المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجمع الأدبي في دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌المجمع الأدبي في دمشق

-66 -

‌المَجْمَع الأدبي في دمشق

في هذه الأيام التي أكتب عنها عاد من أوربّا منير العَجْلاني يحمل الدكتوراة في الحقوق. ولم يحمل هذه الشهادةَ قبله إلاّ قليل من أهل الشام من أقدمهم أستاذي كامل نصري، ونجيب الأرمنازي، وكامل عيّاد. أما الأطباء فيحملون الدكتوراة لقَباً بلا شهادة، ولم يحصل على الشهادة فيما أعلم أحدٌ قبل عارف صدقي الطَّرَقْجي الذي جمع دكتوراة الطبّ والحقوق معاً.

ولم نكن نفرّق بين شهادات الدكتوراة حتى كتب منير العجلاني فبيّن أن في فرنسا نوعين منها: دكتوراة الدولة وهي المعتبَرة، ودكتوراة الجامعة. وعلمنا بعدُ أن في ألمانيا (التي تخرّج فيها نصري وعياد) نوعين منها أيضاً. ونوع ثالث موجود في فرنسا وألمانيا وأمريكا وكل مكان، وهو شهادة دكتوراة ولكنها مثل شهادة الزور أمام القاضي، تُشترى بالمال ولا تقترن بالعلم، ادفع تجد من يكتب لك الرسالة من الأساتذة وتجد من الأساتذة من يضمن لك الفوز في مناقشتها، وكل شيء له ثمن، فمن دفع الثمن نال ما يطلب وعاد يغشّ به البشر.

ص: 377

عرفت منير العجلاني قبل أن ألقاه من مقدّمته التي كتبها لرواية «سيد قريش» ، بأسلوب ناعم رشيق مملوء بالأمثال والشواهد من الأدب الفرنسي، تدلّ على أنه متمكّن منه وأنه قد خالط نفسه وعايشه. أسلوب لا أدري لماذا يذكّرني كلما قرأته بصوت فيروز: فيه كل مزايا الأصوات القادرة المعبّرة لكن بمقياس صغير صغير، كأنك ترى المنظر الجميل بالمنظار المقرّب، ولكن من الجهة الأخرى، فترى المنظر كله ولكنْ مصغّراً بدلاً من أن تراه مكبّراً.

وقد كان له نشاط بين الطلبة في فرنسا، فلما عاد أراد أن يصنع شيئاً، لم يستطع أن يقعد خاملاً، فجمع أدباء الشباب ممّن هم في سنّي وسنّه ومَن هم أكبر قليلاً، وجعل يحدّثنا عمّا جدّ في الأدب، يحدّثنا عن الشعر الصافي (1) وعن المذاهب الجديدة وأهلها. وكان يجمعنا في مكتب أخيه المحامي في عمارة العابد، أقدم وأضخم (وإن لم تكن أعلى) عمارة في دمشق، يقدّم لنا أطيب المرطّبات وأنفس الحلوى. ثم انتقلنا من الأحاديث المتفرّقة في الأدب والمناقشات والمناظرات إلى اقتراح إنشاء نوع من الروابط بيننا، جمعية أو لجنة أو رابطة. واختلفنا وأمضينا وقتاً طويلاً في الاتفاق على اسم نسمّيها به، أي أننا نسجّل اسم الولد في دوائر النفوس قبل أن يولد وقبل أن نعرف هل المولود ذكر أم أنثى! ومرّت عدّة اجتماعات لم نملّ منها ولم تعزف نفوسنا عنها، لأن المرطّبات والحلويات مستمرّة، وهذا هو المطلوب. ثم اقترحت أنا (أذكر ذلك تماماً) أن نسمّي ما نحن فيه «المَجمع

(1) poesie pure.

ص: 378

الأدبي» ليكون في الاسم -إن لم يكن في الفعل- موازياً للمجمع العلمي، ووافقوا على الاسم ولم يبقَ إلاّ معرفة المسمّى.

و «المَجْمَع العلمي» في دمشق أقدم المجامع العربية، أسّسه أستاذنا محمد كرد علي سنة 1920، وبُدِّل اسمه أيام الوحدة مع مصر فسُمّي «مجمع اللغة العربية» . «المجمع الأدبي» اسم جميل موافق. ولكن ما عمله؟ ومرّت أسابيع أخرى ونحن نتساءل عن عمله لنجعل ما نتفق عليه «غاية» ونضع للوصول إلى هذه الغاية طريقاً و «منهجاً» ، ثم ننتخب اللجان.

ودعوني أنقل لكم فقرة من مقالة كانت إحدى حلقات سلسلة «من رسائل الصيف» التي كنت أنشرها في جريدة «ألف باء» سنة 1933، قلت فيها:

"وانتخب السادة منير العَجْلاني سكرتيراً أو ناموساً، ومحمد الجيرودي خازناً، وأنور العطّار وسعيد الأفغاني وميشيل عفلق وعلي الطنطاوي أعضاء إداريين، وسليم الزّركلي وجميل سلطان وحلمي اللحّام وزكي المَحاسني ومصطفى المَحايري أعضاء عاملين.

هؤلاء الأعضاء المؤسّسون انضمّ إليهم السادة كامل عياد ومصطفى العظم وأنور حاتم وإبراهيم طوقان وآخرون. أما غاية المجمع فهي إيقاظ الروح الأدبية في هذا البلد، والتعاون على الإنتاج، ومساعدة كل أديب نابغ أقعده عارض من عوارض الدهر، وإنشاء أدب جديد قوي.

ص: 379

والتجديد كما نفهمه (أو كما أفهمه أنا على الأقلّ) لا يكون بقطع الصلة بالماضي، ولا بالخروج على قواعد اللغة وسنن العرب في كلامها، ولا بالدعوة الحمقاء إلى العامّية، ولا بأن نعمد إلى عقود الشعر فنقطع خيوطها وننثر حبّاتها ونأتي بشيء لا هو بالنثر ولا هو بالشعر؛ بل أن تبقى اللغة عربية سليمة من العلل، بليغة قوية بعيدة عن الركاكة والضعف، ونصبّ فيها بعد ذلك ما شئنا من أساليب جديدة وأفكار جديدة، أي أن نصنع ما صنع أجدادنا في العهد العبّاسي حين ترجموا كتب اليونان والفرس فجعلوها عربية، ولم يجعلوا لغتهم من أجلها يونانية ولا فارسية ولا لغة ممسوخة مسخاً، هي من أصلها العربي كالقرد الذي كان إنساناً فمُسخ قرداً أو خنزيراً (1).

هذه اللغة القردية التي نراها في المجلاّت، تترجم عن الإنكليز والفرنسيين أدبهم، تنقله إلينا كما يُنقَل التمثال البديع لكن بعد كسره، لا تنقله تمثالاً بل رفات تمثال! وقد أنفق ساعة من وقتي أحاول أن أفهم صفحة منه ثم لا أفهمها".

هذا كلامي في مقالة منشورة قبل نصف قرن كامل، أي قبل أن يولد هذا المولود المشوَّه الكريه الذي اسمه «الشعر الحرّ» ، الذي سكرت أبصار الناس حتى رأوا فيه حَسَناً ما ليس بالحَسَن، وما هو إلاّ مسخ للشعر كما مُسخ من قبلُ قوم بيغن وشارون.

* * *

(1) المسخ الوارد في القرآن: من العلماء من قال إنه مسخ حقيقي ولكن من يُمسَخ لا يعيش إلاّ قليلاً ولا يكون له نسل، ومن قال إنهم مُسخوا في أخلاقهم وسلوكهم فصارت كصفات القِرَدة والخنازير.

ص: 380

كان عليّ وأنا أكتب عن «المجمع الأدبي» بعد هذا الأمد الطويل أن يكون تحت يدي ما أذكر به ما نسيت وما أستشهد به على ما أذكر، فلقد فتح له صاحب «القبس» الأستاذ نجيب الريّس صفحة كاملة في جريدته، نُشر فيها شعر كثير وأدب كثير ليس عندي شيء منه الآن، وإن كان قد بقي منه شيء فهو عند الدكتور منير، فهل يكتب هو ذكرياته؟ وهل ينصرف أحد طلاب كلّية الآداب فيعدّ رسالة ماجستير عن الأدب الشامي في ذلك العهد؟

لقد كان منّا نحن الشباب (أعني الذين كانوا شباباً قبل خمسين سنة) أصحاب أقلام وقرائح، وكانت لهم في الأدب آثار تستحق العناية والدرس، وإن كانوا يتنازعون الصدارة في هذه الصفحة الأدبية يختلفون على من تُنشر مقالته أولاً، مع أن تقديم النشر لا يرفع القدر، والصدر حيث يكون الصدر، والتافه لا ينفعه التقديم والجيد لا يضره التأخير.

جمع هذا «المجمع الأدبي» المتفرقين وحاول أن يؤلّف بين المختلفين. ماذا يجمع بين علي الطنطاوي وسعيد الأفغاني، وبين ميشيل عفلق وأنور حاتم؟ إن الماء والزيت تخضّهما فيختلطان، ولكن حين تدَعهما يفترقان، وكذلك كان. بقي في المجمع الأدباءُ الذين تربّوا على أدب القرآن وعلى نهج البُلَغاء من الأدباء، وخرج مَن هُم أميَل إلى غير ذلك فألّفوا لأنفسهم جماعة أظن أنهم سَمّوها «ندوة المأمون» .

وقامت حرب أو شبه حرب بين فكرتين وأسلوبين. وكنت قد اعتزلت الكتابة في الصفحة الأدبية، فلما حمي الوطيس

ص: 381

واشتدّت المعركة جاؤوا إليّ لأخوضها، فكتبت مقالات لا أرتضي الآن أسلوبها لأن أكثرها كُتب على طريقة شيخنا الرافعي، بل وأستاذنا العقّاد أيضاً، وكان ذلك الأسلوب رائجاً وكان يومئذ معروفاً غيرَ منكَر.

وقد ضاعت هذه المقالات إلاّ واحدة وجدتها في دفتر كتبه أخي عبد الغني، أنقل بعضها لأمثّل به لأسلوب النقد في هاتيك الأيام عنوانها:«المجمع الأدبي وخصومه: نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُ أمةً من الذباب بضربة من جناحه» .

وقد قدّمَت لها الجريدة مقدّمة قصيرة بقلم منير العجلاني، أنقلها بنصّها وإن لم يحسن بي أن أنقل مدحي بنفسي، قالت:

قدمنا إلى قُرّائنا طائفة من أعضاء المجمع الأدبي الذين تلطّفوا بمؤازرة «القبس» بمقالاتهم وأشعارهم، ولكن النّقادة الأديب الأستاذ علي الطنطاوي طلب منّا أن ننشر مقاله بلا تمهيد ولا تقديم، فنحن نجاريه في رغبته على إعجابنا الشديد بأسلوبه العالي وأدبه القوي، وقال الطنطاوي:

تفنّدني فيما ترى مِن شراستي

وشِدّةِ نفْسي أمُّ عمروٍ ولا تدري

فقلت لها: إنّ الكريمَ وإنْ حلا

لَيلقى على حالٍ أمرَّ من الصّبرِ

وفي اللينِ ضَعفٌ والشراسةُ قوّةٌ

ومَن لا يهَبْ يُحمَلْ على مَركَبٍ وَعْرِ

ص: 382

وما بي على مَن لانَ لي منْ فظاظةٍ

ولكنّني فظٌّ أبيٌّ على القَسْرِ

وبعد، فقد طالما لنّا لهؤلاء الذين ينخرطون في أمر الأدب، ويدخلون فيه وما هم من أهله، ويتجرؤون على هذا المَجمع وينطحون صَفاتَه (1)، ولم نحبّ أن يكون بيننا وبينهم جدال خشية أن يُظَنّ أنّا منهم أو أنهم منّا، فخلّينا بينهم وبين ما يريدون وكنّا وإياهم كما قال الأول:

وكمْ قائلٍ: ما لي رأيتُكَ راجلاً؟

فقلت له: مِنْ أجلِ أنّكَ راكبُ

حتى إذا أكثروا علينا وحسبوا سكوتَنا عجزاً وترفّعَنا جُبْناً، لم نجد بُدّاً من أن نريَهم شيئاً من غِلظتنا كما أريناهم «أشياء» من ليننا. ونحن ما أنشأنا هذا المجمع الأدبي إلاّ لأن طائفة من الناس ادّعت هذا الأدب (وما الدعيّ كالصحيح النسب)، وبَعْبعَت بغير علم، وظنّت أن كلّ من أمسك بقلم وخطّ في صحيفة كان كاتباً نحريراً.

(إلى أن قلت): وإذا أنت سألته: ما الدليل على أنك كاتب أديب؟ قال: لأني نشرت كيت وكيت في صحيفة كذا وكذا. فإن قلت: فلماذا نشرت ما نشرت؟ قال: لأني أديب كاتب. فهو أديب لأنه نشر مقالات، وهو قد نشر مقالات لأنه أديب! أما أن يقرأ كما يقرأ الأدباء ويدرس كما يدرسون، فيتقن النحو والصرف

(1) الصفاة الصخرة، ومثلها المَرْوة والصَّفْوان والمَروان، كله بمعنى واحد.

ص: 383

ويتمكن من اللغة ويدمن النظر في آثار البلغاء ويمسك بأسباب البيان، فهذا ما لا يخطر له ببال.

وكثرت هذه الطائفة وانتشر بلاؤها، وملأت الصحفَ بآثارها والمجامعَ والمجالس بأحاديثها، وطفقَت تكتب في الأدب، وما كتابتها إلا كصلاة حارثة الذي قال فيه الشاعر:

ألم ترَ أن حارثةَ بنَ بدرٍ

يُصَلّي وهْوَ أكفرُ من حمارِ

(وأقول الآن: إن الحمار لا يكون كافراً؛ لا يكفر إلاّ الإنس والجن لأن الله أعطاهما حرّية الاختيار وسلوك أحد طريقَي الجنّة أو النار، وسائر المخلوقات مطيعة الله تتبع ما فطرها عليه وتسعى إلى ما سخّرها إليه، كلّها يسبح بحمده {ولكنْ لا تَفقَهون تَسبيحَهُم}).

أعود إلى المقالة: فأنشأنا هذا المجمع وانتخبنا له خير أدباء الشباب (1)، وقلنا للناس: هذا عملنا، فمَن عمل مثله فهو مثلنا، ومن عمل خيراً منه فهو خير منّا، ومن عمل دونه فهو دوننا، لا فضل لأحد على أحد إلا بفضل عمله. وحفظنا لشيوخ الأدب في البلد أقدارَهم ولم يفكر واحد منّا في انتقاصهم والتسميع (2) بهم. نستغفر الله، أننتقص شيوخنا وأساتذتنا؟ إنّا إذن لقوم سوء. ولا نزعم لأنفسنا احتكار الأدب ولا الاستئثار به، وهل الأدب بضاعة تُحتكَر؟ نقول هذا صادقين ونعلنه، فمَن لم يفهمه أو لم يُرِد أن يفهمه فما علينا من إثمه شيء:

(1) وردت كلمة الشباب جمع شابّ، والأشهر أن نقول شُبّان.

(2)

سمّع به: أشاع عنه قَالةَ السوء.

ص: 384

عليَّ نحتُ القوافي من معادنِها

وما عليَّ إذا لم تفهمِ «البشرُ»

أو «البقر» كما قال الشاعر! وما علينا شيء من الإثم إذا كان في البلد قوم لايرضون عن المجمع إلا إذا جعلناهم أعضاء فيه، ونحن لا نقدر على ذلك لأنه مجمع «أدبي» وما هم من الأدباء. وليس في طوقنا إرضاء الناس جميعاً، ولكن في طوقنا أن نعمل ما نستطيع، وأن نسمع ونطيع لكل ناقد ناصح ينطق بالحقّ ويَهدي للّتي هي أحسن، ونقول له مقالة الرجل العظيم عمر:«رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي» . أما الذين لم يتعلموا من «النقد» إلاّ باب السبّ والشتم فلا نحفل بهم، ولا نقيم لهم وزناً، ولا نرد عليهم، ولا نقابل قولهم بمثله:

ومَنذا يعَضُّ الكلبَ إن عَضّهُ الكلبُ

بل نقنع من رضا الناس برضا عقلائهم وذوي الرأي فيهم:

إذا رَضِيَتْ عنّي كرامُ عَشيرتي

فلا زال غَضباناً عليَّ لئامُها

هذا منطق المجمع وذاك منطق خصومه؛ ندعوهم إلى نقدنا النقد الصحيح فيسبّوننا السبّ البذيء، ونقول لهم: اعملوا ونحن معكم، فيقولون لنا: اعملوا أو لا تعملوا فنحن عليكم. فاحكموا -يا أيها القراء- بيننا. دلّونا على الرجل العالِم البليغ بين خصوم المجمع وأنا أناظره علَناً، وأعده أمامكم وعداً صادقاً أنني أخضع للحق إن ظهر أن معه الحقّ.

دلّونا على العاقل بينهم يأخذ على المجمع زلّة أو يخالفه في مسألة، يثبت أنه هو المصيب فيها ونحن المخطئون، لندَع خطأنا

ص: 385

ونعود إلى صوابه. يقولون: حفلة المازني. أنا لم أحضر الحفلة التي أقامها المجمع لتكريم المازني في دمشق ولكن إخواني حضروها، فقولوا لي ما الذي أخذتموه عليها حتى أميل معكم إلى الحقّ الذي تقولونه، أو تميلوا أنتم عن الباطل الذي تفترونه.

أما السبّ والشتم فنحن -والله- أقدر عليه لو أردناه، ولا يُعجِزنا إذن أن نكيل لهم الصاع سبعة أَصْوُع وأن نَحْطِمهم كما يحطم النسر أمة من الذباب بضربة من جناحه:

ولي فرَسٌ للحِلْمِ بالحِلْمِ مُلجَمٌ

ولي فرسٌ للجهلِ بالجهلِ مُسرَجُ

فمَنْ رامَ تقويمي فإني مقوَّمٌ

ومَنْ رامَ تعويجي فإني مُعَوَّجُ

ولكنّا لا نحب أن نعجّل عليهم بالشرّ، وما نحب أن نكون من الجاهلين.

على أن سبل النقد واضحة لمن يعرفها. وللنقد قواعد يُعتمَد عليها وآداب يُرجَع إليها، وفي المجمع كتّاب وفي المجمع شعراء، فهَلُمّوا انقدوا كتابتهم وشعرهم وبيّنوا مواضع النقص ومواطن الخطأ والانحراف فيها. وما كتبه خصوم المجمع إلى الآن ليس من النقد الفني في شيء، وإنما هو هجاء بذيء ولغط وهذَيان، وليس من النقد الفني ما جاء في مجلة «الدهور» على التخصيص، وما هو إلا مجموعة من الخطأ في الفكر واللحن في اللغة والركاكة في التعبير، وهو دليل على سوء النيّة وقلّة البضاعة، فاستحيوا فإن الحياء من الإيمان، واكتموا حسدكم

ص: 386

واكظموا غيظكم، واستروا نقدكم هذا كما تستر الهرّة ما يخرج منها وتغطّيه بالتراب

ولعلّ الذي يخرج منها أقلّ نجساً وقبحاً من الذي يخرج من ألسنتكم وأقلامكم!

* * *

وكانت بدايةَ معركة هي إحدى المعارك القلمية الكثيرة التي خضت غمارها، وقد بقي عندي من الصحف التي فيها ما كتبت في هذه المعارك ما يملأ كتاباً كبيراً، أعددته للطبع وكنت أنوي أن أسَمّيه «مناظرات وردود» ثم آثرت ألاّ أخرجه للناس الآن. ولو كان تحت يدي ما كتبت في معركة المجمع هذه وما كتبوا لصوّرت المعركة للقراء، ولكني لم أجد الآن شيئاً من ذلك إلاّ صفحة مصفرّة قديمة من «القبس» عليها صورتي (في تلك الأيام)، وتحت الصورة كلمات قدّمت بها الجريدة لإحدى مقالاتي في هذه المعركة، وفوقها صورة إبراهيم طوقان الشاعر العبقري (عضو المجمع الأدبي) ومقطوعة شعرية له، وجدت مقدّمة المقالة ولم أجد المقالة نفسها.

* * *

ومن المعارك الصغيرة معركة كانت في تلك الأيام بيني وبين ماري ينّي، وهي أديبة فلسطينية أو لبنانية (لم أعُد أتذكّر) وأظنّ أنها كانت صاحبة مجلّة نسائية، وكان موضوع المناظرة أو المعركة «المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة» . جادلتها بالتي هي أحسن وسُقت لها الأدلة والحُجَج، فلما رأيت أن ذلك كله لم يُفِد معها ملت إلى السخرية، فقلت لها (والمقالة منشورة في صحيفة

ص: 387

«ألف باء» ): "الآن حصحص الحقّ وتبيّن أني أنا المخطئ وأنت «المُصيبة» (والدنيا لا تخلو من المصائب)، لذلك أرجع عما قلت إلى ما قلتِ أنت، وسأُعِدّ عريضة وأقف في رأس سوق الحميدية وأوقّعها من الرائح والغادي، وأرفعها إلى الحكومة لتأمر بتحقيق هذه المساواة الكاملة، وتُصدِر قانوناً مستعجَلاً يُلزِم الزوج أن يحبل سنة وتحبل المرأة سنة، ويُرضِع هو الطفل سنة وتُرضِع هي سنة؛ إذ لا يُعقَل ولا تتحقق المساواة بأن يعملا معاً في الإدارة أو في المصنع ويحمل كل منهما على عاتقه نصيبه من العبء، وتحمل هي فوقه في بطنها ما لا يحمل في بطنه مثله. وإلى أن يصدر هذا القانون ويُطبَّق فعلاً، أقطع هذه المناظرة معترفاً بأني قد انهزمت وأني غُلبتُ، وأنها هي التي غلبَت وانتصرَت".

* * *

هذا هو «المجمع الأدبي» : جمع أشتاتاً وضم نقائض، وحاول أن يخالف طبائع الأشياء فيمزج الزيت بالماء في سائل واحد متماسك مؤتلف.

وأين الآن أعضاؤه؟ أمّا أنور وجميل وزكي وطوقان فقد قدّموا للأدب العربي في هذا العصر أجمل ما قدروا عليه من شعر، ثم مضوا إلى حيث يمضي كل حيّ، وبقيَت أشعارهم تحت أنظار الناقدين والدارسين. وأمّا سليم الزِّرِكلي وهو الشاعر المجوّد، وسعيد الأفغاني الباحث الذي انتهت إليه الصدارة في علم النحو في الشام، ومنير العجلاني الأستاذ الأديب، وعلي الطنطاوي فهم باقون يسألون الله دوام العافية وحسن الخاتمة،

ص: 388

ومثلهم محمد الجيرودي وإن شغلَته المحاماة عن الأدب فهجره من قديم. وأمّا عفلق فتعرفون عنه ما يُغنيكم عن الكلام فيه، وكامل عياد شغلَته الفلسفة وتدريسها منذ كان، ما كان أديباً قط، وأنور حاتم سمعت أنه اليوم أستاذ للأدب الفرنسي في جامعة من أكبر جامعات فرنسا، أظن أنها جامعة ليون. عربي نصراني يعلّم الفرنسيين الأدب الفرنسي! وهو أنبغ مَن عرفت من أصحابنا في الفرنسية، ولقد اتفقنا مرّة أن أعلّمه العربية ويعلّمني الفرنسية، ولم نستمرّ على ذلك طويلاً. وممّن أتقن الفرنسية من أصحابنا ظافر القاسمي، وهو ابن أستاذ أساتذتنا الجمال القاسمي.

كان «المجمع الأدبي» تجرِبة مثل تجرِبة «الرابطة الأدبية» التي أشرت إليها في هذه الذكريات، ورجال المجمع أعرق -في الجملة- في الأدب وأقدر على النظم والكتابة من أعضاء الرابطة، حاشا الأجلاّء منهم: كسليم الجندي وخليل مَرْدَم وعزّ الدين التنوخي وأمثالهم، ولكن الرابطة أصدرت مجلّة حفظت بعض إنتاجها ونحن كتبنا في الصحف اليومية فلم تُحفَظ ولا حُفظنا.

وفي هذه السنة (1933) كان حدث كبير في تاريخ الأدب العربي في هذا العصر، حدث مبارَك كانت له ثماره الطيبة وآثاره العظيمة، هو صدور مجلّة «الرسالة» . وفي الحلقة القادمة -إن شاء الله- الكلام عن ذكرياتي عنها.

* * *

ص: 389