المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مع أستاذنا شفيق جبري - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌مع أستاذنا شفيق جبري

-55 -

‌مع أستاذنا شفيق جبري

الناس إن ذكروا أيام الدراسة ذكروا أجمل مراحل العمر، أيام كانوا يسيرون في الجنّة الفيحاء بين الظلّ والماء، ما عرفوا بعدُ همومَ الحياة ولا كُلّفوا متاعب العيش ولا أحسوا أثقال العيال، يستمتعون بثمرات المال والجمال، يهيمون في أودية الأماني والآمال، يحملون من ذكرياتهم رحيقاً يتعللون به إذا بلغوا صحراء العمر، ولا مناص لكل سالك من بلوغ هذه الصحراء.

هأنذا (1) اليوم أودّع هذه المرحلة، فما الذي حملتُه منها إلا ذكرى التعب والنصَب وما عشت فيه من الضيق، وما كُلّفته من حمل أعباء الأسرة؟ ما الذي أصبتُه من مُتَع الشباب ومن لهو الشباب؟ لا شيء!

لقد كانت كلية الحقوق منزلاً نزلتُه أنا الآن مُفارقُه، كنت كالمستأجر الذي انقضى أمَدُ إجارته فهو يجمع أشياءه ليحزمها فيحملها ويسلّم مفتاح الدار ويمشي، يُخلي المنزل لمستأجر جديد. وكذلك يتداول الناس المساكن كأنها مقاعد الطيارة،

(1) ها أنا ذا، تُكتب متصلة: هأنذا.

ص: 217

مقعدك لك مدّة الطريق فإذا وصلت صار لغيرك، حتى إذا رحل الركاب جميعاً من هنا اجتمعوا هناك، وهناك المقام الدائم: إمّا في السجن الضيق أو في المنزل الفسيح، في العذاب الباقي أو النعيم المقيم، فأين يكون منزلنا؟ إن لذلك المنزل ثمناً، فمَن جَمَع ثمنه حوّله «حوالة» فوجده قد سبقه إلى هناك. وأنا ما دفعت الثمن وما جمعته لأدفعه، فهل بقي في العمر ما يكفي لجمع الثمن؟

اللهم ما لي إلاّ الأمل بعفوك ورحمتك، اللهم لا تكلني إلى عملي. رحمتك وسعت كل شيء ومغفرتك لا تضيق بذنوبي.

* * *

من يترك منزلاً يفتش أركانه وزواياه عله نسي فيها شيئاً، وقد فتشت فوجدت (أشياء

) كثيرة صغيرة، حملت الأشياء الكبار ونسيتها، فماذا أصنع بها الآن؟ لقد وضعتها في صناديق وسأحملها معي، فكلما جاءت مناسبةُ عرضِ واحدٍ منها عرضته عليكم. ذكريات صغيرة كثيرة: من عهد الطفولة والمدرسة الابتدائية ومكتب عنبر، ودار العلوم وأيامي في مصر والجامعة السورية، وأهلي ومشايخي ومن عرفت في هذه المرحلة من الرجال وما تركوا في نفسي من آثار

كل ذلك قد حملته معي، فإذا جاء وقت عرضه عرضت ما بقي في ذهني منه، ممّا لم أذكره فيما سلف من حلقات هذه الذكريات.

هذا عن الأشياء الصغيرة التي نسيتها في الأركان والزوايا، فما رأيكم فيّ إذا كنت قد نسيت منزلاً كاملاً، نزلته حيناً من العمر ونسيت أني قد نزلته؟!

ص: 218

ذلك هو «كلية الآداب» .

لم يكن اسمها يوم أُنشئت كلية الآداب ولا كانت تابعة للجامعة، بل كان اسمها «مدرسة الآداب العليا» وكانت مرتبطة (إدارياً) بوزارة المعارف. وهذا النوع من المدارس موجود (أو كان موجوداً على أيامنا) في فرنسا، ففيها «مدرسة المعلّمين العليا» ، وتُعتبر شهادتها أرقى من شهادات الإجازة (أي الليسانس) لأن طلاّبها يدرسون علوماً تزيد على ما يدرسه طلاّب الجامعة. وفيها المدرسة المركزية (إيكول سنترال) للهندسة، وهي التي تخرّج فيها رفيق صفّنا وجيه السمّان الذي جمع العلم وطرفاً من الأدب وصار وزير الصناعة أيام الوحدة بين سوريا ومصر، وفيها مدرسة الهندسة التطبيقية (البوليتكنيك)، وأحسب أنها تابعة للجيش. وجعلوا مديرها (أي عميدها، والحديث عن كلية الآداب) الأستاذ شفيق جبري، وهو أحد شعراء دمشق الأربعة، وقد عرفتموهم، بل هو أشعرهم. وكان يلقي كل أسبوع محاضرة واحدة، وكانت محاضرات السنة الأولى (1929 - 1930) عن المتنبي، وقد طبعها في كتاب سَمّاه «المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس» .

وأذكر من أساتذتها أستاذَينا اللذين سبق مني الكلام عنهما واللذين جعلت إهداء كتابي الأول (الهيثميات) المطبوع سنة 1349هـ إليهما: «إلى روح المنفلوطي سيد كتّاب العصر، وإلى حضرة شيخَي علوم العربية: الجندي والمبارك» . وقد عرفتم أني سَمّيتُه «الهيثميات» لأنني كنت أنشر مقالات بإمضاء «أبوالهيثم» .

ص: 219

وأذكر منهم الشيخ عبد القادر المغربي، نائب رئيس، فرئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، وهو زميل السيد رشيد رضا صاحب «المنار» ، وهو سَنينه (أي في مثل سنه)، يصغره بسنتين فقط. عاش أكثر من تسعين سنة ولم يفارقه نشاطه، يمشي على رجليه كل يوم ستة أكيال، طَلْق المُحيّا جميل الوجه أنيق الثياب، خفيف الروح صاحب نكتة ودعابة في أحاديثه وفي محاضراته، استفدت منه في اللغة، ولم يكن فيها بمنزلة الجندي والمبارك ولكن كان عنده ما ليس عندهما، هو أنه كان يمنح الألفاظ صفات الأحياء من الناس، فيتحدث عن المادة اللغوية حديثه عن الأسرة من الناس، يصوغ ذلك قصة يستهويك عرضها ويرسّخها في نفسك جمع مفرداتها وبيان القرابة بينها. ومن نظر في أعداد السنة الأولى من «الرسالة» (رسالة الزيات) وجد نموذجاً لذلك، وهو قديم الاشتغال بهذا الفن (والفن هنا بمعنى النوع لا الفنّ بالمعنى الخاصّ L’art) وقد أصدر كتابه المشهور «الاشتقاق والتعريب» سنة 1908.

تشعر بأنه أديب حتى في بحوثه اللغوية والعلمية، وقد صحب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مدّة يسيرة. وله «تفسير جزء تبارك» ، حاول فيه أن ينحو منحى الشيخ محمد عبده في «تفسير جزء عَمّ» ولم يستطع مجاراته. وأذكر أنه فسّر فيه السماوات بأنها مدارات الكواكب (أقول ذلك من ذهني وليس كتابه الآن تحت يدي)، أي أنه جعل السماوات أشياء وهمية، مع أن الله وصفها بأنها «بناء» وأنها جُعلت «سقفاً محفوظاً» وأن لها أبواباً، وأن الله زين هذا السقف بمصابيح وأن هذه المصابيح

ص: 220

هي «الكواكب» ، وأن السماوات سبع وأنه جعلها «طِباقاً» . وقد كتبت من قديم أن هذه الأوصاف لا تتحقق إلا إن تصورنا السماء كرة ضخمة جداً، وأن هذا الفضاء بكل ما فيه من مجرات وما في المجرات من شموس وأجرام، هذا الفضاء كله وسط هذه الكرة التي هي السماء الدنيا، وأن حولها فضاء الله أعلم بسعته تحيط به كرة أخرى هي السماء الثانية، ثم فضاء ثم سماء إلى السماء السابعة، يليها مخلوق لا يتصور العقل مدى كبره هو الكرسي، ومخلوق أكبر هو العرش. وأقول بالمناسبة (استطراداً) إن هذا الفضاء وما فيه مصغّر تصغيراً لا يتصور العقل البشري مدى دِقّته وصغره في الذرّة، وما فيها من فضاء وأجرام يدور بعضها حول بعض هي الكهارب (أي الإلكترونات).

ومنهم الشيخ سعيد الباني، وهو عالِم لم يعرف الناس قدره وكثير منهم نسي اسمه، مع أني أكاد أفضّله في مصنّفاته على علماء عصره حتى الشيخ جمال الدين القاسمي، على كبر أقدارهم وسموّ منازلهم وكثرة مؤلّفاتهم، التي ليس فيها (غالباً) إلا نقل أقوال العلماء وجمعها. أما الشيخ سعيد فهو يقرأ النقول ويفهمها ويهضمها (كما يقولون)، ثم يعطيك خلاصة عنها مكتوبة بقلمه هو ممزوجة برأيه فيها مع إيراد ما يناسبها. وعندي الآن كتابان له، كتاب اسمه «عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق» طُبع سنة 1341هـ، قدّم بين يديه مقدمات لو أُفرِدَت بالطبع، أو لو أخذتها مجلة إسلامية فأعادت نشرها، لكان للقراء منها خير كبير. وهذه المقدّمات هي: الإسلام دين الفطرة، إن هذا الدين يسر، اتساع الشريعة الإسلامية، الأئمة المجتهدون على هدى من

ص: 221

ربهم، إلخ. ألحقَ بها فصولاً نافعة جامعة هي: الرأي ينقسم إلى محمود ومذموم، في إصابة الحق، السؤال عمّا لم يقع، الدعوة إلى توحيد المذاهب، ما فيه مساغ للاجتهاد وما لا مساغ له فيه، التقليد وأنواعه وحكمه، لا إفراط ولا تفريط

وفصول أخرى كل فصل منها يصلح رسالة قائمة برأسها.

والكتاب الثاني في «أحكام الذهب والحرير» ، طبع سنة 1349هـ، في أوله أيضاً مقدّمات نافعة قد فصّل فيها القول وأقام عليها الدلائل، كلها ممّا يحتاج الشباب اليوم إليه وأكثرها ممّا لا يجدون مراجع فيه، هي: أقسام التكاليف الشرعية، يُسْر الشريعة وسعتها، كلام في علّة الحكم، تصرفات الرسول ‘؛ أي ما كان منها تبليغاً لشريعة الله، وما كان من باب الفتوى أو القضاء، أو ما كان من تصرفات الحاكم والقائد، وما كان في أمور الدنيا الخالصة من الشؤون الزراعية أو الطبّية، إلخ. وهذه العناوين لا تدل على ما تحتها، فقد تكلم عن مسائل في الدعوة وفي السياسة وفي تحصيل العلوم الجديدة، كتب ذلك قبل أكثر من ستّين سنة، ولو نُشر مثله الآن لعُدّ من حسنات هذا الزمان الذي اتسعت فيه العلوم وسَمَت الأفكار ووُجد فيه ما لم يكن يُعرف قبله. ولو أن أخانا الأستاذ إبراهيم سرسيق ينشرها في جريدة «المدينة» أو لو أن المشرف على الصفحة الإسلامية في «الشرق الأوسط» نشرها لاستفاد منها القرّاء.

جاء به الأستاذ كرد علي (وكان وزير المعارف) مدرّساً لنا في الكلية فلم ينجح في التدريس، ولم يستطع ضبط الفصل وشاغبه

ص: 222

الطلاّب. ولا تحسبوا الطلاّب فتية صغاراً كمن تحوي المدارس، إنهم كانوا طلاباً من صنف نادر، ذلك أنهم لما أنشؤوا هذه الكلية فتحوا أبوابها لكل مدرّس ومعلّم لمن شاء منهم أن يحصل على شهادة عالية، وما أكثر من كان يريد الحصول عليها لحاجته إليها! فكان من أصغر الطلاّب أنا ورفاقي أنور العطار وسعيد الأفغاني وجميل سلطان وزكي المحاسني وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي، ومَن هم أكبر منّا سناً كسليم الزركلي، أو لعل بعض هؤلاء لم يدخلوها (نسيت لطول العهد). وأذكر يقيناً أنه كان من طلاّبها مَن كانوا في سن آبائنا كالشيخ زين العابدين التونسي الذي كان أستاذنا في المدرسة السلطانية الثانية سنة 1919 وكان قبل ذلك أستاذاً في المكتب السلطاني العربي أيام العثمانيين، وهو أخو الشيخ الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. والأستاذ عبد الغني الباجقني الذي كان مدير مدرسة ونحن تلاميذ في الابتدائية، وهو رجل عالِم بالعربية فقيه مالكيّ واسع المعرفة، من أفصح من عرفت لهجة، يكاد يكون كلامه كله فصيحاً (لا أعرف مثله في ذلك إلا قليلاً، منهم الشيخ بهجة البيطار والأستاذ محمد البزم، ومن إخواننا الأحياء المحامي محمد كمال الخطيب). ولما كنت رئيس مجلس الأوقاف ومات مفتي المالكية في دمشق رشّحته (أي الباجقني) لمنصب إفتاء المالكية لأن عندنا في دمشق مفتياً رسمياً لكل مذهب من المذاهب الأربعة. وقد عاد في آخر عمره إلى بلده في طرابلس الغرب (ليبيا، وكان سلَفنا يدعوها «لوبية») وتُوفّي فيها.

هؤلاء هم الطلاّب الذين كانوا يشاغبون الأساتذة، حتى إن

ص: 223

الأستاذ الجندي قال لهم مرة ضاحكاً: ماذا أقول لكم وأحفادكم اليوم يجلسون على مثل هذه المقاعد، وأنتم تعملون عملهم؟

* * *

أما الأستاذ شفيق جبري فقد قلت لكم إنه كان يُعِدّ محاضرة واحدة في الأسبوع، المحاضرة في نحو ستّ صفحات فقط من صفحات الكتاب، يقرؤها من الورق إلقاء متّئداً جميلاً، لا يزيد على المكتوب شيئاً ولا يفتح صدره لمناقشة، وأظنه لا يقدر عليها. وهو شاعر في الطبقة الأولى من شعراء هذا العصر، كنا نقدّم عليه خير الدين الزركلي، ولكن الزركلي تدفق شعره غزيراً فيّاضاً نحو عشر سنين ثم غاض، وجبري استمرّ. وهو أديب ولكن حظّه من الاطّلاع على الأدب العربي القديم (الذي يسمّونه اليوم بأدب التراث) حظّ قليل، مطّلع على الأدب الفرنسي أو على جانب منه، لم يُحِط به كلّه ولم يعمّق النظر فيه ولكنه فهم الجانب الذي اطّلع عليه فهماً تاماً.

كنت أحفظ وأنا في المدرسة مقطوعات من شعره وألمس فيه روحاً وطنية، وكنت أراجعه في وزارة المعارف، وكان ركناها بعد الوزير هما: شفيق جبري رئيس الديوان (وهو بمثابة وكيل الوزارة) ومصطفى تمر المفتّش العامّ. وكنت أسمع قصائده يلقيها في المجمع العلمي فأُعجَب وأنا شابّ بجودة شعره وحُسن إلقائه، وعرفته من قرب أيام اشتغالي في جريدة «فتى العرب» عند صديقه الأستاذ معروف الأرناؤوط. فما الذي أثارني عليه وبدّل نظرتي إليه؟

ص: 224

هي محاضرته الأولى التي قرّر فيها أن الأدب أُلْهِيّة من الألاهي. وهذا مذهبٌ في الأدب، ولكنه اختار أسوأ الأوقات لإعلانه، فقد كنا في عهد نضال للاستقلال نحاول أن نسخّر له قُوى الأمة كلها، فطلع علينا بهذه النظرية يثبّط بها الهمم ويحلّ العزائم، ذلك لمّا قال في محاضرته الأولى يوم 9/ 11/1929:"فكرت في شيء من الكلام أمهّد به السبيل إلى دراسة الأدب، قلت «دراسة الأدب» وكان يجب عليّ أن أقول «أحاديث الأدب»، لأن كلمة الدراسة تدلّ على شيء من جهد الذهن وعَنَت الفكر، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا أُلهية يتلاهى بها العقل، ولكنها أُلهية شريفة لا تشبه غيرها من الألاهي، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا لذّة الفكر وراحة البال".

لمّا سمعت هذا الكلام قمت أسأله (وقد قلت لكم إنه لم يكن يحبّ السؤال وأنه كان يكره المناقشة) فأجاب جواب كاره، فعدت أسأله فتنصّل واعتذر بضيق وقته وبحلول موعد كان قد ارتبط به، ومضى. فأعددت كلاماً طويلاً بادأتُه به في أول المحاضرة الثانية قبل أن يشرع بها، فلم يدعني أتكلم. ولم أكُن لأسكت أو أنهزم، ورأيت أن مناقشته لم يبقَ لها في الكلية مجال فكتبت رسالة وطبعتُها، والعجيب أني كنت -على ضيق ذات يدي- أطبع هذه الرسائل على نفقتي وأوزّعها مجّاناً أو بثمن لا يكاد يزيد إلا قليلاً عن المجّان، فكان ثمن هذه الرسالة قرشاً سورياً واحداً، أي هلالة (هللة)!

كان عنوان الرسالة «الأدب القومي» (وأنبّه إلى أن كلمة «القومية» لم تكُن قد أخذت المعنى الذي نفهمه منها الآن)

ص: 225

مكتوب على غلافها: «مقالة من كتاب لنا في نقد محاضرات كلية الآداب سنُتِمّه قريباً» . وأحسب أنكم تأمّلتم كلمة «لنا» ، هذا الأسلوب في التكلم بصيغة الجمع (قرأنا، وقع لنا، وجوابنا

على طريقة: نحن فؤاد الأول ملك مصر أمرنا بما هو آتٍ)، هذا الأسلوب في التعالي على الخصم بالدعوى العريضة واستصغاره، والسخرية به وسبّه وشتمه، وذكر معايبه ومثالبه بدلاً من اقتصار الناقد على الفكرة يبيّن فسادها وعلى التعبير يشير إلى ضعفه وإلى خطئه، كان هو أسلوبنا، أي أننا لم نكُن ننقد ولكن نهجو، كنا نتبع فيها شيخنا الرافعي في كتابه «على السفّود» ، بل نتبع العقاد أيضاً فلم يكن يقصر في نقده أحياناً عن الرافعي. كذلك كان الأسلوب المتبع في تلك الأيام، ولي فيه كتابات كثيرة معدَّة لتكون كتاباً كبيراً عنوانه «مناظرات وردود» ، ولكني لم أطبعه وما أحسب أني سأطبعه، لأني عزفت عن هذا الأسلوب على اقتداري عليه، وكرهته وانصرفت عنه ولم أعد أسيغه.

وهذه الرسالة مطبوعة سنة 1349هـ (1930م)، فيها مقدمة مكتوبة بهذا الأسلوب الذي انصرفت عنه، وبعدها فصل من الكتاب الذي أعددت أكثره، آخذ منه فقرات لتكون نموذجاً لكتابتي يومئذ أنشرها بلا تبديل:

الأديب في الأمة لسانها الناطق بمحاسنها الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن فخرها وذرى مجدها

فهل عندنا الأديب الذي عرف آلام الأمة وآمالها وبحث فيما يسرّها وما يسوؤها، ثم جرّد قلمه لتصوير آلامها والسعي لإبلاغها آمالها؟ هل عندنا الأديب الذي

هل عندنا الأديب الذي

ص: 226

(إلى أن قلت): كنا نأمل أن ينشأ فينا مثل هذا الأديب، وكان يقوّي هذا الأملَ ما يظهر فينا من الشباب المبرزين في الأدب المخلصين للأمة وللوطن، حتى فاجأنا صوت خرج من حلق وطني بإيعاز أجنبي يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخّروا أدبكم له ولا تُتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهوا والعبوا فما الأدب إلا أُلهيّة! هذا ما قاله الأستاذ جبري لتلاميذه في الكلية، وأفهَمَهم أن هذه الكلية لم تنشأ لمثل ما أُنشئت له الحقوق والطبّ من تخريج رجال عاملين لمنفعة الأمة، بل لإخراج أناس يدركون جمال هذا العالَم. ولو شئت شرحاً لقلت: إن قوماً من البشر ساءهم فيضان الروح الوطني على معهد الحقوق وما يقذف به كل عام من الرجال الذين يكونون كالشجى في حلوقهم والقذى في عيونهم، فأحبوا أن يضربوه بمعهد آخر يعمل لغير ما يعمل له معهد الحقوق، ويطفئ هذه النار من الحماسة التي تضطرم في نفوس الحقوقيين، ويُخمِد من هذه العزائم التي ضُمّت عليها ضلوعهم فأصبحوا يدأبون على العمل لا يعرفون كلالاً ولا سأماً، ويقدم للأمّة أُناساً خاملين قد شغلهم الخيال عن الحقيقة، وألهاهم الأمل عن العمل، واللهو عن الجدّ

الأستاذ (أي شفيق جبري) يدعو إلى أدب مجرد يُمارَس ليُدرَك به جمال الوجود ويُفرَج به غمّ الحياة وكربها، ويصوّر من النفس عواطفها وميولها ومن الطبيعة جمالها وجلاها، وحْيَها وإلهامها، لا يعنيه أخلاق تُقوَّم ولا عادات تُصَحَّح، ولا تهمّه أمّة ولا وطن، فهو ليس إلا أُلهيّة شأنه شأن الملاهي الأخرى، وإن قال إنها «أُلهية شريفة» !

ص: 227

أي أنه يطلب من شبابنا الأدباء ألاّ يروا في الحياة إلا اللهو واللعب، وأن يكون كل مطلبهم منها لذّتهم فيها. يريد منهم أن يكتفوا بوصف أحزان نفوسهم وأشجانها عن تصوير شقاء الأمة وعذابها

كلا يا أستاذ! فنحن في حرب، في نضال للاستقلال، في معركة، وأدباؤنا قُوّادنا. فماذا تكون حال جيش تركه قُوّاده في المعركة تحت أزيز الرصاص ودويّ القنابل، وراحوا يفتّشون عن الجمال في ميدان المعركة ليصفوه ويَنْظموا فيه الأشعار ويتخذوا من أدبهم «أُلهية شريفة» يفرّجون بها عن أنفسهم همَّ أنفسهم وغمها؟

كلا يا أستاذ! بل أدباء يلقون بأنفسهم في غمرات هذه الحرب متخذين من أدبهم سلاحاً لأمتهم ماضياً ولواء لها مرفوعاً، يكون باعثاً لعزمها لا مخدراً لأعصابها. فإذا انتهت المعركة وانجلى الغبار، وآبوا بالنصر وأصبح لهم في الدنيا كيان، حقّ لهم أن يلهوا بالأُلهية الشريفة التي هي الأدب.

إلى أن قلت: إن الأدب لا يجدي إن لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدب الحياة حتى يُحكِم صلته بها ويداخلها، فيعرف مَواطن الخير فيها فيدلّ عليها وأماكن الشر فينفّر منها.

* * *

كان هذا الكلام سنة 1349هـ. كانت موازنة بين دعوتين: دعوة لجعل الأدب أُلهيّة شريفة، ودعوة لاتخاذه سناداً للخُلُق وعاملاً للإصلاح وسلاحاً للنضال. فأيهما الذي كُتب له النصر؟ هل التكريم والتمجيد الآن للشاعر المؤمن المخلص المناضل

ص: 228

أم للشاعر الفاسق المفسد النازل؟ لقد أنكرنا على أستاذنا شفيق جبري لأنه قال (قولاً) إن الأدب أُلهية شريفة، فكيف لا ننكر على من جعله (فعلاً) أُلهية ولكنها ليست شريفة ولا عفيفة ولا نظيفة؟ على من يلهو بالغافلات من بنات الناس يستبيح منهنّ مواطن الجمال الظاهر والخفيّ، ثم لا يجد في نفسه حياء يحمله على أن يسكت، ولا يلقى في الناس قوّة تضطرّه أن يكتم، فلا يكفيه أنْ جنى حتى يصف جناياته مفاخراً بها ذاكراً تفاصيلها في شعر جميل، فيفتن الناسَ جمالُ شعره وتعمى عيونهم عمّا صنع بأعراض بناتهم! ثم يأتي مَن فقد تقوى المؤمن وغيرة العربي ونخوة الرجل، فيثني عليه ويدافع عنه، ويشتم من أجله من يقول له كلمة الحقّ ويعلن فيه حكم الله!

فما الذي أصابنا حتى اختلطت الأحكام واضطربت الموازين، وهبط العالي كما يهبط الذهب إلى قعر الماء، وعلا الحقير كما تعلو البعرة إلى السطح؟ أهذا هو المسخ الذي كتبه الله على من كان قبلنا؟

إنه ما خلا عصر من شعراء أوتوا الفنّ الجميل وحُرموا الخلق النبيل، أُعطُوا ألسنة تحسن النطق ولم يُعطَوا قلوباً تخفق بحب الحقّ، كان بشّارٌ شاعراً فاسقاً وقحاً لا يستحي أن يعلن ما فعل، وكان أبو نواس أفسق وأوقح، ولكن ما عرف تاريخ الأدب العربي من غاص في حمأة الرذيلة وغطس برأسه في أنجاسها، وغمس معه من بنات الناس مَن لانت معه وتبعته، ثم خرج بالأقذار على ثيابه، بالرائحة تفوح من أطرافه، ليصف ما جرى له بشعر جميل لا شك في جماله، رائع لا مراء في روعته، ولكنه نجس نجس! لم

ص: 229

يخجل به لأن ما ملأ عينيه ممّا كان في الحفرة التي نزل فيها منعه أن يرى صنعه فيخجل ممّا صنع. لقد ركبه شيطان شهوته حماراً ذَلولاً إلى غايته، فمضى مسرعاً لا هو يقف ولا يصادف من يَقِفه، بل يأتي من يدافع عنه.

فكيف يكون عربياً ويكون مسلماً ويكون «شريفاً» من يقيم نفسه حارساً للأنجاس مدافعاً عن لصوص الأعراض؟ لقد أدركت من أكثر من أربعين سنة خطر هذه «الشجرة الملعونة» يوم نبتت في طريق الأدب نبتةً ضئيلة هزيلة فحذّرتُ منها، وقلت في مجلة «الرسالة»: اقلعوها قبل أن تغلظ ساقها وتطول أغصانها ويعظم شوكها فلا تقدروا عليها. فما سمعوا تحذيري، حتى صارت عثرة في طريق الأدب تمزّق بشوكها السامّ ثيابَ البنات الغريرات فتدعُهن عرايا بلا ثياب. أفنأخذ شِعراً جميلاً وأدباً رفيعاً، علينا أن ندفع ثمنه من أخلاق فتياتنا وأعراض بناتنا؟ ولو كانت هذه المبادلة لبنتِ مَن يتطوع (لحساب الشيطان) للدفاع عن هذا الفسوق والعصيان أو لأخته، أفكان يرضى بها؟ إن رضي فأبعده الله وأخزاه.

أنا رجل مشتغل بالأدب، وأنا من خمس وخمسين سنة أكتب وأنشر ولي صفحات لا يستطيع أعدى الأعداء أن ينكر أنها من جيد الأدب، وأنا مع هذا أقول: لعنة الله على الأدب وعلى الشعر وعلى الفنّ، إذا كان لا يجيء إلا بذهاب الدين وفقد الشرف، وضياع العفاف وهتك الأعراض.

* * *

ص: 230