الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-65 -
من سَقْبا في بطن الغوطة
إلى رَنْكوس في رأس الجبل
وصلت الآن في ذكرياتي إلى سنة 1933 (1352هـ)، وأنا لا أزال أمشي في تدوينها على ترتيب السنين، تذكّرني -إن نسيت- أوامر وزارة المعارف بنقلي من مدرسة إلى مدرسة وتواريخ الصحف التي نُشرت فيها مقالاتي، وإن بقي عندي الأقلّ منها وضاع أكثرها.
وكانت دمشق هذه السنة، بل كانت سوريا كلها، كأنها تعيش بجوار بركان يفور أحياناً فتفتح أبواب جهنّم ويهدأ أحياناً؛ سنة مظاهرات وهزّات، تسكن دمشق قليلاً فتتحرّك حلب، أو تهيج حمص أو حماة، وكنت ممّن يُضرِم هذه النار وينفخ فيها بلساني وبقلمي، كما يصنع كثير من أقراني وأمثالي. ما كنت في ذلك وحدي، وإن كنت من أحدّهم لساناً وأمضاهم قلماً، وأنا أشير (على سبيل المثال) إلى مقالة عنوانها:«يا أمة الحرية» نُشرت في جريدة «اليوم» عدد 27/ 12/1931، وعندي إحدى عشرة مقالة مثلها كتبتها في ذلك العهد. وهاكم فقرات منها:
أنا لا أجمجم الكلام ولا أديره على وجوهه التي ترضون عنها، فقد يئست حتى ما في نفسي مكان لأمل ولا متّسَع لخوف، واليائس لا يخيفه شيء، وإن نحن عجزنا عن أن نعيش أحراراً فلن يُعجِزنا أن نموت أحراراً، وما بعد الذي كان يوم الأحد أمل ولا خوف.
لقد قُضي علينا أن نهبط من عليائنا وأن نُسلَب حرّيتنا ونفقد استقلالنا، ولكن لم يأتِ بعد، ولن يأتي أبداً، اليوم الذي نخسر فيه إيماننا وكريم خلالنا. إننا اليوم كما قال ملككم فرنسوا الأول:«خسرنا كل شيء إلاّ الشرف» ، كتب ذلك في رسالة بعث بها إلى الملك المسلم العظيم سليمان القانوني يستنجده، فوجد منه النجدة والمدد. فجئتم أنتم -يا أحفاده- تردّون جميل صنعه لكم بقبيح صنعكم بنا، ولا عجب، فقديماً قال شاعرنا:
ملكنا فكان العدلُ فينا سجيّةً
…
فلما ملكتُم سال بالدّمِ أبطحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأُسارى وطالَما
…
غدونا على الأسرى نمُنُّ ونصفَحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوُت بينَنا
…
فكُلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضَحُ
لقد قاسينا منكم الظلم وعايشنا الفقر وشاهدنا الخراب، وأصبحَت مدينتنا أطلالاً وأهلها مشرّدين ونساؤها ثاكلات، فماذا نخاف بعد هذا؟ عندكم أشدّ من الرصاص؟ فقد فتحنا له صدورنا. والقنابل؟ قد أعددنا لها دورنا. هل عندنا أغلى من الأرواح؟ لقد بذلناها ثمناً للاستقلال.
ثمنُ المجدِ دمٌ جُدنا بهِ
…
فانظروا كيفَ دفعنا الثمنا
كيف سقينا بدمنا وادي ميسلون وجنان الغوطة، وبطاح حماة وحمص وأرجاء حلب. والأرض التي تُسقى بالدم لا تُنبِت إلاّ الاستقلال.
ألم يقُل لكم أحد: إن الدم العربي أحمر مثل الدم الفرنسي حارّ مثل الدم الفرنسي، وإن لشهدائنا آباء وأمهات يبكون ويتألمون ثم يصبرون أو يُقدِمون وينتقمون، كما يصنع الآباء في فرنسا؟ فإذا كانت ثورتكم الكبرى التي تعتزّون بها قد أثمرت -كما تزعمون- قوّة فرنسا، فإن ثمرات ثورتنا ستجيء حين يجيء موعدها.
فاملؤوا المرجة دبّابات، واقتلوا منّا المئات، واكذبوا فانشروا ما شئتم بلاغات، فكل ما هو آتٍ آت.
إن الهرّة إذا حُبست وضويقت انقلبَت لبؤة، والبركان إن سُدّت فوهته كان الانفجار، والشعب إذا استُذِلّ ثار، والنار ولا العار، وللشهداء عقبى الدار.
* * *
هذا مثال ممّا كنت أكتبه في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي، تنشره الجرائد لأن الصحافة كانت حرّة، ولا تنالني منه مضرّة لأنه لا حبس إلاّ بحكم المحكمة. كذلك كانت الحال أيام الاستعمار، فما الذي صار؟
واشتدّت الحركة في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1933، وكانت دمشق هائجة: أسواقها مغلَقة والمظاهرات فيها مستمرّة، والمصادمات بين المتظاهرين وقُوى الأمن قائمة، هؤلاء بالسلاح
وأولئك بالحجارة. في ذلك اليوم خطر لابن خالتي (وأستاذي) الشيخ شريف الخطيب مدير المدرسة الأمينية (التي سبق الكلام عنها) أن يسوق تلاميذه، وهم يزيدون على المئتين، ويزورني بهم، لعلّ هذه الزيارة تنقل حُمّى الحماسة إلى الغوطة فتشارك دمشق النضال. وبعث من يخبرني أنه وصل بهم إلى طرف القرية، فرأيت أن من الخير ألاّ يدخل بهم المدرسة لئلاّ يحمل ذلك الفرنسيين على إغلاقها، وبعثت من يدلّهم على مكان متّسع ليلعب فيه التلاميذ إلى أن ألحق بهم.
وانتظرت حتى انتهى «الدوام» ، وكان يوم خميس، فصففت تلاميذي ووكّلت بهم من يقودهم إلى المكان. وكانوا يمشون بنظام مشي الجند، سواء أكنت معهم أم كنت بعيداً عنهم، وكان من يرى ذلك يعجب منه ويراه شيئاً كبيراً، وما هو إلاّ التدريب والإقناع مني والطاعة عن رضا وقناعة منهم.
فلما خرجوا -وكنت على وشك اللحاق بهم- جاءني من يدعوني إلى الهاتف لأني مطلوب من دمشق، فذهبت. قلت: نعم؟ قال مَن في الطرف الثاني من الخطّ: أنت الأستاذ؟ فلما سمعت لقب الأستاذ اطمأننت لأن من يريد الشرّ لا يدعوك الأستاذ، وقلت: نعم، أنا. قال: هنا قيادة الدرَك، وقد فهمنا أنك دعوت قريباً لك مدير مدرسة لتُحدِثوا قلاقل في الغوطة، فنحن ننصحك أن ترجعهم. قلت: أما أنه قريبي فنعم، ولكني ما دعوته وما نويت أن أحدث حدَثاً ولا أن أخلّ بالأمن، وأنا لا أملك إرجاعهم لأنهم ليسوا عندي، وليس من عملي ولا في طاقتي أن أرجعهم.
وتركتُه ولحقت بالشيخ ومعه معلّمو مدرسته وتلاميذه، فاجتمع نحو أربعمئة من التلاميذ، فأكلوا وشربوا، وكانت خطب وكانت لعب. ثم حضر ثلاثة من رجال الدرَك على الخيول فصاحوا بنا ليهوّلوا علينا: اسمعوا، ممنوع بقاؤكم هنا، يجب أن تنصرفوا حالاً.
ظنّوا أن هذا يخيفنا، ولكنا ما خفنا، بل دعوناهم ليقعدوا معنا ويأكلوا من زادنا ويشربوا من شاينا، فأخذ كبيرهم وضع الجدّ، وكان رقيباً كبير السن، وقال: يا أفندي هذه أوامر الحكومة، ونحن قد جئنا لتنفيذها لا لنأكل ونشرب ونلهو ونلعب. قلت: على كيفكم، اعملوا ما يجب عليكم، أمسكوا الأولاد وأرجعوهم أنتم لأننا لا نريد الرجوع الآن.
فصرخ: يا أولاد، هنا، اصطفّوا. فما ردّ عليه أحد، فأمسك بواحد وقال له: قف هنا لا تغادر هذا المكان. وولاّه ظهره ليأتي بغيره فهرب، وحسبها الأولاد «لعبة يعيش» ، وهي لعبة كانت معروفة ينقسم فيها اللاعبون إلى قلّة تمثل دور الشرطة وكثرة تقوم بدور المتظاهرين، وكلما أمسكت الشرطة بواحد أي قتلته (بالرمز لا في الحقيقة) جاء أحد رفاقه فلمسه فيعيش، فكأن مهمة الشرطة في اللعبة الإمساك بالآخرين ومنع رفاقهم من الاقتراب.
وبلغت النشوة والفرحة بالتلاميذ أقصى مداها حين رأوا أنهم يلعبون مع عسكر حقيقيين لا مع عسكر ممثّلين، وعلَت ضحكاتهم وارتفع هتافهم، ورجال الدرك المساكين قد كلّت أرجلهم من السعي وألسنتهم من الشتم، لا سيما الكهل رئيسهم.
فقمت إليه فقلت له: اسمع مني وتعالَ أنت وأصحابك فاقعدوا فاستريحوا واشربوا كوباً من الشاي ودَعوا هذه اللعبة السخيفة فلن تأتي بنتيجة. هؤلاء أولادكم، فهل تطيب قلوبكم بإيذائهم؟ وهل معكم أمر بإطلاق النار عليهم؟ ولو أمروكم أفتنفّذون أمر أجنبي كافر في أولادكم؟ لقد عملتم ما استطعتم ونحن نشهد بذلك معكم، فلا ترهقوا أنفسكم خدمة لعدوّكم ومحتلّي بلادكم، فإنّ أخسرَ الناس من باع دينه بدنيا غيره.
قال: والله صحيح، الله يلعن أبو فرنسا واللي جابها، لعنة الله عليهم! ودعا صاحبيه أن تعالوا يا شباب، حاجِة (1) مَسْخَرة، نلحق أولاد صغار بعد هذا العمر؟ الله يلعن أبو فرنسا واللي جابها!
وكسبنا المعركة ولكن خسرنا الحرب، إذ لم تمضِ إلاّ أيام حتى تلقّيت الكتاب الرسمي بنقلي إلى رَنْكوس.
* * *
أرأيتم الذي غرقت سفينته فتعلق بخشبة منها، قد انحصرَت أمانيه في الوصول إلى الشطّ، تدفعه موجة إليه فيقرب منها فيستبشر، فتأتي موجة أخرى فتبعده عنه فييأس؟ كذلك كنّا أنا وإخواني جميعاً، كنّا معلّمين في القرى فإن اقترب أحدنا من دمشق دنا منه الفرج، نُقلت إلى سقبا فكأني صرت في دمشق، لم تبقَ بيني وبينها إلاّ خطوة، فما لي الآن أُرجِعت خطوات إلى الوراء، إلى رَنكوس؟
(1) حاجة معناها «يكفي» ، أو كما يقولون في مصر «كفاية» .
هل تذكرون كلامي في الحلقة الماضية عن منين وكيف تركتها وأخذت شمالي إلى حَلبون؟ إن منين هي محطّة في الطريق إلى رنكوس، يمشي بعدها الطريق صاعداً في الجبل حتى يصل إلى صِيدْنايا؛ وفيها الدير الكبير وهو من أكبر أديِرَة النصارى وأعمرها، وله تاريخ طويل، والنصارى يحجّونه ويعتقدون فيه عجائب الأباطيل. ثم يزداد الطريق صعوداً ووعورة حتى يبلغ رنكوس.
عندنا قريتان كانتا تُعجِزان الحكومات، صلابة وشدّة وعنفاً وجرأة منقطعة النظير، هما رَنْكوس هذه وفيها آل سرسق (1) وسَرْغايا من هناك، وهي بعد الزّبداني وفيها آل الشمّاط. لا أقول إنهما أسرتا فتوّات، فما كانا عليه أكبر من عمل الفتوّات؛ كان أشبه بعمل عُتاة العصابات، أقصد الذي كان لا أتكلم عن حالهما الآن.
والذي زاد ألمي أنه كان معنا في الصفّ (أي الفصل) في مكتب عنبر طالب أكبر منّا سناً ولكنه مقصّر دائماً، ينجح سنة ويسقط أخرى رغم عناية بعض الأساتذة به لأنه ابن أسرة كبيرة وجيهة، وكان أبوه (كما أظن) وزيراً. صار هذا الطالب معلّماً في رنكوس، وكان أهله يبذلون طاقتهم كلّها ويسخّرون وجاهتهم لنقله، فلما حدث هذا الحادث استندوا إليه فنقلوني معلّماً في رنكوس مكانه وأعطوه مكاني.
(1) وإنها لتتشابه الأسماء وتتفاوت الأفعال، سرسق وسرسيق، الأول اسم من عرفتم وسرسيق اسم الصديق العالِم الكاتب، وإن كان له قلم يجعله إن شاء أنكى من سلاح آل سرسق وأبقى أثراً.
لقد آلمني هذا الظلم وكان أشدّ عليّ من الإبعاد.
* * *
فارقت سَقبا وسلّمتها إلى هذا المعلم الجاهل. ولست أسبّه إن قلت إنه جاهل، هل تسبّ الحمار إن قلت إنه حمار ولم تقُل إنه غزال بآذان طوال؟ ولكن لا، أستغفر الله لي وله، فقد مضى إلى رحمة ربه وأنا ماضٍ بعده، ولقد كان رفيقي في المدرسة، فاللهمّ ارحمه وسامحني.
وخرجت من مدرسة سقبا كأني لم أدخلها ولم أبِت فيها ليلة قط ولم أعِش فيها عاماً ونصف عام، وكأنّي لم أُودِعها من ذكرياتي ومن حياتي ما لا أستطيع أن أنساه لأنه صار جزءاً مني، أي من الـ «أنا» التي أقوم بها وتقوم بي.
وإن أنسَ لا أنسَ يومَ الوداع، يوم ألقيت على هؤلاء الصغار الأطهار وصيّتي الأخيرة ثم فارقتُهم فراق الأب أبناءه. خرجت وهم يشيّعونني واجمين، الحزن يملأ قلوبهم ولكن العجز عن البيان يمسك ألسنتهم، ولقد رأيت فيهم مَن يتكلم بدمعه لمّا عجز عن الكلام بفمه. وليس هذا عجيباً، فقد أشعرتُهم أني كنت لهم أباً أو أخاً كبيراً، أؤدّبهم وقد أضربهم ولكنني كنت أخاف عليهم وأحبّهم، ألا يؤدّب الأبُ ابنَه الذي يحبّه؟
لقد كان يهوّن عليّ فراقَهم أنني ما غششتهم وأني نصحت لهم، وأني لم أدّخر وسعاً في تقويمهم وتربيتهم؛ لم أكُن معلّماً كالمعلّمين بل كنت مرشداً وناصحاً. نبّهت الإيمان في قلوبهم الصغيرة، ما قلت إني غرسته لأن الإيمان مغروس في أعماق كلّ
قلب، ولكن يغفل فيحتاج إلى تنبيه ويُستَر (أي يُكفر) فيحتاج إلى إظهار. علّمتُهم الصدق حتى إن أحدهم يعترف بذنب ارتكبه لم يرَه عند ارتكابه أحد. كانت وراء المدرسة قطعة أرض كبيرة تابعة لها مهمَلة فكلّفت التلاميذ انتخاب نفر منهم ليفلحوها ويزرعوها، وعلّمتُهم كيف يكون الانتخاب فانتخبوهم بإشرافي. بدأت منهجاً علمياً في التربية وفي التعليم، ولكنهم لم يدَعوني أُتمّه من أجل خاطر رفيقنا ابن الأكرمين، فانهدّ البناء كله لمّا تركتُه.
وجدت ورقة في دفتر قديم فيها سطور كتبتها يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) 1933 هذا نصّها أنقله كما وجدته: "أنا الآن في قعر الهوّة، فهل أخرج منها؟ هل أذكر هذه الأيام المريرة فأتحدّث عنها وأحمد الله على الخلاص منها، أم قد ذهبَت الآمال إلى غير رجعة؟ هل قُضي عليّ أن أبقى أبداً معلّماً في القرى أم
…
"
أم ماذا؟ لم أجد بقيّة الجملة، ومهما تكن فإن الله -وله الحمد- قد نقلني من تلك الهوة إلى «أم» (1).
فيا أيها الواقعون في الضيق، الذين يعيشون الشدائد، الذين يقاسون المصائب ويتحمّلون الآلام، لا تيأسوا من رَوح الله؛ إن الله عنده من كل ضيق مخرج وبعد كل شدّة فرج. هل قرأتم كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي؟ لقد قرأته وعمري إحدى عشرة سنة، ثم قرأته أكثر من ثلاثين مرّة وحفظت قصصه كلها من كثرة ما أعدت النظر فيه، وصحّحت من حفظي الكثير
(1) عُرضت مرّة مجموعة من السبايا على المعتصم، فسأل واحدة منهن: أنتِ بكر أم أيش؟ قالت: أيش يا أمير المؤمنين.
من أخطاء النسخة المطبوعة منه، ولو وجدت له نسخة مخطوطة صحيحة لحقّقتُه وأعدت نشره لأني صرت من أعرف الناس به. فاقرؤوه -على كثرة أغلاطه- تجدوا فيه ما لا تجدون مثله في كتاب آخر من صور المجتمع العباسي ومصطلحات أهله، وأحوال الموظفين وأوضاع التجّار، وأقلّ ما تستفيدون منه أنه يهوّن على المحزون منكم حزنه حين يرى أن مِن الناس مَن أصابه أكثرُ ممّا أصابه. ولكن فيه كلمات من اللغة العبّاسية لا يكاد أحدٌ يعرف معناها معرفة يقين (1)، ومثلها في «البخلاء» للجاحظ، حاول بعض المستشرقين تفسيرها فوُفّقوا في بعضها.
خرجت عن الموضوع كالعادة فمعذرة.
* * *
(1) في ختام حلقة لاحقة نشر جدي رحمه الله التعليق التالي: "تعليقاً على ما قلتُه في الحلقة الماضية عن كتاب «الفرج بعد الشدة» خبّرني أخي، أو ولدي، الأستاذ العصامي النابغة زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» للنشر وناشر العشرات من كتب الفقه الحنبلي والكتب السلفية القيّمة ومحققها، خبّرني أن الأستاذ عبّود الشالجي حققه ونشره في خمسة مجلدات، فسّر فيها الألفاظ العبّاسية وعلّق عليها، كما نشر الكتاب الآخر للقاضي التنوخي وهو «نشوار المحاضرة»، ففرحت بهذا الخبر عنهما وعجبت كيف لم أرَهما ولم أسمع بهما وقد طُبعا من سنين"(مجاهد).
قلت: وتحقيق المحامي عبود الشالجي لكتابَي القاضي التنوخي هذين في غاية النّفاسة، وقد أعانه على شرح ألفاظهما العبّاسية الغريبة أنه من سكان بغداد، وُلد ونشأ فيها كما يظهر من تعليقاته وحواشيه الكثيرة المفيدة (مجاهد).
لمّا نُقِلت هذه النقلة كنت في قلب الشتاء، وكنت أستطيع أن أطلب إجازة ولكني لم أقبل الهزيمة، وكانت هِمّة الشباب تملأ جوانحي، فحزمت حقيبتي وركبت إلى صيدنايا، فلما بلغتها ووقفَت السيارة الكبيرة فيها ونزل منها رُكّابها قلت: ولكني أريد الوصول إلى رنكوس. فقالوا: مستحيل. قلت: ولِمَ؟ قالوا: الطريق مقطوع قد سدّته الثلوج. قلت لصاحب السيارة: أدفع لك ما تريد فأوصلني. قال: ما عندنا ركّاب فهل تدفع أجر المقاعد كلها؟ قلت: نعم. قالوا: وإن لم نستطع الاستمرار في السير؟ قلت: إن لم تستطيعوا فعودوا والأجرة لكم.
وسرنا وسط الثلوج في طريق جبلي خطر، فلما بلغنا نصفه أو أكثر قليلاً لم يعُد بالإمكان أن تتقدم السيارة ذراعاً واحداً. فقلت: عودوا وأنا أمشي. قالوا: كيف تمشي؟ الطريق خطر ولا يخلو من وحوش، والثلوج كما ترى.
فأصررت ومشيت؛ مشيت نحو ساعتين ونصف الساعة، الله وحده يعلم ما قاسيت فيهما، وكان البرد يَقصّ العظم. ووصلت فسألت: أين المختار (أي العمدة)؟ فنظروا إليّ مدهوشين كأنهم يرون فيّ جنّياً طلع عليهم، وقالوا: مَن أنت؟ وكيف جئت؟ قلت: أنا المعلم، وقد جئت ماشياً من نصف طريق صيدنايا.
وكانوا رجالاً صِلاب العود يقحمون الأهوال، فعجبوا من شابّ شامي يبدو في أنظارهم رقيق العود قليل الصمود، يفعل ما لا يُقدمون على فعله. ودلّوني على المختار، وكان قاعداً مع صحبه على دكّة (مَصطبة) يواجه شمس الشتاء الضعيفة، فسلّمت فردوا
رداً ضعيفاً وقالوا: مَن الأخ؟
فخبّرهم من كان معي أنني المعلم وأنني جئت ماشياً، فكبرت في أعينهم قليلاً. ودعوني إلى القعود، ثم قال المختار: لا يا جماعة، بل يدخل فيأكل شيئاً ويستريح. ودخلت معهم إلى «المَضافة» فشربت الشاي وأكلت ما حضر، وسألت: أين المدرسة وأين تلاميذها؟ فسبّوا الحكومة وشتموا المعلّم، وفهمت من كلامهم أن الوزارة لم تستأجر داراً للمدرسة، ولا صنعَت ولا صنع المعلّم شيئاً للقرية. وتلقّيت أنا هذه الشتائم بوصفي الموظف الحكومي الوحيد بينهم!
وكان الناس قد تواردوا على «المضافة» ليروا هذا المعلّم العجيب الذي بلغ حبّه التعليم وشغفه به أن يخوض إليه الثلج ويلتحف البرد ويتعرض للمهالك. فلما كثر عددهم قمت فألقيت عليهم خطبة نارية مجلجلة، أثرت بها وطنيتهم ونبّهت إيمانهم وحيّيت بطولتهم ورجولتهم، ورغّبتهم بالعلم ليكون من أبنائهم من يحتلّ هذه الكراسي التي يقتَعِدُها الجواسيس والمنافقون من رجال السلطة وأذناب الاستعمار.
وما إن انتهيت حتى صرت عندهم شيئاً آخر غير الذي رأوه أول مرّة. واستأذنتهم أن أرجع اليوم وأعود إليهم إن شاء الله بعد أن تُفتح المدرسة وتستكمل عدّتها. ولم أرجع ماشياً، بل تطوّع واحد منهم عنده سيارة فحملني إلى قلب صيدنايا.
* * *
هل كان يخطر على بالي يومئذ أنها ستمرّ إحدى وخمسون
سنة، وأني سأكون في مكّة، وأني أذكر تلك الأيام وقد انطفأت حرارة ألمي منها حتى لأتحدث عنها كأن غيري هو المُصاب فيها؟
كنت أراها في حينها هي الواقع كله، كنت أحسب أنها آخر الدنيا وأنه كُتب عليّ تجرّعها وإن لم أسِغْها، فالحمد لله أن جعلها مجرد ذكرى وصيّرها حديثاً يُروى. فليأخذ المتألمون المعذَّبون العبرة من هذا الذي أقول، فما أسرد خيالات ولا ألقي مواعظ، بل أروي لهم ما وقع لي. وسيأتي على هؤلاء المتألمين المعذَّبين بمرض ينغّص عليهم عيشتهم، أو فقر ينكّد عليهم أيامهم، أو سجن ظالِم يقيّد أيديهم ويحرمهم أهلهم وأولادهم، أو عذاب مستمر من جبّار آثم يغاديهم به ويماسيهم
…
سيأتي عليهم يوم يكون فيه هذا كله ذكرى في النفس وحديثاً في المجالس.
ومهما اشتدّ الضيق فالفرج موجود. اقرؤوا ما كتب الأستاذ مصطفى أمين عمّا قاسى في سجنه، وما كتب غيره عمّا في سجون الظالمين ومعتقلات المجرمين، وها هو ذا قد نجا منها ورجع يكتب والتفاؤل ملء بردَيه والأمل يظهر على سنّ قلمه.
وإن لم يرَ البائسُ الفرح في الدنيا، فما الدنيا؟ أيام معدودة، وإن الحياة الباقية لهي الحياة الآخرة، وهنالك يعوَّض المظلوم تعويضاً يرضيه، ويرى الظالم ما قدّم لنفسه.
* * *