الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-48 -
هنا مسقط رأسي
وهنا قبر أبي وأمّي
حلقة اليوم عودة إلى الشام. وهل فارقتها حتى أعود إليها؟ إن ذكرياتها في قلبي ومشاهدها ماثلة أمام عيني، وفي كل نَفَس من أنفاسي عبَق من أريج الغوطة ونفحة من عبير دمشق. فلا تلوموني إن كرّرت الحديث عنها، فمن أحبّ شيئاً أكثر من ذكره، ولو أكرهتُ النفسَ على نسيانها لما طاوعتني نفسي، ولئن نأيت بالجسد عنها فإن روحي فيها:
أريدُ لأنسى ذكرَها فكأنما
…
تَمَثّلُ لي ليلَى بكلِّ سَبيلِ
وما أبغي من دمشق منازلَها ودورها ولا بساتينها وقصورها، ما أحنّ إلى التراب ولكن إلى مَن تحت التراب مِن الأحباب والأصحاب. فدمشق التي أعود إلى ذكرها هي دمشق أمي التي جئت أستأذنكم أن أكمل الحديث عنها، فلا تملّوه (أرجوكم) ولا تستثقلوه، فمن جرّب منكم فقد الأم أو البنت (ولا قدّر عليكم أن تجرّبوه) عرف أن الحديث عنه فيه شيء من تنفيس الكرب وتسلية القلب.
ويا ليتني كنت أسْطيع الوصول إليها لأقف كما وقف امرؤ القيس على الأطلال، يبكي ويستبكي، فعلّم الشعراء الوقوف والبكاء، حتى من كان يعيش منهم في نعيم بغداد ما رأى الصحراء ولا أبصر النؤى ولا موقد النار وصاغ فيهما بدائع الأشعار:
ولقد مررتُ على ديارِهمو
…
وطُلولُها بيدِ البِلى نَهْبُ
فوقَفتُ حتّى ضجَّ من لَغَبٍ
…
نِضوي ولجَّ بعُذّلي الرَّكْبُ
وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَت
…
عني الطُّلولُ تلفّتَ القلبُ
وأنا اليوم مثل الشريف (1)، أتلفّت بقلبي إلى ديار خفِيَت عن ناظري ولكنْ ما سلاها خاطري ولا خفّ إليها شوقي، إلى بقعة صغيرة من الأرض كانت هي دنياي كلها وكان فيها كل أهلي وأحبائي، فلم يبقَ منها إلا كَومتان من تراب أمام ساقية صغيرة
…
فيا أيها المسافر إلى دمشق: هل تُحسِن إلى شيخ غريب فتزور عنه هذا الذي بقي من عالَمه، وتريق عليه دموع قلبه ورحيق حبّه؟ هل تقف على قبر أمي وقبر أبي فتقول لهما: إن ابنكما الذي تركتماه يمرح في رداء الشباب يطير إلى آفاق المستقبل على جناح الأمل، يحمل أحلاماً تعجز عن حملها مناكب الرجال فيمضي قُدُماً بها لا يُرضيه إلا تحقيقها، قل لهما: إنه قد ولّى شبابه، وانكسر جناحه، وذابت أحلامه، فلم يبقَ له من أمل إلا دوام الصحّة وحسن الخاتمة. قُل لهما: لقد صار ولدكما أكبرَ سناً منكما، صار شيخاً وبَناتُه صرنَ جدّات. ولكنه لم ينسَكما ولم ينقص حبه لكما
(1) الشريف الرّضي، وقُرئ البيت الثالث في الديوان: خفيت عنها الطّلول
…
(مجاهد).
ولا ألمه لفقدكما، وإن رأى ما هو أشدّ عليه وأقسى. إنه يدعو لكما، يسأل الله لكما الرحمة كما ربّيتماه صغيراً.
ولكن أنىّ لك الوصول وما وصفت لك الطريق ولا دلَلتُك على المكان؟ إذا مررت بشارع بغداد العظيم فوصلت إلى الدَّحْداح (1)، ورأيت الجدار العالي والباب الجديد فادخله تصل إلى المكان المقصود. ولكن لا، دعه فهذا ليس من عالَمي، إني أريد أن تصل إلى العالَم الذي كان لي، الذي عرفته وأحببته وإن طال به عهدي، لا إلى عالَم جَدَّ بعدي. اذهب إلى قلب دمشق. أليس لكل بلد قلب (سنتر) تُنْصَب اللوحات في الطرق لتدلّ عليه وترشد إليه؟
إن قلب دمشق هو الأموي، مهما تتّسع وتمتدّ فهذا قلبها. وقلب مكة الحرم، وقلب القاهرة الأزهر، وقلب الرياض الديرة والمسجد الكبير. فاذهب إلى الأموي، قد يطول عليك الطريق ولكنك ترى وأنت ماشٍ جوانب من دمشق القديمة، عاصمة الإسلام الثانية. دمشق الأخلاف من بني أمية والملوك من آل أيوب، دمشق أقدم المدن المسكونة في الأرض كلها وأول البلاد يقظة وتحرراً واستقلالاً في أرض العرب.
إنك لن تجد من ملامح دمشق الماضي إلا القليل، ويا ليتها
(1) هي مقبرة الدحداح التي دُفنت فيها أم جدّي وفيها دُفن أبوه. واقرأ مع هذا الفصل مقالة «من دموع القلب» في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
بقيَت بقاء فاس مثلاً ودهلي (1). يا ليتهم تركوها تحدّث حديثها وتبعث ماضيها وتصف أمجادها، وأقاموا إلى جنبها مدينة مثل فاس الجديدة ونيودلهي. لم يبقَ من دمشق إلاّ مثل ما بقي من بغداد: ملامح ضئيلة وبقايا قليلة، أولها الأموي وثانيها السور، ولا يزال أكثر السور باقياً سليماً.
أما الأموي الذي تزوره اليوم فليس الذي بناه الوليد؛ إنه احترق مرّات (فراجع كتابي «الجامع الأموي» تعرف خبرها)، وهذا البناء تمّ سنة 1311هـ على أثر الحريق الأخير، بناه «معلّمون» من أهل صنعة البناء في دمشق ما فيهم مَن درس الهندسة وحمل شهادتها، لأنهم من العباقرة الذين اقتبس علم الهندسة من عبقرياتهم ومن دراسة آثارهم وآثار أمثالهم. من النتائج المنظَّمة لهذه الدراسات وممّا أضيف إليها وزيد عليها نشأ هذا العلم. وإلا فخبّروني: في أية جامعة تخرّج مَن بنى الأهرام، ومن أقام حدائق بابل المعلّقة، ومن رفع هذه الصخور الهائلة فوضعها فوق هذه الأعمدة العالية في بعلبَكّ وتَدْمُر؟ ومن صنع نقوش الحمراء، ومن جعل الرخام الجامد ينطق بأبرع لسان، يتلو بلسان الحال آيات الجمال في تاج محل؟
(1) كثيراً ما نبّه علي الطنطاوي إلى أن هذا هو اسمها الصحيح، وليس «دلهي» الذي سماها به الإنكليز (لعِوَج لسانهم كما كان يقول). قلت: وضبطها صاحب القاموس بألف مقصورة في آخرها (دِهْلَى). وسيأتي في الحلقة 146 من هذه الذكريات حديث طويل عنها عنوانه «دهلي، الفردوس الإسلامي المفقود» (مجاهد).
أُعيدت الآن فسيفساء الأموي كما كانت أيام الوليد. لقد ظلت أسرارها مجهولة عشرة قرون، أفتدرون من الذي كشفها للناس وعرّفهم بها؟ لا، لم يكن عالم آثار ولا أستاذ جامعة، بل واحداً من خدم الأموي. كشف سرّها واستطاع أن يعيد صنعها، حتى إنك تنظر إلى ما بقي منها من أيام الوليد وإلى ما جُدّد الآن، فلا تدري أيها القديم وأيها الجديد.
وجاء المملكةَ من قريب عاملٌ ممّن تعلم هذه الصنعة اسمه فلان العقّاد، نسيت اسمه الأول، وهو يعمل في الرياض ومعه لوحة صنعها باعها بألف ريال! فابحثوا عنه واستقدموا زملاءه، واستفيدوا منهم فيما تقيمون من عمارات تريدون لها الزخرف والجمال، ولكن ابتعدوا عن المساجد، فالمساجد ليست معارض فن ولكنْ محاريب عبادة، لذلك يُكرَه فيها كل ما يشغل المصلّي عن صلاته لاسيما إن كان في جدار القبلة. أمور الدين يا سادة مردّها إلى ما أوحى به الله وبلّغه الرسول، لا إلى ما يراه المفكّرون ولا إلى أذواق أهل الفنون.
* * *
ثم اخرج من الباب الشمالي للجامع تلقَ أمامك مدينة جامعية، بقعة واسعة كلها مدارس؛ المدرسة لصق المدرسة، أبنية فخمة من الحجر والمرمر، أبواب ضخمة فوقها أقواس مختلفات الأشكال مملوءة بالمُقَرْنَصات التي تُدهِش الناظر وتَرُوعه بعظمتها وبفنّها: مدرسة الكلاّسة، وإلى جنبها مدفن صلاح الدين، بجوارها السّميساطية، والجقمقية التي سبق
الحديث عنها، وهي من أجمل الآثار المملوكية، وقد جدّدتها وزارة الأوقاف بإرشاد إدارة الآثار فرجعَت كيوم فرغ من بنائها بانيها، والمدرسة الإخنائية، ثم المدرسة الظاهرية، مدفن الظاهر بيبرس، وفيها مكتبة من أغنى المكتبات بنوادر المخطوطات، تقابلها العادلية (مدرسة الملك العادل أخي صلاح الدين)
…
ما يشبهها في ازدحام هذه الكنوز من العمارات إلا سفح المقطّم في القاهرة، حيث مدرسة السلطان حسن ومسجد الرفاعي، وتلكم العمارات الرائعات للمساجد والمدارس والمكتبات، وإلا منطقة الأزهر والحسين وما فيها من المدارس والمساجد، معرض دائم لازدهار العلم والحضارة ومتحف حيّ لروائع فنون العمارة.
وفي العادلية «المَجْمع العلمي» ، وهو أقدم المجامع العربية. ولكن الذي يشوّه هذا الجمال ويلطخ هذه الصفحة البيضاء ببعض السواد هو أن «الظاهرية» يحفّ بها فرن من هنا وحَمّام من هناك، ولطالما نبّهْنا إلى ما في ذلك من أخطار. نوادر المخطوطات والآثار تجاورها من الجانبين النار! ولو أنها احترقت فمَن يأتينا بمثلها؟ إن أموال الأرض لا تعوّضنا عنها، ومن الأشياء ما لا يُشترى بالمال. لقد سطا لصّ مرة على متحف دمشق، دخله بحيلة وسرق منه مجموعة لا مثيل لها من الدنانير القديمة، الرومانية والفارسية والأموية والعباسية وأنواع أخرى، ثم ارتكب جريمة أكبر من جريمة السرقة فأذاب هذه الدنانير وجعلها سبائك. لقد قبضوا عليه واستردوا السبائك منه وعاقبوه، ولكن ما الفائدة؟ إنهم كمن يستردّ المخطوطة الوحيدة من سارقها لكن بعدما محا كتابتَها وأرجعها صحفاً بِيضاً
…
أو كمن يُرجع البنت المخطوفة
إلى أهلها بعدما قضى الخاطف على حياتها.
وستمشي مئتَي متر فقط فتصل إلى باب الفراديس، أحد أبواب دمشق السبعة، وهو باقٍ. وستمرّ قبله بأربعة مدارس ومساجد وببقايا من السور القديم، وبِحارة بينهما لا يزال اسمها إلى الآن حارة بين السورَين. هذا باب دمشق القديمة، فاخرج منه. لقد صرت «ظاهرَ دمشق» . دع هذا الشارع الجديد وعماراته العالية فإن هذا الشارع دخيل على عالَمي، وامشِ إلى الأمام ثلاثمئة متر أخرى تصل إلى العُقَيْبة، وهي حيّ الأوزاعي الذي يُنسَب إليه الإمام الذي يقوم قبره على شاطئ البحر جنوبي بيروت تغسل أقدامَه الأمواج، وكان من شهرين تُلهِب رأسَه القنابل من اليهود الذين لا يرعون حرمة منازل الأحياء ولا حرمة قبور الأموات، يحميهم ويقوّيهم بالسلاح وبالفيتو أو يمدّهم بالبشر دولة الغرب ودولة الشرق، كلتاهما معهم علينا، وإن كانت إحداهما تقدّم إليهم الرجال وتعطينا نحن جميل المَقال، والأخرى تعطيهم كل شيء ولا تعطينا شيئاً، بل تبني نصف اقتصادها على أموالنا.
بين حيّ العُقَيبة هذا وحيّ العِمارة الذي مررنا به أقلّ من نصف كيل (كيلومتر)، ولكنْ كان بينهما ما يكون بين الحارات يومئذٍ من عداءات ومعارك، أيام القبضايات والفتوّات. فلا تصدّقوا كل ما يقوله الشيوخ من أمثالي من أن أيامهم كانت خيراً كلها وأن هذه الأيام ما فيها إلا الشرور والآثام. أنا كنت أقول مثل هذا وكنت أكتبه، والحقّ أنه كان في تلك الأيام خير كثير فقدناه وكان فيها شرّ كثير تخلّصنا منه؛ فالأمن كان مفقوداً في ليالي
دمشق وفي أطرافها في النهار، وكان انقسام وخصام، والجهل كان أعمّ والأمّية كانت أكبر، والأمراض كثيرة والأطباء قلائل. ولكن كان -مقابل ذلك- فضائل ومزايا: تمسّك بالدين، وإن كان يخالطه عند العوامّ بدع وجهالات وأوهام، ولم يكن سفور ولا اختلاط، ولا كانت الملاهي، ولا كان مَن يجهر بارتكاب المعاصي أو يعلن ترك الواجبات. وكانت الغيرة على الأعراض والبعد عن الفسوق، وكان التعاون بين الناس حتى كان الحيّ وسكانه داراً واحدة وأهلها كالأسرة الواحدة.
فإذا بلغت العقيبة فامشِ إلى آخرها، حتى تبلغ تلك الحارات الضيقة والبيوت الصغيرة الفقيرة، فادخلها. لا يَرُعْك ضيق مسالكها ولا فقر منازلها، فلقد كانت ها هنا منازل أهلي، هنا كان مسقط رأسي. ليس الوقوف والبكاء على الأطلال وحدها، فلقد وقف الشريف الرضيّ على منازل حبّه وهو في بغداد يوم كانت سُرّة الأرض وأعظم مدن الدنيا. لم يكن راكباً نِضواً (1) كما قال ولا مصاحباً رَكباً، إنه لم يصف عن عيان كالشاعر الجاهلي، ولكن ماذا يضرّ؟ ألا تمرّ على العمارة الكبيرة التي كنت تسكنها فتذكر أيامك فيها وتحنّ إليها، وربما ذرفت الدموع على مَن كان معك فيها فواراه عنك ثراها؟ العاطفة صادقة ولو اختلفَت الظروف، فماذا يضرّ رخص الإطار إن كانت اللوحة ثمينة؟
إن الإنسان مفطور على الحنين إلى ماضيه. مَن ينسى الأمس وهو أبو اليوم، كما أن اليوم هو أبو الغد؟ لذلك تحرص
(1) النّضو (بكسر النون) الدابّة التي أجهدها السفر (مجاهد).
الأمم على آثارها. الآثار هي بقيّة الماضي، الماضي زمان ومكان وأحداث وناس، وقد ذهب الناس فلا يرجعون، وانتهت الأحداث فلا تُستأنَف، والزمان الذي تصرّم لا يعود، فلم يبقَ إلا المكان وما فيه من أشياء. فإن اعتنينا بالآثار فنحن لا نعبدها ولا نقدّسها؛ ضلّ من يقدّس تراباً ويعبد حجراً، ولكنْ نذكر فيها ماضينا، أي ننظر إلى أنفسنا في أمسنا.
هنا وُلدتُ وأمضيت فجر حياتي، وإلى هنا رجعت لمّا غابت شمس اليوم الأول من هذه الحياة بموت أبي، ثم رجعت إلى هنا لمّا غربت شمس اليوم الثاني بموت أمي.
لمّا خرج صبري القبّاني من غرفة العمليات فقال لي (بنظرات من عينيه الغارقتين بالدموع وبحركات اليأس من يديه) إنها ماتت وقفت كالذي ضُرب على رأسه ففقد الوعي وهو ينظر، عيناي مفتوحتان ولكني لا أرى شيئاً. وقفت وأحسست كأنْ قد وقف معي الزمان. لامارتين في قصيدة «البحيرة» استوقف الزمانَ في ساعة الوصال وحثّه على الإسراع في وقت الكرب، ولكن زماني وقف بي وأنا مكتئب مكروب، لا أستطيع أن أعود إلى الأمس فأتصور أمي وهي بيننا، وهي عماد بيتنا وهي تعيش معنا، ولا أستطيع أن أتصور الغد، كيف يكون غدي وقد تركتنا أمي؟
لقد بكى صبري القباني على أمي لأنه كان يوماً مثل أخي، ولعله بكى فيها أمه. لقد كان يعرف أمي، كانت كلما غبت سألَته عني وكانت تعطف عليه كأنه ابنها، وكان رحمه الله قد حُرم جوار أمه أيام صباه.
تعطّل فكري فلم أعُد أفكّر. كانت الجرعة أكبر من أن أسيغها، وقفَت في حلقي فلا أنا استطعت أن أبتلعها ولا أنا أملك أن ألفظها. لم أقُل شيئاً، لم أبكِ، لم أصرخ. صرت كأني قد جمدت، فتولّى صبري الإمساك بي وإخراجي، وانقدتُ إليه أمشي معه كأني أمشي في نومي. وجاء الدكتور نظمي القباني أستاذ الجراحة في كلية الطب (وهو ابن محاسب المعارف الأستاذ مصطفى القباني، وليس من أسرة الدكتور صبري القباني)، وأنا أذكر الآن أنه قال كلاماً طويلاً عرفت أنه يواسيني به ويعزّيني، ويقول إنه بذل الجهد لكن إرادة الله أقوى من طبّه، ولكني لم أفهم ممّا قال شيئاً.
ولم أعلم إلى الآن (صدّقوني) كيف غُسّلت وكُفّنت؛ لقد تولى الأمرَ كله إخوة بررة، منهم من ذهب إلى رحمة ربه كالدكتور صبري والشيخ عبد القادر العاني وأنور العطار، ومنهم من بقي كابنَي خالتي طه وثابت الخطيب والشيخ ياسين عرفة وطائفة من الشبان الذين كانوا يلازمونني: رشاد جيوشي وأنور العش، ومحمود الرفاعي وسعيد الجزائري رحمهما الله.
وما تنبّهت حتى وقفنا للصلاة عليها في جامع التوبة. ولي في هذا المسجد ذكريات خالطَت ثواني حياتي الأولى، فيه وفي هذه المدرسة القائمة أمامه قِطَع من عمري من عهد طفولتي. هنا رحمني الله فسال دمعي.
إن الدموع رحمة، فلا تخجلوا يا أيها المحزونون أن تبكوا، فإن حرقة القلب لا تطفئها أنهار دمشق السبعة ولكن يطفئها، أعني
أنه يخفّف من حرّها، سَفحُ الدموع. ولو كان البكاء يُنقص من الرجولة ما بكى سيد الرجال محمد، صلى الله على محمد.
بكيت بلا صوت. كانت دموعي تتساقط وأنا صامت. بكيت أمي وإن لم أستوعب تماماً حقيقة مصابي بها ولم أدرك مداه، بكيت أبي، بكيت من ذهب من أهلي ومن صحبي، بكيت آمالي وأحلامي، بكيت مَواضي أيامي، بكيت أسرتي الأولى التي كانت كلها هنا فلم يبقَ منها إلا أنا.
أنا بعد أربع سنين أبلغ الثمانين (1)، وقد تُوُفّي أبي وهو في السادسة والأربعين وأمي في الثالثة والأربعين، ولكني كلما ذكرتهما أحسب أني صَغُرت حتى عدت طفلاً رضيعاً كان يأوي إلى صدر أمه، يطلب فيه الحليب غذاء جسده والعطف طعام روحه، وكذلك يحسّ كل ولد مع أمه. واستُشهدَت بنتي وهي في السابعة والثلاثين، ولكني كلما ذكرتُها أشعر أنها صَغُرت حتى عادت الطفلة التي ترتمي على صدري وتقعد في حجري، وكذلك يشعر كل والد مع ولده، مهما كبر الولد فهو في عين أبيه طفل.
ولكن هذه أسرار قلبي فلماذا أعلنها للناس؟ هل أجعل مخدع حبي الأطهر معرضَ صور يتجول خلاله النقاد والذين يحبون أن يتسلّوا؟ لقد استحضرت في ذهني من ذكريات أمي وذكريات بنتي ما يملأ صفحات من الجريدة، حفرت بأظافري في أنقاض الماضي في ذاكرتي حتى جمعتها. لقد استخرجت خيوط
(1) كُتب الفصل سنة 1403.
الثوب من بين ذرّات التراب خيطاً بعد خيط ثم أعدت نَسْجَه لأدفئ به عظامي في شيخوختي، فهل أنزله في «سوق الحَراج» لأبيعه بالمزاد؟ لا؛ فلتبقَ لي وحدي فما لأحد من القرّاء نفع فيها، وأنا إنما أحيا بها.
* * *
وأما أنت يا أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبقَ لي عندك إلا حاجة واحدة؛ فلا تنصرف عني وتدَعني وحدي بل أكمل معروفك، فصلِّ الفجر في جامع التوبة، ثم توجّه شمالاً حتى تجد أمام «البحرة الدفّاقة» زقاقاً ضيّقاً جداً، حارة تُسمّى «المعمشة» ، فادخلها فسترى عن يمينك نهراً، أعني جدولاً عميقاً، على جانبه من الورد والزهر وبارع النبات ما تزدان بأقلّ منه حدائق القصور. أتدري ممَّ جاء؟ لأنه يشرب ماءً قذراً. إن هذا الجدول نصفه من ماء النهر ونصفه من ماء المجاري!
عفوك فهذه هي الحقيقة، ومن الحقائق ما يسوء. وعلى كتفه ساقية عالية ماؤها إن قيس بمائه عذب زلال، وإن لم يكن زلالاً ولا عذباً. وإن رجعت إلى مجلة الرسالة (1935) قرأت مقالة لي عن هذه الساقية (1)، فاجعلها على يمينك، وامشِ في مدينة الأموات، وارعَ حرمة القبور فستدخل أجسادُنا مثلَها، ودَعْ هذه البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة الممتدّة الفروع
(1)«ساقية في دمشق» ، وهي في كتاب «دمشق، صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).
الوارفة الظلّ، التي كنا وكان الناس يتخذون من ظلها مجالس أنس يوم العيد وعلى أغصانها يعلّقون الأراجيح، يُقبِلون على تسليات الحياة في موطن الموت! سر إلى الأمام حتى يبقى بينك وبين جدار المقبرة الجنوبي نحو خمسين متراً. إنك سترى إلى يسارك قبرَين متواضعَين من الطين على أحدهما شاهد باسم الشيخ أحمد الطنطاوي.
هذا قبر جَدّي وفيه دُفِنَ أبي، وإلى جنبه قبر أمي، فأقرئهما منّي السلام. أسألُ الله الذي جمعهما في الحياة وجمعهما في المقبرة أن يجمعهما في الجنّة.
هنا دُفِنَ أعزّ الناس عليّ. أمّا مَن كانت أعزَّ منهما (ولا أظن أن قولي هذا يسوؤهما) فقبرها بعيد بعيد في ألمانيا، إني لست أعرفه. بلى والله إني أعرفه لأنه قريب قريب، إنه في قلبي.
ربِّ اغفر لي ولوالدي، ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً. ربِّ ارحم بنتي واغفر لها. ربِّ وللمسلمين والمسلمات.
* * *