المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ظهور مجلة «الرسالة» - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ظهور مجلة «الرسالة»

-67 -

‌ظهور مجلّة «الرسالة»

كانت مصر في السنة التي أتكلم عنها (1933) كالأرض العالية؛ ينزل الماء منها إلى ما دونَها ولا يصعد ممّا تحتها إليها، فالمطبوعات في مصر (من كتب ومجلاّت) تُقرأ في الشام (أي سوريا ولبنان وفلسطين) وفي العراق وفي جزيرة العرب، والمطبوعات في الشام تُقرأ في العراق والجزيرة ولكن قلّما تُقرأ أو تُعرَف في مصر، والمطبوعات في العراق لا تكاد -يومئذ- تصل إلى غيره، أما الجزيرة فلم تكن فيها مطبوعات تُذكَر، أمّا المغرب فقد قطع المستعمرون صلتَنا به فلا يصل إلينا شيء من مطبوعاته.

ولقد أمضيت أنا أكثر سِنِي دراستي الابتدائية والمتوسطة وأنا عاكف على كتب الأدب القديم، ما عرفت من الجديد إلاّ المنفلوطي الذي نشأنا على «نظراته» ، أدمنت قراءتها حتى حفظتها، و «عبَراته» وما تُرجم له فكتبه بقلمه من القصص الفرنسية. وعرفت -كما قلت لكم- «مجلّة الرابطة الأدبية» التي صدرت في الشام نحو سنة 1920 ومجلّة «الميزان» التي كان يُصدِرها أحمد شاكر

ص: 391

الكرمي. وعرفت شعر شوقي وحافظ والمطران من قديم، ولست أدري إلى الآن ما الذي جمع مطران بهما وحشره معهما، وما هو من طبقتهما ولا من أقرانهما، وما قرأت له عشرة أبيات متوالية يُقال لها «شعر» ، حتى قصيدته المشهورة عن بَعْلَبكّ ما هي إلاّ تاريخ منظوم وأفكار تمشي على الأرض، ليس فيها ما يطير إلى جوّ الشعر! وعرفت شعراء مصر أو أكثرهم من كتاب الصديق الأستاذ أحمد عبيد «مشاهير شعراء العصر» .

ثم فُتح أمامي الباب على مصراعيه، فعرفت من «الهلال» وأخواتها أو بناتها ومن السياسة الأسبوعية ومن غيرهما أكثرَ أدباء مصر، وقرأت كل كتب العقّاد يومئذ («المطالعات» و «ساعات بين الكتب» والديوان وغيرها)، وكنت وأنا طالب أُعجَب بفكره وأستفيد من سعة اطّلاعه ولكنْ لا أطرب كثيراً لأسلوبه. وقرأت كتب المازني:«حصاد الهَشيم» و «قَبْض الريح» ، ورواية «ابن الطبيعة» التي ترجمها عن الإنكليزية لا عن أصلها الروسي، وكادت تؤثر في ديني وتُفسِد فكري لولا أن أنقذني الله من شرّها. وقرأت له «إبراهيم الكاتب» و «غريزة المرأة» التي سرقها أو اقتبسها أو قلّد فيها الكاتب الإنكليزي غالسورثي، ما بدّل إلاّ الأماكن، فبدلاً من ميدان طرف الغار (1) مثلاً في لندن وضع ميدان السيدة، وبدلاً من الأسماء الإنكليزية وضع لأشخاص الرواية أسماء عربية، وفضحه محمد علي حماد في جريدة البلاغ (كما أظن) فنشر النص الأصلي من الرواية الإنكليزية في عمود وإلى

(1) المشهور أن اسمه «الطرف الأغر» (ترافلغار)، مع أنها كلمة عربية أصلها «طرف الغار» وبها سُمّيت المعركة.

ص: 392

جانبه -في عمود آخر في الجريدة- نصّ رواية المازني. كما أخذ صفحات كثيرة من قصّة «ابن الطبيعة» (واسمها الأصلي «سانين») فوضعها في قصّته «إبراهيم الكاتب» ! وللمازني أقصوصة على صورة حوار مع صحفي سأله فيها عن قصة حياته، فخبّره أنه كان له أخ وكانا توأمين فغرق أحدهما فمات ولم يدرِ: هل الذي غرق هو أو أخوه، إلخ. وقد وجدتها بذاتها بعد وقت طويل للكاتب الأمريكي الفَكِه مارك توين، سرقها منه المازني كما هي.

على أني أحببت المازني وكنت أطرب لأسلوبه وفكاهته وسخريته، وتأثرت به حيناً وحاولت تقليده، ولكن من أين لي خفّة روحه؟ وإنْ كان يؤذيني منه تهاونه بأمر دينه وكلامه عن شرب الخمر كأنه يتكلم عن شرب الشاي. وسواء لديّ أشربها أم كان على طريقة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فالمهمّ عندي أثر ما يكتب الكاتب في نفوس القراء، وعليه أن يذكر أن الله سائله عنه. أمّا الرافعي فكنّا نقدمه يومئذ ونتعصب له ولا نُؤْثر عليه أحداً. وقد تبدّل نظري الآن إلى أسلوبه كما تغيّر حكمي على كثير ممّن كنت أقرأ لهم في شبابي.

أمّا طه حسين فقد عرفته من قديم، وشهدت في مصر لمّا كنت في دار العلوم سنة 1928 طرفاً من معركة «الشعر الجاهلي». وأذكر أنه لما شكّك طه حسين في امرئ القيس والمجنون كتب المازني (سنة 1345هـ) مقالة عنوانها «طه في ميزان التشكيك» قال فيها: لنفرض أن مؤرّخاً في القرن الثالث والعشرين -مثلاً- تناول حياة الدكتور بمثل تمحيصه وتحقيقه العلمي، فهل تكون النتيجة إلاّ كما يأتي: يزعمون أن رجلاً اسمه الدكتور طه حسين

ص: 393

عاش بمصر في أُولَيات القرن العشرين، وأنه صاحب هذه الكتب المختلفة التي نسبوها إليه ونحلوه إياها، ولكن ما اطّلعت عليه ممّا يُعزى له يحملني على التردّد بين رأيين: أحدهما أن يكون هناك أناس كثيرون يَتَسَمّون باسم طه حسين، وثانيهما أن يكون هذا اسماً استعاره فرد أو عدة أفراد لِما كتبوه ونشروه. ذلك أنه -على ما روي- أزهريّ النشأة، والأزهر هذا جامعة إسلامية كبرى يلبس طلابها الجبّة والقفطان والعمامة، وأنه كان في صدر أيامه يكتب في صحيفة يومية اسمها «الجريدة» ، ولكني راجعت مجموعة هذه الجريدة في دار الكتب فألفيت أحد أدباء ذلك العصر واسمه عبد الرحمن شكري يسمّيه طه أفندي حسين. فهل طه أفندي حسين هو عين الشيخ طه حسين؟ ولا شك أن شكري يعرف طه حسين فقد كانت بينهما ملاحاة، يدلّ على ذلك قصيدة نشرتها «الجريدة» بإمضاء طه حسين مطلعها:

قُلْ لشكري فقدْ غلا وتمادى

بعضُ ما أنت فيهِ يَشفي الفؤادا

وممّا يضاعف الشكّ في أنهما شخص واحد أن الشعر لم يكن من أدوات الشيخ طه حسين. ويُعزى إلى طه حسين (ولا أدري أيهما؟) مقال، بل عدة مقالات يدعو فيها إلى تغيير الهجاء ورسم الكلمات، فهل كان الداعي لهذا والمُلِحّ فيه الشيخ طه أو طه أفندي؟ أمّا الشيخ طه فكان -على ما يقولون- مكفوف البصر، وكان في ذلك الوقت طالباً بالأزهر، ومن المعلوم أن طلبة الأزهر كانوا من المحافظين ومن أشد الناس استنكاراً للبدع. زِدْ على ذلك أنه ضرير، وما اهتمام الضرير برسم الكلمات؟

ص: 394

فالأرجح أن هناك شخصين اسم كل منهما طه حسين: أفندي مبصر وشيخ ضرير. والآن من هو الدكتور طه حسين صاحب «حديث الأربعاء» : أهو الشيخ أم الأفندي، أم شخص ثالث؟

* * *

ويمضي المازني في المقالة على هذا السَّنن، ويقارن بين أسلوب الشيخ طه حسين في كتابه «ذكرى أبي العلاء» وينقل عنه قوله: كان أبو العلاء يحرص أشدّ الحرص على أن يُخفي نفسه على القارئ، ولكن شخصه يأبى إلاّ الظهور، وكان يلقي بينه وبين القارئ أستاراً صَفيقة من غريب اللفظ وحُجُباً كثيفة من ثقيل السجع ويُقيم حوله أسواراً منيعة من المباحث اللغوية، ولكن عواطفه الحادّة تأبى إلاّ أن تخترق هذه الموانع كافة لتصل إلى قلب القارئ، إلخ. وهو أسلوب لاشذوذ فيه كما ترى، ولكن اقرأ الآن الفقرة الآتية من كلام «الدكتور» طه حسين في نفس الموضوع أو المعنى، قال: ذلك أن أبا العلاء كان -كما تعلم- من أشد الناس إيثاراً للغريب وتهالكاً عليه، ثم كان أبو العلاء إلى هذا (فيما أعتقد أنا) يتكلّف الغريب ويتعمّده ليصدّ عامة الناس وجُهّالهم، سواء في ذلك العلماء وغير العلماء، عن قراءته والظهور على ما فيه، إلخ.

ومقالة المازني هذه طريفة، يستطيع من شاء من القراء الرجوع إليها والإطّلاع عليها.

* * *

ص: 395

أقول: إنني كنت كما كان إخواني وأمثالي يعرفون سنة 1933 كل شيء عن مصر وأدباء مصر ورجال مصر والأحزاب في مصر، ولكن أهل مصر لم يكونوا (إلاّ نفراً منهم) يعرفون عنّا شيئاً. ولا يغضبْ أحدٌ من هذا الكلام ولا يعتبْ أحد، فأنا أسجّل تاريخاً وأكتب عمّا كان، لا أكتب عن مصر وأبنائها الآن، فقد هدّوا اليوم السور الذي كانوا يحبسون أنفسهم وسطه وانطلقوا في البلدان، فلهم في كلّ بلد وجود وفي كلّ مكان أثر طيّب محمود. وإنما أتكلم عمّا كان قبل خمسين سنة، وسيمرّ بكم في هذه الذكريات أنها لمّا وُحِّدت محكمتا النقض في سوريا ومصر أيام الوحدة وذهبنا لعقد الجمعية العمومية للمحكمة في القاهرة (وكنت مستشاراً فيها) قلت هذا الكلام في خطبة في نادي القضاة، وضربت أمثلة واقعة ممّا كان من جهل المصريين يومئذ بأحوالنا في الشام وفي العراق. ما كان أكثرهم يفرّق بوضوح بين سوريا ولبنان وفلسطين، كلها بَرّ الشام وكلهم إخواننا العرب، كما أننا -في الشام- لم تكن في أذهاننا صورة واضحة عن طرابلس وتونس والجزائر والمغرب، كلها بلاد المغرب وكلهم إخواننا المغاربة.

وما ذلك بذنبنا ولا ذنب المصريين، ولكنه أثر الاستعمار، فلما زال الاستعمار (أعني الاستعمار العسكري) صار من المصريين مَن هو أعرف ببلدي وبلاد العرب مني ومن أهل تلك البلاد. ومصر بلد الأزهر لا تعيش بغير العرب، والعرب لا يعيشون بغير مصر، ونحن ومصر لا نعيش ولا نعتزّ ولا نَقوى ولا نَشْرُف إلاّ بالإسلام، فإنْ أعرضنا عنه فلا شرف لنا بل ولا وجود.

ص: 396

ما كانوا يعرفون في مصر من أدباء الشام إلاّ قليلاً، ممّن عاشوا فيها أو كتبوا في صحفها، أمثال كرد علي والمغربي ورفيق العظم ورشيد رضا وشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب، ثم خير الدين الزركلي وعادل زعيتر وإسعاف النشاشيبي وصاحب جريدة «الشورى» محمد علي الطاهر، ولست أحصيهم ولكن أمثّل لهم بمن خطرت على بالي الآن أسماؤهم.

وكانت أكثر الصحف يملكها ناس من نصارى الشام كالأهرام والمقطَّم والمقتطَف والهلال، حتى أنشأ الشيخ علي يوسف جريدة «المؤيّد» ومصطفى كامل «اللواء» . وكانت أكثر دور النشر لشاميين تمَصّروا؛ كدار الهلال، ودارَي الخانجي والبابي الحلبي اللتين نشرتا من المخطوطات ما يملأ مكتبة كاملة، ثم الشيخ منير الدمشقي وحسام الدين القدسي، وقبلهما دار المنار والمطبعة السلفية لمحبّ الدين، التي خلّصت المؤلّفين من هذا المرض الذي نحسّ أوجاعه ولا نجد الدواء له، مرض الأخطاء المطبعية التي طالما فكّرت -من غيظي منها- أن أدع كتابة هذه الذكريات والفتاوى وأن أحرّم على نفسي النشر في الصحف! كانت «السلفية» (كما كانت قبلها «الأميرية» ببولاق) دار الأمان من الأخطاء، لأن خالي محبّ الدين كان يصحّح تجارِب الطبع بنفسه، والأميرية كان يصحّح فيها أكابر علماء مصر كالشيخ نصر الهوريني صاحب «المطالع النصرية» .

أقول: إن مصر كانت هي الميدان المنوَّر، من أحب أن يُرى مكانه ذهب إليها أو نشر آثاره فيها، حتى إن الممثلين والموسيقيين لا يُعرَفون إلاّ إنْ عرفت بهم مصر، يأتونها مغمورين فتجعلهم

ص: 397

مشهورين: نجيب الريحاني (من الموصل)، جورج أبيض، أنور وجدي (من دمشق)، وقبلهم أبو خليل القبّاني (من دمشق) وسعاد محمد وفايزة وبديعة، وبنات الخطاط حسني البابا الدمشقي: نجاة وسعاد وغيرهن. فما أحبّ أن أكون داعية للمغنيات، وإن ذكرت مَن ذكرت فللتاريخ لا لتمجيدهنّ ولا ليكنّ قدوة يُقتدى بهنّ.

* * *

وكان الحدث الذي عرّف مصر بأدباء الأقطار العربية وزادهم معرفة بأدبائها هو إنشاء مجلّة «الرسالة» . ولقد كتب كثيرون عن الرسالة، ولكن لم يُكتب بعدُ التاريخ المرجوّ لها. وتحت يدي كتاب عن «الزيات والرسالة» أهداه إليّ الأستاذ الرفاعي وهو الذي نشره، فيه الكثير ولكن الذي فات مؤلّفَه أكثر. ولست ألومه فقد بذل فيه جهده وأودعه كل ما بلغته يده، ولكنه وُلد بعد إنشاء الرسالة بثلاث سنوات كما كتب على غلاف كتابه، ولما أُغلقت كان يدرس في المدرسة مع الطلاب، ولو أنه مشى معها (مثلي) طريقَها كله، وكتب فيها طول عمرها، وتسلم الإشراف عليها شهوراً طويلة من سنة 1947، وعرف كتّابها وشهد معاركها، لكان كتابه عنها أجمل وأجمع. وله مع ذلك الشكر والتقدير.

عرفت الزيات قبل الرسالة فيمن عرفت من أدباء مصر، قراءة لهم لا لقاء بهم. ولما صدر كتابه في تاريخ الأدب كنّا في سنة البكالوريا فقرأناه وفضلناه على «الوسيط» ، وقرأت له «آلام فرتر» و «رافائيل» ، وبلغ إعجابي بهما وحبي لهما الغاية لأني كنت في طَراءة الشباب وتيقّظ العاطفة وتفتّح النفس، وطربت لأسلوبهما

ص: 398

الذي قلت (ولا أزال أقول) إنه نموذج للترجمة الأدبية، وإن تبيّن لي لمّا قرأنا الأدب الفرنسي أنه لم يلتزم نقل ما كتب مؤلّفا القصتين. ولا يضرّه إن لم يلتزمه، ولو ترجمها ترجمة حرفية كما يفعل التراجمة الآن لأسقطهما وأذهب بهاءهما ومسخهما.

وعرفت الزيات لما مرّ بدمشق وألقى في المجمع العلمي محاضرة عن «ألف ليلة وليلة» ، ولكني لم ألقَه.

وأنا لم آتِ «الرسالة» مبتدئاً، بل لقد كنت لمّا جئتها كاتباً معروفاً في بلدي، نشرت مئات (مئات حقاً لا مبالغة) من المقالات في السياسة وفي الحماسة وفي النقد وفي القصص التاريخي وفي المناظرات، حتى في المسرح. ولست أنكر فضلها عليّ ولكن لا أحب أن أبخس نفسي حقها، فإذا عُدّ مَن تخرج في الرسالة، أي من بدأ منها وفيها، فلست منهم، وإن كان للرسالة ولصاحبها أكبر الفضل عليّ؛ فقد فتح لي صدره واتخذني أخاً وولداً له، واتخذتُه أستاذاً ووالداً أو أخاً كبيراً، ولم أرَ منه على طول ما صحبتُه في العمل وفي النزهة وفي زياراتِ مَن أخذني لزيارتهم وفي مجالس المفاكهة أو المجادلة في مصر، وفي دمشق وفي قراها وجبالها لمّا أخذته أنا وأنور رحمه الله ورحمه) إليها، لم أرَ منه إلاّ أطيب الخلق وأنظف اللفظ وأجمل المعاشرة. لقد كان صادق الودّ، عفّ اللسان، صافي الجنان.

ما كنت أول من نشر في الرسالة من أدباء الشباب في الشام؛ لقد كتب فيها قبلي من إخواننا سامي الدهّان وأنور العطّار وحلمي اللحّام وجميل سلطان، رحمهم الله، وأخي ناجي نشر فيها قبلي

ص: 399

ترجمة شعرية لقصيدة للشاعر الفرنسي أندره شينيه عنوانها «اللقاء العجيب» ، وخليل هنداوي.

ولا تؤاخذوني إن ذكرت حقيقة فيها مدح لنفسي، فأنا أعلم أن أثقل كلام على أذن السامع ما فيه ثناء من المتكلّم نفسه، ولكنني أسجّل حقائق مكتوبة منشورة مَن طلبها وجدها، لا أخترعها ولا أدّعيها. ذلك أن الزيات رحمه الله -بأستاذيته وخبرته- كان يجعل لمن يكتب في الرسالة درجات، فمنهم من ينشر اسمه مجرداً بلا لقب، ومن يلقّبه بالأديب، ومن يقول عنه الأستاذ. وكل الذين نشروا قبلي في الرسالة كتب أسماءهم مجردة إلاّ أنور العطّار، لقّبه حيناً بشاعر الشباب السوري ثم أعاده إلى الاسم المجرد، وأنا كتب عني (ولا مؤاخذة) من أول يوم «للأستاذ فلان» ، وكان يضع مقالتي بعد الطبقة الأولى من الكتّاب الكبار مباشرة، وأول من أخذ من الرسالة مكافأة مالية على مقالاته بعد الرافعي والعقّاد وطه حسين وأمثالهم هو كاتب هذه الذكريات.

نُشرَت أول مقالة لي في العدد الثاني والعشرين (16 شعبان 1352)، وكان عنوانها «سؤال». قلت فيها:

إذن فأخبرني يا سيدي: هل تنشر الآثار -إذ تنشرها في «رسالتك» - لأنها وافقت خطّة معروفة اختَطّتها لنفسها الرسالة في الأدب، وطريقة معيّنة اتخذَتها، أم أنت تنشر كل جيّد يُبعَث به إليك، لا تبالي منه إلاّ بشرف القول وحسن الأداء والبلاغة في التعبير عن القصد؟ وهل تفعل هذا إلى أمد قريب ثم تطلع على الناس بخُطّتك الأدبية وتحمل كتّابك عليها، أم أنت تفعله

ص: 400

أبداً؟ ثم أخبرني: ألا ترى أن الأدب العربي قد شبّ ولم يعُد طفلاً يدلَّل ويرقّص، وأن الإيمان به قد خالط قلوب الأدباء فلم يعودوا من المؤلَّفة قلوبهم الذين يُسترضَون ويُعطَون لئلاّ يَجنحوا إلى الردّة بعد الإيمان؟ وأن من مصلحة هذا الأدب أن يتفق طائفة من شيوخه وقادته على مذهب واحد فيه، ثم يعلنوا هذا المذهب للناس ليتبعوه ويؤثروه؟ ومذاهب الأدب كثيرة، ولكنا منها بين اثنين: مذهب «الأدب للفن» ومذهب «الأدب للحياة» . أنعمل وغايتنا «الجمال الفني» وحده، وسواء لدينا أكان هذا الجمال في مقطوعة ماجنة أم قصّة مفسدة أم مقالة ملحدة، وسواء لدينا

أم نعمل وغايتنا تسخير الأدب للقضية الكبرى، واتخاذه أداة لتحقيقها ووسيلة من وسائل الإصلاح، الإصلاح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي؟ أوَلا ترى -ياسيدي- أن هناك حقيقة أسمى من الحقيقة الفنية (إن كان للفن حقيقة)؟ وأنه لا يجوز أن نقول بمقالة بعض الفرنجة «الفن للفن» لأن هذا هو القياس مع الفارق، ولأن لأولئك مدافع وأساطيل وكياناً واستقلالاً، ونحن قوم يبنون لأنفسهم كِياناً واستقلالاً، فيجب أن نجمع قُوانا كلها على هذا البناء وأن نجعل الأدب في مقدّمة هذه القوى

إلى آخر ما جاء في المقال الذي صيغ صياغة السؤال. وكنت أريد به أن تكون «الرسالة» من المجلاّت الملتزمة، لا بما تُلزِمها به أهواء الحكّام أو شهوات القراء أو أسباب الرّواج، بل تلتزم بألاّ تنشر ما ينافي الدين وما ينافي الخلق الكريم وما يعارض الحقّ والعدل.

ص: 401

وقد علّق عليها الأستاذ الزيات بهذه الكلمة: يسأل الأستاذ الفاضل: أتنشر الرسالة ما تنشر من الأدب لأنه يسير في طريقها المرسومة إلى غايتها المعلومة، أم تنشره لأنه امتاز بشرف القول وبلاغة العرض وحسن الأداء؟ ثم يصوغ هذا السؤال صيغة فنية فيقول: أنعمل وغايتنا الأدب أم نعمل وغايتنا الأدب للحياة، إلخ.

(إلى أن قال): أمّا خطّة «الرسالة» وغايتها فلعل الأستاذ يذكر أننا رسمناها في استهلال العدد الأول منها، وما نشرنا ولن ننشر إلاّ ما يساير هذه الخطّة بوجه من الوجوه، نقول بوجه من الوجوه لأن القول بأن «يتفق طائفة من شيوخ الأدب

» قول تأباه الطبيعة وتنكره أصول الفطرة، إلخ.

(إلى أن قال): وهذه جملة قصيرة من الجواب، أما سائر الجواب فستقرؤونه مفصَّلاً في العدد المقبل.

* * *

وفي العدد الثالث والعشرين كتب الأستاذ أحمد أمين مقالة مطوَّلة عنوانها «جواب على سؤال» ، قدّم لها الأستاذ الزيات بكلمة قال فيها: وجّه الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الماضي إلينا وإلى كتّاب الرسالة سؤالاً خلاصته (وذكر خلاصة السؤال)، وقد أجبنا عن بعضه وتفضّل صديقنا الأستاذ أحمد أمين فأجاب تفصيلاً عن البعض الآخر.

وقال الأستاذ أحمد أمين: لك الحقّ -يا أخي- أن تصرخ ونصرخ معك في وجه زعماء الأدب العربي، طالبين أن يلتفتوا

ص: 402

إلى الأدب القومي ويُكثِروا القول فيه، فالعالَم العربي كله يجيش صدره بآلام وآمال، والأدب يجب أن يعبّر عن هذه الآلام والآمال بأسلوبه الرشيق وعواطفه القوية وخياله الرائع، إلخ. (إلى أن قال): ثم التفَتوا إلى الأدب القديم فلم يجدوا فيه غذاءهم كافياً، ليس فيه شعر يتغنّى بالحرية كما نودّ ولا بالقومية كما نحبّ

(إلى أن قال): فلك الحقّ أن تطلب من الزعماء وأن تطلب من «الرسالة» أن تدعو الكتّاب والشعراء أن يلتفتوا إلى مواطن النقص فيكملوها

لك الحقّ أن تنعى على الأدباء أن أكثرهم لم يتّجه هذا الاتجاه إلاّ قليلاً. وإلاّ فأين هو أدبنا القومي؟ وأين التغنّي بمناظر طبيعتنا؟ وأين الروايات الاجتماعية تصفنا؟

(إلى أن قال): وبعد، فموقف الرسالة -كما أفهم من مبادئها- يجب أن يكون الدعوة إلى تكميل النقص في الأدب العربي. وأن يكون موقفها -فوق الموقف الأدبي- موقف المصلح؛ فترفض أن تنشر الأدب الساقط المرذول المضعف للخلق المفسد للرجولة، إلخ. ويجب أن تكون بجانب دعوتها إلى الإصلاح سجلاًّ للنزعات الأدبية مع اختلاف أنواعها، ما لم تكن النزعة مستهتِرة تُميط قناع الحياء وتخرق حجاب الحشمة. وأخيراً لك الشكر -يا أخي- على ما حوى كتابك من غيرة صادقة وعاطفة نبيلة، وما أثرتَ من موضوع يستحقّ العناية ويدعو إلى طول التفكّر. أحمد أمين.

والمقالة منشورة كلها في الجزء العاشر من كتابه «فيض الخاطر» .

* * *

ص: 403

حاشية: سألني سائل: هل قرأت على الكوثري الذي قلت عنه «أستاذنا» ، وهل أنت معه في كلّ ما كتب؟

والجواب: لا؛ ما قرأت عليه، ولكن قلت عنه «أستاذنا» لأني استفدت من علمه ولأنه كان السبب في طبع «رسائل الإصلاح» ، وهي أول ما كتبتُ. ولست معه في كلّ ما كتب ولا مع غيره؛ أنا لا أمشي مع أحد أبداً مغمض العينين، بل آخذ من كل عالِم وأدَع، إلاّ قول الله وما صحّ من قول رسول الله ‘، آخذه كله وأسأل الله أن يعينني على العمل به.

والكوثري -كغيره- يصيب ويخطئ، ولكني قدّرتُه لعلمه ولِمَا أحسنَ إليّ. ولم يجمعني به إلاّ بضعة مجالس في دمشق، ومجلس في مصر خرجت منه مخالفاً له في كلام قاله عن ابن تيمية

بعد أن تحررت من كره ابن تيمية في صباي بتأثير بعض مشايخي، ثم من الإفراط في حبه بتأثير خالي محبّ الدين وأستاذي كرد علي، ثم العودة إلى الانصراف عنه بتأثير الكوثري، ثم الرجوع إلى الإقبال عليه بتأثير شيخنا بهجة البيطار، ثم تحررت من هذا كله ونظرت إليه بعين الإنصاف فرأيت عظيم مزاياه وواسع علمه، وأنه لو سبق به الزمان لكان أحد الأئمة المتبوعين. وبقيَت مسائل مما يقول به لم أستطع إلى الآن قبولها، وكل عالِم يؤخَذ منه ويُترَك إلاّ ما بيّن فيه حكم الله وأيد بيانه بالدليل القطعي.

* * *

ص: 404

المحتويات

الحلقة (39) رسائل «سيف الإسلام»

5

الحلقة (40) في اللجنة العليا لطلاّب سوريا

15

الحلقة (41) في المقاومة الوطنية

27

الحلقة (42) دمشق، صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها

41

الحلقة (43) جريدة «الأيام»

53

الحلقة (44) أطفال الصّحراء

67

الحلقة (45) من الصّحافة إلى التعليم

79

الحلقة (46) أمّي وأبي

93

الحلقة (47) يوم ماتت أمّي

105

الحلقة (48) هنا مسقط رأسي وهنا قبر أبي وأمّي

121

الحلقة (49) مآتم الشام وكيف كان مأتم أمّي

135

الحلقة (50) المدرسة الصيفية ومجلة البعث

151

الحلقة (51) الدعوة إلى العقال

163

الحلقة (52) ذكريات عن الأساتذة والمشايخ

173

الحلقة (53) ذكريات عن الجامعة والامتحانات

189

الحلقة (54) فارس الخوري

203

الحلقة (55) مع أستاذنا شفيق جبري

217

الحلقة (56) في سَلَمْيَة

231

ص: 405

الحلقة (57) في مدرسة سَلَمْيَة

245

الحلقة (58) العودة إلى دمشق

259

الحلقة (59) بَرَدى والغوطة

277

الحلقة (60) جلسة في مقهى (في صورة قديمة)

293

الحلقة (61) في مدرسة سَقْبا

307

الحلقة (62) دفاع عن فلسطين

323

الحلقة (63) الشعر والأدب عند أساتذتنا ورفقائنا

337

الحلقة (64) من أصعب الأيام في حياتي

349

الحلقة (65) من سَقْبا في بطن الغوطة

إلى رَنْكوس في رأس الجبل

363

الحلقة (66) المَجْمَع الأدبي في دمشق

377

الحلقة (67) ظهور مجلّة «الرسالة»

391

ص: 406

من آثار المؤلف

1 ـ أبو بكر الصديق

1935

2 ـ قصص من التاريخ

1957

3 ـ رجال من التاريخ

1958

4 ـ صور وخواطر

1958

5 ـ قصص من الحياة

1959

6 ـ في سبيل الإصلاح

1959

7 ـ دمشق

1959

8 ـ أخبار عمر

1959

9 ـ مقالات في كلمات

1959

10ـ من نفحات الحرم

1960

11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7)

1960

12ـ هتاف المجد

1960

13ـ من حديث النفس

1960

14ـ الجامع الأموي

1960

15ـ في أندونيسيا

1960

16ـ فصول إسلامية

1960

17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق)

1960

18ـ فِكَر ومباحث

1960

ص: 407

19ـ مع الناس

1960

20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات

1960

21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5)

1960

22ـ تعريف عام بدين الإسلام

1970

23ـ فتاوى علي الطنطاوي

1985

24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8)

1985ـ 1989

25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني)

2000

26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني)

2001

27ـ فصول اجتماعية

2002

28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم

2002

29ـ نور وهداية

2006

إلى القرّاء الكرام

لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب.

مجاهد مأمون ديرانية

[email protected]

ص: 408