أما الثاني فهو أنور العطار. هل قرأتم المقدّمة التي كتبتُها سنة 1948 لديوانه «في ظلال الأيام» ؟ إني كتبت المقدّمات لأكثر من خمسة وعشرين كتاباً، للأستاذ الكبير الشيخ أبي الحسن الندوي وللأستاذ الداعية الشيخ محمد محمود الصواف وللأستاذ المربّي محمود مهدي الإسطنبولي، وأمثالهم من الأفاضل الذين شرّفوني فكلّفوني أن أقدّم كتبهم، لا لأعرّف بهم ولا لأرفع من أقدارهم، فكلّهم معروف بالفضل عالٍ في القدر، بل ليكون لي حظّ اقتران اسمي بأسمائهم. وأكثر هذه المقدّمات ضاع مني لم أُبقِ صورة منه عندي، ولو كنت أحصيتها وجمعتها، أو لو أن أحداً يصوّرها ويبعث إليّ بها لوضعتُها في كتاب أسمّيه المقدّمات (3)، يكون فيه تعريف بهذه الكتب التي قدمت لها، ابتداء بكتاب «المطالع النّصرية» الذي كتبت في أوله
(1) من مقالة نُشرت في العدد 209 من «الرسالة» الصادر في 26 ربيع الثاني 1356 هجرية.
(2)
الصورة في جزء الصور والفهارس (مجاهد).
(3)
صنع ذلك أخونا مجد مكي؛ جمع من المقدّمات التي كتبها الشيخ لسواه من المؤلفين ثلاثاً وعشرين مقدمة، وأعدّها في كتاب نشرته دار المنارة باسم «مقدمات الشيخ علي الطنطاوي» (مجاهد).
ترجمة مؤلّفه لسان الدين الخطيب سنة 1347هـ. ولكنّ أوسع هذه المقدمات وأقربها إلى الأدب: مقدّمة ديوان أنور العطار (في ظلال الأيام) ومقدّمة «مكتب عنبر» للأستاذ ظافر القاسمي.
أنور العطار صديق العمر، رفيق المدرسة، شقيق الروح. "لم يكن يرانا الناس إلاّ معاً، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي" كما قلت في مقدّمة الديوان. وهو شاعر مبكّر النبوغ؛ لمّا أقام أستاذ الجيل محمد كرد علي حفلة تكريمية للشعراء الأربعة الشباب من إخواننا: أنور وجميل سلطان وزكي المحاسني وعبد الكريم الكرمي، وكانوا وكنا طلاباً في الثانوية، ألقى أنور قصيدة عنوانها «الشاعر» لو قالها الآن واحد من أكابر الشعراء لعُدّت من جيّد ما قال، وله قصيدة في لبنان ما أظن أنه قيل فيه أنعمُ منها ديباجة ولا أمتن، ولا أحلى صوراً ولا أجود تشبيهاً واستعارة، على طريقة شعراء العربية لا أصحاب هذا الشعر الجديد. وله في بردى قصيدة مثلها. وشعره في «الزهراء» (في أواخر العشرينيات، يوم كانت الزهراء مجلة الخاصّة من الأدباء) وفي «الرسالة» من يوم أنشئَت الرسالة. وكان له أسلوب في الشعر كما كان لصاحبه (وسامحوني إن نوّهت بنفسي) أسلوب في النثر، لم يقلّدا فيه أحداً وقلّدهما فيه كثير. ولكنه -على هذا كله- لم يُنتخَب عضواً في المجمع العلمي ولا في المجلس الأعلى للآداب (أو ما أدري ماذا كان اسمه)، مع أنه انتُخب عضواً فيهما وفي أمثالهما مَن هم دونه؛ ذلك لأن الانتخاب للمَجامع وللمجالس وللجوائز، كل ذلك يُبنى على الصداقات الشخصية أكثر ممّا يُبنى على الكفايات العلمية والأدبية. فمن كان معتزلاً
عاكفاً على كتبه قانعاً من الحياة الاجتماعية بمجالسة إخوانه من أهل العلم والأدب، لم يذكره أحد، إنّما يَذكر من بأيديهم أمر المجامع والجوائز والرحلات إخوانَهم وأصدقاءهم، أو من له فضل عليهم يحبّون أن يكافئوه به أو من يريدون أن يسلّفوهم يداً يأملون أن يكافئوهم يوماً بها؛ فالمسألة إذن شخصية اجتماعية لا مسألة كفايات ولا استحقاق.
* * *
والرابع في الصورة هو الأستاذ عزّ الدين (علم الدين) التّنوخي. وقد تَقدّم ذكره عند الكلام على الأستاذ عارف النكدي، وقد صحبتُه أمداً طويلاً وعندي من أخباره وأخبار صديقه ورفيقه الشيخ محمد بهجة البيطار الكثير الكثير، أرجو أن أروي يوماً بعضه. وهو عالِم بالعربية كاتب شاعر، درس حيناً في الأزهر وحيناً في فرنسا ونال منها شهادة في الزراعة، يُحسِن الفرنسية، اشتغل بالتدريس في العراق وفي سوريا، وهو الذي وضع كلمة «الفيزياء» للفيزيك وكلمة «برمائية» لحيوانات البر والماء، ووضع مصطلحات كثيرة، وكان من أقدم من ألّف الكتب المدرسية. وقد ترجم أحسن كتاب أعرفه عن حياة التلاميذ هو «قلب الطفل» للمؤلف الإيطالي الذي نسيت اسمه مع أني قرأت الكتاب مرات (1). وأسلوبه فوق متناول التلاميذ، ولو وجدت الهمّة
(1) اسمه إدموند دي أميتشيس، وقد نَشر كتابه هذا في ميلانو عام 1886، وللكتاب ترجمة أخرى نُشرت في مصر منذ نحو خمسين سنة ضمن سلسلة الكتب الألف التي أصدرتها وزارة التعليم العالي بمصر في الخمسينيات (مجاهد).
وأذن لي ورثة الأستاذ لأعدت كتابته بأسلوب أوضح وأسهل، لا أبلغ ولا أجمل، ثم اقترحت أن تنشره وزارات المعارف في البلاد العربية بين التلاميذ، على أن يُعرَّب (أيضاً) فتُبدَّل الأسماء الإيطالية فيه بأسماء عربية، وأن يعلَّق عليه تعليقات يسيرة تقرّبه من حياة التلاميذ في مجتمعاتنا.
كان الأستاذ التنوخي أمين سير (أي ناموس أو سكرتير) المجمع العلمي في دمشق ومن مؤسّسيه، وقد ترك كتباً نافعة منها تعليقه أو شرحه لكتاب «الإيضاح» للقزويني في البلاغة، وكتاب «إحياء العَروض» ، وهو أحسن كتاب أعرفه في علم العروض، إذا ضُمّ إليه ما كتبه صديقنا الأستاذ ميشيل الله ويرْدى (ومعناها «ميخائيل عطاء الله») والرقم (أي النوتة الموسيقية) التي وضعها لبحور الخليل كان منها «مرشد العروض» . والأستاذ التنوخي صافي القلب صادق الودّ سهل المعاشرة، حاضر الجواب بعيد عن التكلّف، مثله في ذلك مثل الدكتور عبد الوهاب عزام.
* * *
والخامس في الصورة: الأستاذ سعيد البحرة، كان أستاذ الفلسفة وعلم النفس في مكتب عنبر، أي المدرسة الثانوية في دمشق.
والسادس هو الأستاذ كامل الكيلاني، وكان يوم أخذ الصورة في زيارة لدمشق، والولد القاعد على الأرض هو ابنه. وهو أديب مصري معروف كان من أوائل من عُني بأدب الأطفال، ألّف لهم القصص الكثيرة المطبوعة آنَق طبع على أجود ورق،
ولكنها -مع الأسف- مملوءة بأخبار الجنّ والعفاريت وما يشبه ما يُعرَض على الأطفال كل يوم في الرائي من «الصور المتحركة» ، التي تسلّي الأولاد وتملأ فراع وقتهم، ولكني أظنّ أنها تفسد عقولهم. وقد طالما تكلمت في ذلك مع الأستاذ كامل، في دمشق وفي ندوته الأسبوعية المعروفة في مصر، فكان يُدلي بحجج ويسوق أدلة على أنها تقوّي الخيال وتُعين على النبوغ في الأدب وفي كتابة القصة خاصّة، وما اقتنعت بما قال. والأستاذ كامل لم يقتصر عمله على أدب الأطفال، بل ألّف في التاريخ ودرّس وأفاد، وكان عالماً أديباً فاضلاً. وسأتكلم يوماً (بمناسبة ذكر ندوته الأسبوعية) عن الندوات التي أعرفها: هنا كندوة الأستاذ الأديب عبد العزيز الرفاعي، وفي الشام كندوة الأستاذ محمد كرد علي، والأمير طاهر الجزائري (حفيد الأمير عبد القادر)، ومصطفى بك بَرْمَدا عميد القضاء في الشام، والدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ الأطباء، وأخي نهاد القاسم الذي سبق ذكره، وغيره ممّن أرجو أن أوفق إلى الكلام عنهم.
والسابع هو الشاعر الصافي النجفي، الذي عاش بالشّعر يأكله ويشربه لا يكاد يبالي طعاماً ولا شراباً غيره، وينام معه ولو في المقاهي أو فنادق ما لها من صفات الفنادق إلا اسمها، ويلبسه ولو أسمالاً بالية وعباءة عتيقة، يصبح فينظم ويُظهر فينظم ويُمسي فينظم، ويرتضي حياة البؤس ولكنه يَنظم في وصفها شعراً يحوّل بؤسها نعيماً. وكذلك يصنع الأدب ويصنع الفنّ: فالعجوز التي جفّ جلدها وتجعّد وجهها ليست جميلة، ولكن صورتها المتقَنة غاية في الجمال. وشِعر الصافي -على كثرته وصدق صوره- شعر
مادّي يمسّ أطراف الحس ولا يهزّ قرارة النفس، أرْضيّ لا يسمو سموّ الشعر، ضعيف النسيج لا يثبت على مرّ الدهر، وفي بعضه ما لا يرضى عنه علماء العربية وأئمة البيان.
والثامن: شاعر من شعراء الشام لم يتجاوز اسمُه حدودَها ولا يُعرَف فيما وراءها، اسمه فايز سلامة، كان يُدعى (أو يدعو نفسه)«شاعر الصعاليك» ، ينظم في أغراض نقدية اجتماعية محلّية.
* * *
وبعد، فسامحوني يا أيها القرّاء أن أغرقت صباحكم بالدموع واستهللت يومكم بالأحزان، فليس الضحكُ الأصلَ في الحياة ولكن البكاء. يُولَد الطفل باكياً ويودّعه الناس إذا مات باكين، لذلك كانت أخلد القصص الأدبية وأعظمها هي المآسي، وكانت النغمات الحزينة أعمق في النفس أثراً، وكانت المراثي الصادقة أشرف وأكرم من المدائح:
ضحِكنا وكانَ الضحكُ منّا سفاهةً
…
وحُقَّ لسكّانِ البسيطةِ أن يبكوا
ولو أن المعرّي قال «جهالة» بدلاً من «سفاهة» لأصاب الحقّ، ففي الحديث:«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً» .
اللهم لا تجعلنا من الضاحكين في الدنيا الخاسرين في الآخرة.
* * *