الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-61 -
في مدرسة سَقْبا
بدأت فصلاً جديداً من سجلّ حياتي. وحياةُ الإنسان فصول كفصول المسرحية، تتبدّل فيها المشاهد ويتغير الحوار ولكن الموضوع واحد. لقد صرت أغدو كل صباح على سقبا وأروح منها كل مساء. وسَقْبا إحدى قرى أربع متجاورات: هي وحمورية وكفر بطنا (1) وجِسرين، في إقليم من الغوطة كان يُسمّى «إقليم داعية» ، يسقيه فرع من فروع بردى اسمه الداعياني. وهذه النون موجودة في النسبة إلى أكثر قرى الغوطة، وأظنها نسبة آرامية، وأكثرها ذكره الأولون في أشعارهم وكتبهم، وما منها إلا وقد خرج منه علماء وأدباء نُسبوا إليه. وإذا رجعتم إلى معجم البلدان لياقوت رأيتم أسماءها وأسماءهم: سَقبا وكفر بَطنا وكفر سوسية
(1)«الكَفْر» بمعنى القرية، وفي الشام أمكنة كثيرة بهذا الاسم: كفر بطنا، كفر يَبوس (منسوبة إلى اليبوسيين)، كفر طاب، كفر سوسية، وقد نُسب إليها جماعة من الأعلام (والنسبة إليها «كَفَرْسوسي» ويقال اليوم «كَفَرْسوساني») وآخر من عرفنا من العلماء من أهلها الشيخ محمود العطّار، وقد صارت الآن حياً من أحياء دمشق. وفي مصر كفر الزيات وغيرها.
والمَنيحة (ويدعونها اليوم المليحة، ويزعمون أن سعد بن عبادة مدفون فيها مع أنه مات في المدينة) وزَمَلكا ومَسرابا، وهي حديقة ورد يُزرَع فيها الورد الجوري الأحمر الذي لا نظير له في لونه ولا في عطره (والجوري منسوب في الأصل إلى مدينة قرب شيراز اسمها جور) وبَلاط (وكانت تُدعى بيت البلاط) وداريّا بلد العنب الفاخر ويُنسَب إليها أبو سليمان الداراني (1)، وقرى أُخَر ما كتبت هذا الفصل لإحصائها ولا لوصف جمالها وبهائها، ولا لرواية ما قيل فيها من الشعر ومن خرج منها من العلماء، إنما جاء ذكرها عرَضاً. وكبرى هذه القرى دُوما التي يسمّيها ياقوت «دومة» ، وقد اتصلَت اليوم بدمشق، أما القرى القريبة منها (جوبَر وكفر سوسية والمِزّة والقَدَم والقابون) فقد أصبحَت أحياء في دمشق.
والطريق الذي كنت أسلكه كل يوم إلى سقبا ومنها لا يزيد طوله عن سبعة أكيال، أي ربع طول مدينة جدّة، والسير فيه يُنعِش النفس ويمتع البصر، ولكنه يخضّ البدن ويُقَضقض العظام، لأنه طريق وعر لا تمشي فيه السيارة مشياً بل ترقص رقصاً، ولكنه رقص بلا اتّساق وعلى غير إيقاع. أمّا متعته فلأنه يضطجع على بساط ممدود على هذه الأرض المبارَكة، على جانبَيه الأشجار صفوفاً وراء صفوف لا يدرك البصر آخرها، كأنها الجند قامت تحيّي القادمين، تظلّل حواشيه فروعُها المزدانة ببارع الزهر أو يانع الثمر، وتمرّ بها في السيارة متقدماً فتبصرها تمرّ بك هي
(1) قلت: وإليها تُنسَب عائلتنا؛ زعموا أن جداً لنا كان يسكن حي الميدان في دمشق تزوج امرأة من داريّا، فنَسَب أهلُ الميدان أولادَه منها إليها فقالوا: أبناء «الدّيْرانيّة» ، فمشى الاسم، والله أعلم (مجاهد).
راجعة، كالراكب في القطار يرى المزارع والقرى تمشي ويرى نفسه قاعداً، وكالواقف في المصعد يبصر البيوت هي التي تنزل لا يشعر أنه هو الذي يصعد. والحركة والسكون من الأسرار التي نظنّ أننا كشفناها وما كشفناها، ولو لم يكن في الفضاء إلا نقطتان تتحركان فكيف تعرف أي النقطتين هي الثابتة وأيتهما المتحركة؟ كيف؟ إنك لا تميّز فيهما الحركة من السكون إلا إن كان أمامك نقطة ثالثة ثابتة تقيسهما بها وتنسبهما إليها، فالحركة والسكون أمران نسبيّان لا نعرف «ماهيّتهما» ولا ماهيّة المكان المطلَق ولا الزمان.
* * *
ولمّا بلغتُ سَقبا تركت السيارة ومشيت في مسالك بين البساتين، ثم في حارات بين البيوت، حتى بلغت ساحة صغيرة في طرق القرية. أمّا الساحة الكبرى فكان فيها السوق، ووسط السوق المسجد، وكانت المدرسة في هذه الساحة الصغيرة، وهي حسنة البناء رحبة الفناء، في غرفة منها قبر عالٍ يزعمون أنه قبر عبد الله بن سلام.
وعبد الله بن سلام مات في المدينة، ولكنك إن قلت هذا لهم كرهوه وغضبوا منه، كما يغضب أهل دمشق إن قلت لهم إن القبر القائم في الجامع الأموي في غرفة من الرخام بلغت الغاية في الإبداع وفوقها قبة ما رأيت قبة أجمل ولا أرشق منها، يغضبون إن قلت لهم إنه ليس قبر يحيى بن زكريا. ولمّا ألّفت كتابي عن «الجامع الأموي» رجعت إلى ما أعرف من كتب التاريخ وبعثت
من سأل علماء النصارى من جميع الفرق، فما وجدت دليلاً ولا شبه دليل على أنه قبر يحيى عليه السلام، إلا خبراً عند ابن عساكر ما له سند ولا عليه دليل
…
وكما يغضب أهل مصر إن قلت لهم إن رأس الحسين ليس مدفوناً في مسجده المعروف في القاهرة، أكّد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجاء بالأدلة عليه. كما أن في دمشق قبراً في آخر شارع خالد بن الوليد مكتوباً على باب تربته أنه قبر عمر بن عبد العزيز، مع أن عمر مدفون في دير سمعان الذي قيل فيه:
يا ديرَ سمعانَ قُل لي: أينَ سمعانُ؟
…
وأينَ بانوكَ؟ خبِّرني: متى بانوا؟
وأينَ سكّانُكَ اليومَ الأُلى سلَفوا
…
قد أصبحوا وهُمُ في التُّرْبِ سكّانُ
وقَفتُ أسألُهُ جهلاً ليُخبِرَني
…
هيهاتَ مِنْ صامتٍ بالنّطقِ تبيانُ
أجابَني بلسانِ الحالِ: إنهمُ
…
كانوا، ويكفيكَ قولي: إنهم كانوا
وما كنت أعرف مكانه على التعيين حتى علمت من أيام من الأستاذ خالد الحراكي (والد زوج حفيدتي) أنه إلى جنب بلدهم: مَعَرّة النُّعمان (1)، مع أن المشهور المتعارَف أنه بقرب حمص.
* * *
(1) المعرة التي يُنسَب إليها أبو العلاء، ولعله اسم آرامي بمعنى المغارة=
وكان في المدرسة ثلاثة صفوف ولها مدير ومعلّمان وآذِن (فرّاش)(1)، فلما جئتها جاؤوا كلهم معي، ولمّا دخلت بابها دخلوه معي لأنهم كانوا جميعاً في ثيابي، فأنا المدير وأنا المعلّمان وأنا الفرّاش! فكأني ما جئت مدرسة سقبا بل دخلت بهو المرايا في «فرساي» ، وما أكثر الذين يعيشون وكأنهم في قصر فرساي في بهو المرايا، حيثما تلفّت الواحد منهم ما رأى إلاّ نفسه!
فكيف أقسّم نفسي أنفساً ثلاثاً فأعلّم ثلاثة فصول في وقت معاً؟ أنا بحمد الله مسلم عاقل لا أستطيع أن أفهم كيف يكون «1+1+1=1» كما يزعم القائلون بالتثليث، فماذا أعمل؟ كنت أعرف من أهل سقبا رجلاً طالب علم كان «مزيّناً» اسمه الذي نعرفه به أبو رضا السّقباني، والمزيّن في الاصطلاح الشامي هو الذي يختن الصبيان، فسألتُه فدلّني على شيخ كتّاب في القرية اسمه الشيخ حمزة، وكان أشلّ يعمل بيد واحدة ولكنه رجل صالح يُحسِن تعليم القراءة والقرآن، وأنا لا أحتاج إلى يده ولكن إلى عقله ولسانه، وأحتاج قبلهما إلى قلبه وإيمانه، لأن أكبر ذنب في التربية والتعليم نرتكبه (والله سائلٌ مرتكبَه عنه ومجازيه به)
= وفي الغوطة أسماء فينيقية مثل دمر وأصلها دامور وتامور باسم إله لهم مزعوم، وبلاط (بالبيت)، ومثلها فليطة ومعربا ومعناها المغرب، وأسماء حثية مثل الغوطة وقَطَنا (وأصلها كنا وكنتا)، وأسماء يونانية الأصل مثل الفيجة ومعناها الينبوع، ورومانية الأصل مثل قلمون وبانياس، وما أصله فارسي مثل جوبر (جويبار) ومنين.
(1)
نحن نقول له في الشام الآذن، وهو أقرب إلى مصطلح الأقدمين، وفي مصر والسعودية يقولون فرّاش.
هو أن نسلّم الولد أو نسلّم البنت، وقلوبهما صفحات بيض، إلى معلّم لا يخشى الله أو معلمة لا تتقيه، فينقشا عليها سطور الشكوك والعصيان بدلاً من كلمات الاستقامة والإيمان. والمعلّم مهما بلغ من سعة العلم وكِبَر الشهادات وبلاغة اللسان لا يكون في خير إن لم يكن له -مع ذلك- المعرفة بالشرع والإخلاص لله.
جئت به وسلّمته الصفّ الأول (أي تلاميذ السنة الأولى)، وأذنت له أن يجيء معه بتلاميذ الكتّاب وأن يأخذ منهم (بموافقة أوليائهم) ما كان يأخذه في الكتّاب، واشترطت عليه إشرافي على عمله، فقبل الشرط، وتوجّه حيث وجّهتُه فبدّل طريقته في التعليم. وكان ديّناً ذكياً يحب أن يتعلم كما يحب أن يعلّم، فاستفاد وأفاد. وما فعلته عن أمري لكن بعد استئذان وزارة المعارف، أعني المفتّش العام فيها، وهو العالم المربي الفاضل الذي كان أستاذنا في السلطانية الثانية سنة 1919 مصطفى تمر، أحد الجنود المجهولين في عالم التربية والتعليم، وليس يضره إن جهل الناس قدره وأنكروا فضله، فلقد كان يعمل لله والله لا يضيع أجر من يعمل له.
* * *
لقد علّمت سنين قبل أن آتي هذه القرية، ولكني كنت أعلّم في مدارس أمرُها إلى غيري، لم أكُن أملك إدارتها ولم يكن لي الحكم فيها، وهذه أول مرّة أتسلّم فيها مدرسة فيها أكثر من مئة من الأولاد، يأخذون مني ما أعطيهم ويسمعون ما أقوله لهم ويسيرون من حيث سيّرتهم، فأحببت أن أكون لهم كما كان
أفاضل أساتذتي لي ولرفاقي؛ لا أجعل عملي كله أن آخذ ما في كتبهم المقرّرة فأحشو به أدمغتهم وأسجّله على ذاكراتهم، حتى يؤدّوه يوم الامتحان كما تَسلّموه ساعة الدرس، ثم يُمحى منها فلا يكاد يبقى منه أثر فيها
…
هذا الذي تريده مني وزارة المعارف وتكافئني عليه وتقنع مني به، ولكن الله يريد مني أن أراقبه فيهم وأن أدلّهم عليه وأرشدهم إلى ما يرضيه منهم، وأجعل منهم أعضاء في جسم الأمّة سليمة من العلل قائمة بالعمل، لا أعضاء معتلّة ولا مشلولة ولا خاملة.
حاولت أن أعوّدهم على أداء العبادات، على إقامة الصلاة، على الصدق في القول، على الجرأة في الحقّ، أغرس في قلوبهم الخوف من الله وحده وأنزع منها الخوف من عبيده، لا سيما الرؤساء، على أن يحترموهم وأن يطيعوهم فيما ليس فيه معصية لخالقهم. لا أريد منهم أن يجانبوا طريق الأدب معهم فالأدب مطلوب، ولكن التذلّل هو المرفوض، فأنا لا أريد أن يذلّوا أمامهم. الذلّ أمام الله في الصلاة وأمام الضعيف لمساعدته ابتغاء ثواب الله وأمام صاحب الحقّ ليصل إلى حقّه، هذا كله عزّ. ولكن الذي أبَيتُه لنفسي وعوّدتهم على إبائه هو الذلّ أمام الجبّار الظالم خوفاً من جبروته، وأمام الغنيّ أملاً بغناه، وأمام ذي المنصب من أجل منصبه.
ووقع أمر كان امتحاناً عملياً لي أمامهم. ذلك أني لمّا وصلت القرية لاستلام عملي زرت مدير الناحية، وهو -كما قلت من قبل- المرجع الإداري لمن هو فيها. وكان شاباً مهذّباً
متخرجاً في معهد (أي كلية) الحقوق، وقد نسيت اسمه، فذهبوا به وجاؤوا برجل من آل المؤيد، وهم فرع من أسرة العظم التي كنت أعرف بعض رجالها، حقي بك الذي حضرَنا في امتحان الشهادة الابتدائية وكان حاكم دولة (!) دمشق، وأُعجِبَ بأجوبتي (لأن الامتحان كان شفهياً) ومنحني جائزة ثمينة لأني كنت الأول بين التلاميذ: دواة لها قيمة بقيَت عندي إلى أن كبرت. وعرفت سامي بك مدير وزارة العدل، أي وكيلها، وكان صديقاً لوالدي، وكان من جماعة خالي محب الدين الخطيب، لزم معه الشيخ طاهراً الجزائري ودخل معه الجمعية العلمية لمّا أنشأها، وكان يحبني ويودّني. وأعرف رجلاً من فقراء آل العظم عالماً معلّماً مؤلّفاً فاضلاً هو جميل بك. وكان من رفاقنا ناظم المؤيد العظم وهو في الذؤابة منهم نسباً، ورمزي العظم، وأعرف الأخ الأكبر لهذا المدير الجديد وهو صفوح بك، ولكني لم أعرفه هو ولم ألقَه.
وأنا أزور المرجع الإداري مرة عند حضوري لأن ذلك عُرف قانوني، ثم أعكف على عملي. وكنت في المدرسة يوماً فإذا الأولاد يقولون: المدير جاء. قلت: أهلاً وسهلاً. ومشيت لاستقباله لأنه ضيف على المدرسة.
وإني لَعبدُ الضيفِ ما دامَ ثاوياً
…
وما فيَّ إلاّ تلكَ من شيمةِ العبدِ
ورحبت به، ولكنه صعّر خدّه وشمخ بأنفه، وقال: أنت المعلم؟ وتوجّه إلى التلاميذ يكلّمهم. وكان يلبس لباس الصيادين، وهو حذاء طويل إلى الركبة وقد غرس فيه درّة (كرباج صغير)
ورداء (جاكيت) من الجلد، وقد برّم شاربَيه الكبيرَين. فحكمت عليه بأنه مغرور متكبّر «على الفاضي» ! وثارت الكرامة في نفسي، وأنا حين أحسّ أن كرامتي مُسَّت لا أعود أرى الذي هو أمامي. وقلت له بلهجة أجفّ وأيبس من لهجته: نعم أنا المعلم، وأنت من تكون؟ فأشار إليّ العسكري مِن خلفه إشارةَ مَن يخاف منه عليّ ثم قال: يا أستاذ، حضرته المدير. فقلت للعسكري: أولاً أنت ما سألك أحد فاسكت، ثم إنه لو كان المدير لكان مؤدَّباً عارفاً بمواضعات الناس المؤدَّبين، يستأذن قبل أن يدخل ويسلّم بعد أن يستأذن
…
فصرخ: ماذا تقول يا أفندي، هل تعرف مَن تخاطب؟ قلت: لا لأنك غير معروف ولم يعرّفني أحد بك، أما أنا فإنني معروف، وإن جهلتَني فاسأل عني أخاك صفوح بك.
ورفع صوته فكان صوتي أرفع، واحتدم الجدل، فصحت بالطلاّب: انتباه! فسكتوا، ثم قلت لهم: صفّ. فاصطفوا، فقلت لهم: انصراف، خذوا كتبكم واذهبوا إلى بيوتكم. فانصرفوا! وأدرت له ظهري ومشيت إلى غرفتي، وتركته وحده يشتم ويهدّد ويتوعد، ثم خرج وهو يرتجف من الغضب، وأسرعت إلى دمشق فزرت بديع بك كبير أسرة آل العظم وخبّرتُه بما كان، لم أخرم منه حرفاً ولم أبدّل شيئاً ممّا قال وما قلت وما كان منه وكان مني. ويظهر أن بديع بك قد استدعاه وكلّمه فسكت ولم يذكر المسألة بعد ذلك، وأبلغني بعض المتصلين به أنه لامه وقال له: أتريد أن تعمل ثورة جديدة في الغوطة تكون أنت المسؤول عنها؟ ألا تعلم أن له لساناً يهزّ المنابر ويحرّك البلد؟ ألا تعرف أنه من زعماء الطلاّب؟ ألا تقرأ ما يكتب؟
وما زال به حتى اعتذر له عمّا صنع، بدل أن يكلّفني أنا الاعتذار، ثم صار صديقي.
* * *
وكنت خلال ساعات الدوام أؤدّي عملي الرسمي على أكمل وجه، بل إني أعمل أكثر من العمل الرسمي وأسدّ مسدّ ثلاثة معلمين. وكنت قريب عهد بقراءة كتاب كان له -لمّا صدر في فرنسا- صدى عظيم لأنه جاء بشيء جديد في التربية الاستقلالية، هو كتاب «التربية الحديثة» لإدمون ديمولان، فحاولت أن أطبّق بعض ما فيه. وخلاصة ما جاء به (أقولها من ذهني وقد قرأت الكتاب من نصف قرن)، خلاصته أن يُكلَّف التلميذ أو المجموعة من التلاميذ بعمل يعملونه ويُترَك لهم وضع الخطة لإنفاذه، ولا يراقبهم المعلم أثناء العمل وإنما يسألهم عن نتائج العمل. فبدأت بنظافة المدرسة، وهي من عمل الآذن أو الفرّاش ولكن المدرسة ليس فيها آذن ولا فرّاش، فاقتديت بمَن هو أفضل مني بألف درجة ومن لا أبلغ في العلم ولا في الدين ولا في العبقرية عُشر مِعشار (1) ما عنده منها: عمر بن الخطاب لمّا أراد أن ينظّف بيت المقدس ممّا ألقاه فيه اليهود، عملت مثله:
فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم
…
إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
فطلبت مكنسة وأخذت أكنس فناء المدرسة، فأسرع التلاميذ يأخذونها من يدي ويقولون: ماذا تفعل يا أستاذ؟ قلت: أفعل ما
(1) المعشار واحد من مئة من المتر (سانتي)، أما الميلّي (أي الواحد من الألف) فهو مُعَيشير (تصغير مِعشار).
فعله ثاني رجل في الإسلام، مَن كان يحكم ثلاث عشرة حكومة من حكومات اليوم. أنظّف المدرسة. إن المدرسة دارنا فإن لم يكن عندنا خادم أفنقعد على الأوساخ؟
كنت أخاف إن أمرتهم بذلك أمراً أن يهربوا منه، فلما رغّبتهم فيه ترغيباً وسبقتهم إليه تزاحموا عليه، فقلت: رتّبوا أنتم أمركم وتقاسموا العمل بينكم، حتى تكون مدرستُكم نظيفة مثل دُوركم. ثم عملنا على غرس الأغراس وزرع الأشجار في فناء المدرسة، ولم يحتاجوا إلى مَن يعلمهم فقد كانوا أولاد أبرع الفلاحين، فما مرّ شهر حتى تحوّل الفناء من أرض خراب إلى جُنَينة تُعَدّ تحفة في الجنائن، قام بذلك كله التلاميذ متعاونين.
وكنت أبقى في المدرسة النهار كله لأن وقت الدراسة كان قبل الظهر وبعده، يذهب التلاميذ للغداء والصلاة ويرجعون. وكنت أحمل غدائي معي، وما غدائي؟ قارورة صغيرة فيها زيت وأخرى فيها زعتر، وطبق صغير من أطباق أكواب الشاي وآخر مثله، أضع الزيت في واحد والزعتر (1) في الثاني، وعندي موقد (كاز) صغير وإبريق للشاي، فيكون غدائي خبزاً عليه الزيت وفوقه الزعتر، فإذا فرغت قلبت الصحن على أخيه ووضعتهما في علبة إلى الغد.
وكان يزورني ساعة الظهر بعض الجيران أو ناس من السكان، وربما جاءني بعض المشايخ من علماء دمشق أو بعض إخواننا فيها، فأطعمتُهم ممّا آكل. وقد علّمونا ألاّ نبخل بموجود
(1) وقد يُدعى الصّعتر بالصاد، وهو معروف من القديم.
وألاّ نتكلف لمفقود. وأذكر أن أحد آباء التلاميذ من أغنياء القرية ووجهائها رثى لي وبعث إليّ بمائدة صغيرة، فرددتُها شاكراً وأفهمتُه أن هذا طعام آكله في بيتي. وأنا لا أزال آكله إلى الآن وربما آثرتُه على أطايب الطعام، فإن كان بدل الشاي بطيخ أحمر كان أطيب عندي من موائد الملوك (أحياناً لا دائماً). وربما بعثت تلميذاً فجاءني بأوقية (وهي مئتا غرام) من اللحم المشوي ثمنها مع الرغيف فرنك واحد، أي خمس هللات!
* * *
وكنت أدرّب التلاميذ على فنون من الرياضة وأرغّبهم بها لتصحّ أجسادهم، وأعلّمهم المشيَ بانتظام، ثم نخرج أحياناً بعد الدروس فنزور القرى المجاورة، ونصل إلى «جسر الغيضة» حيث يجري بردى ممتلئاً جيّاشاً وعنده خمائل ممتدّة وأشجار مزدحمة أشباه الغابات، كان لها -لا سيما في منطقة «الزور» - دور كبير أيام الثورة السورية. وكانت قريتنا وما جاورها من القرى تزرع القنّب، وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم، ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط، مجوّف يلعب به الأولاد يسحبون به الماء بأفواههم من النهر، ويُحمَل على الدوابّ بعد أن يُصَفّ صفاً في إبالات كبيرة (1)، القنّب الطويل في أطرافها والمكسَّر في وسطها، ليؤخذ إلى أفران الشام توقد به النار، لأنه سريع الاشتعال حتى لَتُضرَب به في ذلك الأمثال، كما
(1) الإبالة (ويقول لها العوام بالة) الحزمة الكبيرة أو الصغيرة، ومنه قولهم «جاء ضغثاً على إبّالة» بمعنى قول العامّة «زاد الطين بلّة» .
يُضرَب المثل بضعفه حتى ليقال للإنسان الضعيف: كأن عظامه من القنّب. أما قشره فتُصنَع منه الحبال، فترى الحبّالين بين البساتين قد نصبوا أعمدة مدّوا عليها الحبال لبَرْمها. أمّا الاستعمال الأعلى للقنّب أو لبعض أنواعه فهو أن يُستخرَج منه المورفين (المخدّر، أي الحشيش). والغريب أن أهل الغوطة والبقاع الأخرى من الشام وبعض الأماكن في تركيا يزرعه أهلها ولا يتناولونه، لكن يبيعونه بالخفاء لمن يتعاطاه ويربحون منه المال الكثير، يهربون به لأن الحكومة تمنعه.
ثم جعلت أبتعد بالتلاميذ، فزرنا مدرسة زَمَلْكا، وكان فيها صديقنا بشير ياسين (وعمّه الشيخ محمود ياسين هو خال شكري فيصل)، وكنا نتبارى في حُسن تعليم التلاميذ وتنظيمهم فكنا كفرسَي رهان، حتى جاء يوماً بما عجزت عنه، هو أنه ألبس تلاميذه كلهم الطرابيش مثل تلاميذ المدينة، فغلبني. ولكني ثأرت منه في حادث طريف ولكنه ليس بظريف، وأنا هنا أسجّل ما لي وما عليّ. مللت من انتظار السيارة كل يوم لتحملني إلى المدرسة، فاشتريت درّاجة وتعلمت ركوبها، ولكني لم أتقنه، فكنت أقف على حجر أو كرسي فأمتطي الدراجة وأمشي بها متعثراً خائفاً. ومررت به يوماً وأنا راجع (لأن قرية زملكا على طريقي) فدعوته ليركب ورائي على الدراجة فيستريح من انتظار السيارة ويوفّر أجرتها. قال: لا، ياعم، أخاف أن ترميني. قلت: يا عيب الشُّوم (وهي كلمة تُقال في الشام بمعنى «يا للعار») أتخاف وأنت ورائي؟ قال: اتركني الله يرضى عليك، قلبي غير مطمَئنّ. قلت: اركب ولا تخف.
فركب مُكرَهاً، وسرنا والطريق خال، فاعترضنا نهر صغير عليه جسر (أي كوبري، والكوبري بالتركية الجسر) فقال: أنزل وأمشي، قلت: لا، ابقَ راكباً. وكان الجسر خشبتين طويلتين عليهما خشبات صغار معترضة فوقها بعض فروع الشجر، فلما بلغت وسط الجسر اضطربَت يداي وملت به، فسقط في النهر وسقطت فوقه وسقطت الدراجة معنا!
ولم يكن النهر عميقاً ولكن كان نجساً، وكان مجراه طيناً منتناً. أما الدراجة فالتوى عمودها الفقري وانكسر مِقوَدها (أي ذراعاها)، وأما نحن فخرجنا على شرّ حال، وتركته يُلقي في سبّي «مُنولوجاً» طويلاً، لو كنت في غير هذه الحالة لأخذت قلماً وورقاً وكتبت الشتائم المبتكَرة التي نطق بها، ولا أدري من أين اقتبسها فهي أوسخ من كل ما قال شعراء الهجاء، بل أوسخ من النهر الذي سقطنا فيه، ولكن الحقّ هو أني كنت مستحقاً لها.
واستوقفنا سيارة مرّت بنا، فلما رأى سائقها ثيابنا ساقها وتركنا، وسيارة أخرى وثالثة ورابعة فلم يقف لنا أحد من سائقيها، فانتظرنا حتى حلّ الليل وأسدل ستاره، فمشينا مشياً حتى بلغنا دمشق فدخلناها من غير الشارع العامّ. ولما وصلت الدار وكانت فيها عمّتي (بعد وفاة أمي) أبت عليّ دخول الدار إلا إنْ نزعت هذه الثياب عني ثم مشيت رأساً إلى المطبخ لأغتسل في زاويته. ولم يكن في دارنا ولا في أكثر دور الشام حَمّام.
ولا تعجبوا، فلقد ذهبت سنة 1970 إلى «بون» (في ألمانيا) والمدن المجاورة لها وزرت كثيراً من منازل الطلاّب العرب فيها،
فوجدت أكثرها من البيوت القديمة التي ليس فيها حمام.
وكان التعليم الابتدائي إلزامياً، وكان عندنا قانون (أظنه صدر أيام العثمانيين) يُلزِم كل ولد في سنّ الدراسة الابتدائية بالذهاب إلى المدرسة، فإذا امتنع أجبره الدرَك (شرطة الأقضية والقرى) على الذهاب وغرّموا وليّه مالاً ووَقفوه (1) في المخفر.
ولم أحتَجْ إلى هذا القانون، فقد تدفّق الأولاد على المدرسة حتى لم يبقَ فيها مكان، ضاقت هي ولكني لم أضِق أنا بهم ولم أتبرّم بكثرتهم، بل كنت أزداد بهم فرحاً كلما ازدادوا عدداً. وكان أنبه التلاميذ رضا (ابن أبي رضا الذي ذكرتُه) فجعلته على صغره عريفاً، وجعلت من متقدمي الطلاّب معلمين أو معاونين لمتأخّريهم، فكبروا بذلك قبل أوان الكِبَر. وكنت أراقبهم من بعيد فلا أجد بحمد الله إلا التعاون الصادق، حتى صارت هذه المدرسة إماماً لمدارس القرى.
ونفخت فيهم روح الحماسة للعمل وإخلاصه لله لا للناس، وكانوا -على صغرهم- يدركون هذا كله، إن لم تدركه عقولهم وَعَتْهُ قلوبهم واشتملت عليه ضمائرهم. وكان قبلي في هذه المدرسة معلّم أصله من درعا اسمه الشيخ «فلان» الحلبي، وكان محرّكاً (موتوراً) لا يقف ومبعث نشاط لا ينضب، لم أرَه ولكن رأيت آثار عمله وكانت آثاراً طيبة. ولم يكمل تعليمه من تلاميذ هذه المدرسة إلا الولد الأصغر لأبي رضا السقباني، يعمل الآن
(1) وقفه بمعنى أوقفه، ولم يرد في الفصيح أوقفه. ومن هنا جاء اسم «الوقف» و «الأوقاف» .
مستشاراً قانونياً في إحدى الإدارات في الرياض، اسمه أحمد عبده، يذكر تلك الأيام وإن مضى عليها الآن نصف قرن كامل.
* * *