الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-52 -
ذكريات عن الأساتذة والمشايخ
أنا أغبط من يدّون ذكرياته فيجد أمامه مذكّرات له كتبها في حينها، تذكّره بما نسي وتعيد إليه ما عزب عنه، وأسائل نفسي (حين لا ينفع السؤال): لماذا لم أكتب أنا مذكّراتي؟ لماذا لم أحفظ مراسلاتي؟ لماذا أقعد لأكتب الحلقة فلا أجد ما أرجع إليه وأعتمد عليه إلاّ ذاكرة كانت كالقلّة التي تركتُها ممتلئة بالماء فعدت فلم أجد إلاّ صبابة في قعر الإناء، قد ذهبَت بمائها الشمس والريح فتبخّرَت كما تبخّرَت من رأسي الذكريات.
ولو كان معي هنا أحد من رفاق الصبا أو من أصحاب الشباب ممّن سايرني في بعض طريق الحياة، أقول له ويقوله لي، أذكّره بما كان ويذكّرني، لأعانني على ما أنا فيه؛ لأن المَشاهد والأخبار يجرّ بعضها بعضاً، وما تسمعه يذكّرك بشبيهه أو بنقيضه أو بما يتصل به. وهذا هو «تداعي المعاني» . ولكني كالذي يغنّي في الوادي المقفر فلا يجد رَجْعاً لغنائه إلاّ صداه!
على أني أشكر «الشرق الأوسط» ومن قبلها «المسلمون» ؛ فلولاهما (ولولا «المسلمون» خاصّة) لما قرأتم شيئاً من هذه
الذكريات. إنها نعمة من الله عليّ أن اضطرّتاني إلى كتابة ما بقي عندي منها. ولكن نِعَم الدنيا لا تصفو ولا تخلو من المنغّصات، والمنغصات هي هذه الأخطاء المطبعية التي كان صديقنا الكبير النشاشيبي يسمّيها «التطبيعات» . ولا يؤذيني منها أمثال «أغاني أبيالفرج الأجهاني» فإن القارئ يدرك أنها من صَفّاف الحروف، ولكن يؤذيني أن يُنسَب إليّ أني كتبت «عشرة مرات» بدلاً من «عشر مرات» و «سكراناً أو نعساناً» بدلاً من «سكران أو نعسان» كما جاءت في «باب الفتاوى» ، كأني ما تعلمت باب الاسم الذي لا ينصرف ولا علّمتُه. وقد قلت لكم في الحلقة السابقة إنني فتحت «المدرسة الصيفية» لتعليم العربية من أكثر من نصف قرن.
بلى، الآن عرفت ما هو «الفعل» الذي لا ينصرف. إنه هذه «التطبيعات» . إنها «لا تنصرف» إلاّ إن صرفها الأستاذ الشيباني! بنو شيبان -يا أستاذ- صرفوا عنّا العار وأكسبونا الفخار في «ذي قار» ، أفلا تصرف أنت عني هذه الأضرار؟
* * *
الكلام عن شاكر بك الحنبلي في حديث أبي عجاج يجرّني إلى بعض الحديث عن كلية الحقوق التي كنت من طلابها سنة 1931.
قُبلت طالباً فيها (كما يقول السجلّ الرسمي الذي أمسك في يدي الآن صورة مصدَّقة عنه) في 4/ 11/ 1930، مع أننا أخذنا البكالوريا الأولى قبل ذلك بسنتين، فسعينا أنا ورفيقي محمد الجيرودي فقبلونا بها طالبَين في معهد (أي كلية) الحقوق، بشرط
ألاّ نرتقي إلى الصف الثاني فيها إلاّ بعد نيلنا البكالوريا الثانية. فدخلها هو وسافرت أنا إلى مصر (كما عرفتم) وعدت بعد إغلاق باب القبول، فسبقني بسنتين أضعتهما كما أضعت سنتين من قبل بتبدل الدول وذهاب الأتراك وقدوم الشريف، ثم بخروج الشريف ودخول الفرنسيين.
وكانت الجامعة السورية مؤلفة من كلية الطب وبناتها (طب الأسنان والصيدلة) ومن كلية الحقوق، وما أدري لماذا كنا نسمي الكلية المعهد فنقول: معهد الحقوق ومعهد الطب، مع أن الكتابة الفرنسية في العنوان الرسمي تسمّي المعهد (La Faculte)، أي الكلية.
أما كلية الطب فهي قديمة، أعرف ممّن تخرج فيها قبل سنة 1920 جماعة بقي منهم الدكتور حسني سبح، وهو اليوم رئيس المجمع العلمي (أي مجمع اللغة العربية) في سوريا، وهو عالِم في الطب له بمصنّفاته الجليلة فيه منزلة عالمية. وممّن ذهب إلى لقاء ربه الدكتور أحمد حمدي الخياط أول من دَرّسَ علم الجراثيم، درسه في معهد باستور ثم جاء يعلّمه الطلاّب، وكل من صار طبيباً في الشام من سنة 1920 إلى أن «تقاعد» إلى أن توفّاه الله من سنتين هم من تلاميذه، وكان ملمّاً بالعلوم الإسلامية مطّلعاً عليها، يتقن العربية والتركية والفرنسية، وهو عارف الإنكليزية والألمانية واللاتينية واليونانية، وهو أحد مَن وضع المصطلحات العربية في الطب لأن كلية الطب في دمشق ما درّسَت علومَ الطب كلها إلاّ بالعربية، فكانت حُجّة قائمة على
من يزعم أن لسان العرب يضيق بهذه المصطلحات، وهو وزميله الدكتور الجرّاح مرشد خاطر صاحبا معجم المصطلحات الذي يعلّق عليه من سنين -في مقالات مسلسلة في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق- الدكتور العالِم حسني سبح أطال الله عمره.
وممّن أذكره الآن من واضعي هذه المصطلحات التي حُقّ لدمشق ولكليتها أن تفخرا بها الدكتور صلاح الدين الكواكبي، وهو ابن الشيخ مسعود الكواكبي الذي كان عضواً في محكمة التمييز (أي النقض) وكان صديقاً لأبي، ولقد حضرت له مجالس لا أحصيها ورأيته في سفره وحضره وطعامه ومنامه، وسأتحدث عنه يوماً، وعمّه (كما أظن) هو مؤلف «طبائع الاستبداد» المشهور.
والدكتور جميل الخاني، والدكتور محمد محرَّم الذي كان أبوه (مصباح بك محرم) رئيسَ محكمة التمييز على عهد الشريف فيصل 1919، وأنا أعرفه وحضرت مع أبي كثيراً من مجالسه، وكان يدرّس في كلية الحقوق قبل أن أدخلها، وكان على عهد العثمانيين مفتّشاً على القضاة. والدكتور شوكة الشطي، ولا يزال فيما أعلم حياً، مدّ الله في عمره ورحم من مات من الأساتذة ممّن سميت ومن نسيت أن أُسَمّي.
وكلية الطب في دمشق ليست في عمر كلية الطب في قصر العيني في مصر أقدم كليات الطب في العالَم العربي، ولا في شباب كلية الطب في جامعة الملك سعود. هي كالبنت أو الحفيدة للأولى، ولكنها كالأم أو الجَدّة للثانية.
أما كلية الحقوق فلا أعرف الآن عمرها، ولكنه يزيد عن السن الذي يتقاعد فيها الموظفون ويُحالون على المعاش، لذلك هبطَت أثمان شهاداتها الآن في «سوق الوظائف» ، لا لنقص فيها ولا لخلل في مناهجها ولا لضعف في مدرّسيها، بل لأن حَمَلة شهادتها المتخرجين فيها زاد عددهم عن الحاجة إليهم، وإذا كثر العرض قلّ الطلب فرخصَت السلع.
ولقد سُهّلت شروط الدخول إليها مرة سنة 1928، حين قُبلنا فيها بالبكالوريا الأولى، فبلغ عدد طلاّب السنة الأولى المئة أو يزيدون عليها، فكان ذلك حديث الناس وموضع تعجّبهم، فجاء بعد ذلك وقت بلغوا فيه ثلاثة آلاف.
* * *
كانت المواد التي درسناها في الكلية هي الحقوق الأساسية (أي الدستورية)، والحقوق الدولية العامّة، والحقوق الدولية الخاصّة، والمجلّة (وهي القانون المدني)، والاقتصاد، والتجارة البرّية، والتجارة البحرية، والحقوق المدنية الفرنسية (أي القانون المدني الفرنسي)، والحقوق الإدارية، وأصول المحاكمات الإدارية، وعلم المالية، والحقوق الجزائية (الجنائية) وأصول المحاكمات الجزائية، والحقوق الرومانية (أو القانون الروماني)، وأحكام الزواج، والوصايا، والفرائض، وأحكام الأوقاف، وأحكام الأراضي، واللغة العربية، واللغة الفرنسية، والأساليب الحقوقية، وأصول الفقه.
وكان الأساتذة طبقات، منهم واحد سأفرد للكلام عنه
حلقة، هو العالِم الشاعر الفحل الخطيب البارع في العربية وفي الإنكليزية رئيس مجلس النوّاب مرات ورئيس الوزراء، وكان رئيس مجلس الأمن مرة، وهو أحد عباقرة العرب في هذا العصر، وأسأل الله أن يكون حقاً ما كتبه عنه مَن كان مُلازمَه في مرضه وحاضرَه في وفاته من أنه مات مسلماً، وهو فارس بك الخوري.
وطائفة من العلماء، منهم واحد كان مفتي الشام وكان أبوه من قبله مفتي الشام، وكان يدرّسنا الأحوال الشخصية (أحكام الزواج والطلاق وما يتصل بهما) والفرائض والوصايا وأصول الفقه، وهو النموذج الكامل لعلماء القرن الماضي، وهو الشيخ أبو اليسر عابدين.
علماء القرن الماضي كانوا -على الغالب- علماء بما في الكتب، حرثوها حرثاً وقتلوها تنقيباً وبحثاً، ولكنْ وقف أكثرهم عندها لم يجاوزها ولم يفكّر أن يزيد عليها. ولقد بدأت هذه العلوم كما تبدأ الأنهار الكبار: ينابيع كثيرة تخرج منها السواقي الصغيرة، ثم تتجمع في جداول، ثم تجتمع الجداول فيكون النهر. ولو رسمنا خطاً بيانياً لهذه العلوم لوجدناه يرتفع ويعلو، حتى إذا جاء القرن الرابع الهجري بلغ القمة أو كاد، ثم يستوي لا يصعد إلاّ قليلاً إلى القرن الثامن؛ يصدق هذا الحكم على النحو والبلاغة وعلوم العربية كما يصدق على الفقه والحديث وعلوم الدين. أو هي كالمحصولات الزراعية تأتي من المزارع، ثم تجتمع في الأسواق، ثم تُجفَّف أو تُحفَظ، ثم توضع في المستودعات الكبار. لقد كان القرن التاسع عصر المستودَعات تُكدّس فيها
البضاعة، وهذه المستودَعات هي دوائر المعارف (المُعْلَمات، أي الإنسيكلوبيديات)(1). في هذا القرن أُلّف «الإتقان في علوم القرآن» و «المُزهر» للسيوطي في علوم اللغة، وفيه أو قريب منه أُلّفت «نهاية الأرب» للنُّوَيري و «صُبح الأَعشى» للقَلْقَشَندي و «فتح الباري» و «لسان العرب» . وهذه المجموعات الكبار لم تؤلَّف في قرن واحد، ولكنها أُلِّفت كلها بعدما وقف الابتكار وانقطع التجديد، فصار الفقه رواية لأقوال الأئمة لا استنباطاً من كلام الله وسنّة رسوله ‘. والنحو صار قواعد جافة منقطعة عن صحيح الشواهد وبليغ المأثور من كلام العرب.
والبلاغة لا تجعل دارسها بليغاً إذا نطق أو كتب بل حافظاً لما وقفَت عنده لمّا جَفّ ينبوعها وانقطع جَريها؛ كانت البلاغة «نقداً» منظَّماً، كلما جاء شاعر عبقري أو أديب بارع بصورة جديدة من صور التعبير الجميل عرّفوها، ثم صنّفوها ثم وضعوها موضعها من علم البلاغة. فإن جاء مَن يُدخِل كناية في استعارة سمّوا ما جاء به «استعارة مَكْنيّة» ، وما يَحسُن به الكلام من زينة اللفظ أو المعنى جعلوا له عِلماً هو «علم البديع» ، وصنّفوا هذه «المُحَسّنات» وابتكروا لها الأسماء. ولبثَت البلاغة صاعدة إلى الجرجاني ثم السكّاكي، فجاء القَزويني فلخّص ما قاله، فوقفنا عند «التلخيص» نشرحه ثم نختصر الشرح، أو نختصره ثم نشرح المختصَر! كانت البلاغة نقداً حياً يمشي مع الأدب الحيّ، فصارت قواعدَ باردة ميتة لا تبرح مكانها، ولبث الأدب (بشعره ونثره) ماشياً فانقطع ما كان من سبب بين البلاغة والأدب.
(1) لماذا لا نسمي دائرة المعارف «المُعْلَم» على وزن المُعْجَم؟
كان علماء القرن الماضي والقرون المتأخّرات قبله علماءَ رواية ونقل، يفهمون ما تركه السلف ولكن لا يزيدون عليه ولا يستطيعون أن يأتوا بمثله، كان حرصهم على الكتب لا على العلم الذي أُلِّفت لدراسته هذه الكتب. لذلك تقرؤون في ترجمة الواحد منهم أنه قرأ كتاب كذا وكتاب كذا وأنه أقرأ تلاميذه كتاب كذا وكتاب كذا.
فالشيخ أبو اليسر عابدين كان نموذجاً لهؤلاء العلماء، ولكنه كان نموذجاً كاملاً. قرأ على أبيه الشيخ أبي الخير عابدين الحاشية -مثلاً- بأجزائها الخمسة الكبار ثلاث مرات، وأقرأها من بَعْدُ أكثر من ثلاث عشرة مرة. وقرأ عشرات من الكتب، لا كما قرأت أنا قراءة سرد لأعرف ما فيها ولأرجع عند الحاجة إليها، بل كما عهدنا طلاّب الأزهر يقرؤون قبل أن ينتقل الأزهر إلى رحمة الله وتسكن منازلَه هذه الجامعةُ
…
وَرِثَتْهُ وليست من وَرَثَته الشرعيين!
كان الشيخ أبو اليسر فهرساً ناطقاً (كمبيوتر) لكتب الفقه الحنفي، تسأله عن المسألة فيدلّك على موضعها من الكتاب الذي هي فيه كأنه هو الذي وضعها بيده، ولكن إن عرضَت مسألة جديدة ليست فيها لم يقدر على جوابها. وكان له مثل هذا الاطلاع على أصول الفقه (الحنفي) وكتبه، ولكن كتابه الذي ألّفه لنا في الأصول كان أعقد الكتب. وأنا لم أتعب في «الأحوال الشخصية» التي كان يدرّسها ولا في الوصايا والفرائض، لأني كنت قد قرأتها قبل أن أقعد بين يديه طالباً في كلية الحقوق، أما أصول الفقه فلم أدرسه من قبل ولا فهمته من كتابه، فهل تدرون مَن الذي ضوّأ لي
طريقه وجرّأني على سلوكه؟ إنه أستاذنا سليم الجندي.
أما الكتب القديمة، المنار والتحرير (1)، فما كنت لأستطيع قراءتها فضلاً عن فهمها. وأول من أعرفه عرَض هذا العلم عرْضاً سهلاً واضحاً هو الغزالي في «المُسْتصفى» ، ومن علماء القرن الحاضر أو قبله بقليل الشيخ الخضري، ثم جلاّه للناس ووضّحه وشرحه الشيخ عبد الوهاب خلاّف، الذي عرفتُه في مصر وفي الشام واستفدت منه ومن زميله الشيخ علي الخفيف، وأحسب أن الأول عقله أكبر من علمه والثاني علمه أكبر من عقله. وكان الشيخ خلاّف يملك قدرة عجيبة على «تبسيط» المعقَّد من المسائل وتوضيحها، وكان مثله -ممّن عرفت- الشيخ شلتوت الذي اجتمعت به عند الشيخ عبد المجيد سليم في مصر لمّا أخذني الزيات إليه فطالت صحبتي إياه. من هذه الكتب فهمت أصول الفقه، ثم ألِفته، ثم إني -كما أظن- أتقنتُه. وممّن ألّف فيه الشيخ محمد أبو زهرة رحم الله الجميع.
أعود إلى الشيخ أبي اليسر عابدين. لقد كان أستاذاً في كلية الحقوق فخطر له أن يَدرس الطب، ودراسة الطب لا تتم إلاّ بمعرفة اللغة الفرنسية فتعلّمها، وصار طالباً نظامياً في «الطب» وهو أستاذ يدرّس في «الحقوق» ، حتى حاز شهادة «دكتور في الطب» سنة 1926، وحاز على شهادة «الكولكيوم» الفرنسية، وفتح عيادة فكان يمارس فيها التطبيب ويدرّس في الحقوق، وله
(1)«التحرير في أصول الفقه» لابن الهمام الحنفي و «منار الأنوار» للنسَفي، من أشهر كتب الأصول ولهما شروح كثيرة (مجاهد).
حلقة في جامع الورد الذي يؤمّ فيه ويخطب الجمعة، وكان يُفتي المستفتين ويُقرئ في داره مَن يقصده من طلبة العلم، وكانت له مكتبة كبيرة فيها الكثير من المخطوطات النادرة فهو يعكف عليها، يقرأ دائماً ويكتب، ومن مكتبته أخذ صديقنا وأستاذنا عزّالدين التّنوخي مخطوطة «الإبدال» لأبي الطيّب اللغوي التي طبعها المجمع العلمي في دمشق. ترك ثلاثين مؤلَّفاً مكتوبة بخطه رأيتُها وكتبت عنها في جريدة الأيام الدمشقية في 18/ 5/1961 (1)، ما طُبع منها إلاّ واحد هو كتاب «أغاليط المؤرّخين» .
ومن علماء الأساتذة سعيد مَحاسِن، وهو أقدر محامٍ عرفتُه في الشام ومصر في الدعاوى المدنية، نشأ طالب علم على طريقة المشايخ ثم درس الحقوق في إسطنبول وأخذ الشهادة منها، وصار سنة 1928 وزيراً في حكومة لم يكن الشعب راضياً عنها فخرجت المظاهرات ضدّها، وناله الكثير من الأذى فخرج منها بعد أشهر يحمل من الوزارة وِزرها. كان يدرّسنا «المجلة» ، وهي المادة الأساسية في كلية الحقوق، أصدرها العثمانيون بعد تأسيس المحاكم النظامية لتكون بمثابة القانون المدني، وضعَتها لجنة من كبار العلماء سنة 1286هـ وجمعَت في أولها القواعد الفقهية في مئة مادة، ترتيبها -في الجملة- حسن ولغتها جيدة، ولكنها أُخذت من المذهب الحنفي فقط. وثَقُلت على الحاكمين فوضعوا المادة 64 في قانون «أصول المحاكمات» العثماني
(1) في سلسلة مقالات «كل يوم كلمة صغيرة» ، وهي في كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» ص212 - 216 من طبعة دار المنارة الجديدة (مجاهد).
فنسفوا بها ربع المجلة، ولبثنا نحكم بها حتى جاء حسني الزعيم سنة 1949 فنسف ما بقي منها وجاء بالقانون المدني، وسيأتي حديثه. وللأستاذ سعيد محاسن شرح للمجلة جيّد، وأوسع شرح لها شرح الأتاسي، ولقدري باشا قانون وضعه هو لم يُعمل به على غرار المجلة، يستند إليه الأستاذ السنهوري كثيراً في بحوثه.
كان درس محاسن فيّاضاً بالفوائد، لا سيما حين يحدّث الطلاّب عن بعض ما مرّ به في قضاياه التي كان يرافع فيها. وكان -إلى علمه الواسع- ذكياً من أذكى مَن عرفت من الرجال، يظن خصمه في المحكمة أنه تمكن منه وأمسك بخناقه وضمن كسب القضية، فإذا به يتمسك بخيط كان خافياً عليه لم يلتفت إليه، فلا يتنبه إلاّ والخيط محيط بعنقه وإذا الرابح الأستاذ محاسن. صار نقيب المحامين وكان أكبر محامٍ في البلد وأجره أغلى أجر، على عقدة في لسانه ما انحلّت عنه حتى توفّاه الله. وكان أحدَ خمسة لو آتاهم الله مع العلم البيان وفصاحة اللسان لما قام لهم أحد. منهم أستاذنا سليم الجندي، وشيخ القضاة الشرعيين الفقيه الحنبلي سليل الفقهاء الحنابلة الرجل المستقيم النزيه الذي لا يعرف في الحقّ مجاملة ولا مساومة الشيخ حسن الشطي، وشيخنا أبواليسر، وشيخ مشايخنا العالِم المعمَّر الذي عاش مئة وثمانية عشر عاماً وعاشت معه ذاكرة قوية لم تضعف ونكتته صريحة لاذعة لم تخفّ، رئيس محكمة التمييز الشرعية الشيخ عبد المحسن الأسطواني.
ومن الأساتذة من كان قائماً بعمله ناجحاً فيه، لا هو بالعالِم
الظاهر علمه ولا هو بالجاهل المكشوف جهله؛ منهم الأستاذ شاكر الحنبلي. وكنا نعرف اسمه ونحن في الابتدائية على عهد العثمانيين أيام الحرب الأولى لأننا كنا ندرس تاريخ الملوك من بني عثمان في كتاب من تأليفه، وكان مهيباً وقوراً لا يتكلم أحد منا في درسه ولا يهمس، مع أننا نتكلم في درس غيره ونخرج وندخل، فإذا كان الدرس له لم يدخل منا أحدٌ بعدما يبدأ الدرس ولا يخرج منا أحد قبل أن يكمل الدرس. ولم يكن يزيد على ما في الكتاب، ولعله كان يحفظه، ولكنه إنْ سُئل أجاب بما يدلّ على وفر عنده من المعلومات. ولما أصدر كتاب «أصول الفقه» وأهداه إليّ وجدته يعرض فيه كتاب «المنار» عرضاً مفهوماً بأسلوب العصر، لكن ساءني منه أنه سرق من كتاب الشيخ عبدالوهاب خلاّف صفحات وصفحات، نقلها كما هي ولم يُشِر إلى مصدرها. ولم يمنعني كونه أستاذي أن أشير إلى هذه السرقات لمّا كتبت -كما طلب مني- نقداً للكتاب. ثم هبط من يَفاعه ونزع عنه جبّة الوقار، وهو في آخر العمر، ونزل إلى ميدان الصحافة فأنشأ مجلة «الأقلام» ، ودعاني إلى الكتابة فيها، فصرت أراه بالعين التي أرى بها كل صاحب جريدة أكتب فيها.
ومنهم أساتذة كانوا أقرب إلى الضعف، ولكنهم يسترون ضعفهم. وكان منهم واحد استمعت له المحاضرة الأولى (أو الدرس الأول كما كنا نقول)، فوجئت به أول دخولي الكلية يدور في غرفة الدرس يخطب ويتشدّق ويتقعّر ويشير باليدين، ولكني لم أخرج منه بكثير نفع، فكان رحى (طاحون) لها جعجعة وما فيها من الدقيق إلاّ قليل. ولكن بقي في ذهني إلى الآن شيء ممّا
قال لأنه كان يومئذ جديداً عليّ، هو أننا طلاّب جامعة وطالب الجامعة ليس كتلميذ المدرسة، فالتلميذ يُلقَّن العلم فيحفظه والطالب يعمل بنفسه بإرشاد أستاذه حتى يصل إليه، وفي المدرسة كتاب مقرّر يدرسه الطالب ويَعيه ويكون امتحانه فيما جاء فيه، وليس في الجامعة (اسمعوا هذا أيها الجامعيّون) ليس في الجامعة كتاب مقرَّر بل موضوعات مطلوبة يجمعها الطالب من مصادرها وينظّمها ويُبدي رأيه فيها، ثم يقدّمها للأستاذ بحثاً مُعَدّاً. والجامعة التي تفرض على طلابها كتاباً تمتحنهم فيه ليست جامعة بل مدرسة متوسطة! وما قاله صحيح، ولكني وجدته لمّا خبرته مثل بيانات المرشَّحين في الانتخابات، برامج كاملة ولكنها موقوفة التنفيذ، مواعيد ولكنها «مَواعيدُ عُرْقوبٍ أخاهُ بيَتْرَبِ (يَتْرَب لا يَثْرِب)، هو الأستاذ سامي الميداني المحامي الكبير، وكان يدرّسنا الحقوق الدولية.
ومن أفاضل المدرّسين الأستاذ ستيف، فرنسي عالِم كان المستشار التشريعي للدولة السورية، درّس لنا علماً هو كالمدخل إلى دراسة الحقوق، كان يُلقيه إلقاءً جيداً فصيح اللهجة واضح النبرة، يدلّ درسه على فهمه وعلمه، ولكن الذي نقله إلى العربية جاء به (نصاً
…
) معقّداً ركيكاً لا واضحاً ولا مفهوماً، لكنه كان في بداية العهد بالتدريس، وقد نضج بعدُ وصار من فضلاء الأساتذة وصار وزير الأوقاف، فحسن عمله في الوزارة، ثم دخل مع حسني الزعيم وصار رئيس وزرائه، ثم قُتل معه لمّا قُتل، هو الأستاذ محسن البَرازي.
ومنهم من هو ذكي الجنان طلق اللسان، قوي الشخصية له منزلة اجتماعية، لو أجهد نفسه قليلاً لكان من أحسن الأساتذة، ولكنه كسلان لا يُعِدّ لدرسه ولا يحفل به، كأنْ ليس له ضمير يحاسبه؛ هو أحد أركان الكتلة الوطنية وأحد المحامين الخطباء، الأستاذ فايز الخوري، الأخ الأصغر لفارس بك، وكان يدرّس الحقوق الرومانية.
وأستاذ نحبه لنُبْل نفسه وحُسْن خلقه، ولكنا لم نجد عنده علماً بل صَفّ كلام وتزجية ساعات، فهو أقرب إلى الجهل، أو هو جاهل. وآخَر لم يكن جاهلاً فقط بل عبقرياً في الجهل (إن كان في الجهل عبقريات!)، يدرّسنا الاقتصاد في كتاب كان في الأصل من تأليف شارل جيد المشهور، ترجمه جاويد باشا الوزير الاتحادي المشهور أيضاً (وهو يهودي الأصل من طائفة الدونمة واسمه دافيد (أي داود)، فحوّله، أو حوّله له أبوه جاويد ليكون كأسماء الأتراك، فيكون أبلغ في المكر وأشد في العداوة للإسلام). ثم كان الأستاذ الذي يدرّسه كلما وجد في الأساتذة أو الطلاّب مَن له قلم بليغ سأله أن يعود على عبارته بالتنقيح والتصحيح حتى صار كتاب أدب! ولم يكن يستر جهله بصمته بل يكشفه بلسانه، فيُضيع أولاً ربعَ ساعة بقراءة التفقد، يرفع النظارات عن عينيه حتى يقرأ الاسم ثم يعيدها حتى يبصر الطالب المسمّى، ثم يأمر أحد الطلاّب فيقرأ الفصل من الكتاب فيضيع ذلك ثلث ساعة، ثم يشرح. وهاكم مثالاً ممّا بقي في ذهني من شرحه: يمرّ في الكتاب ذكر السلسلة العددية والهندسية فيقول: أتدرون ما السلسلة العددية وما الهندسية؟ فنقول (للتسلية بشرحه
والهزء به): لا ندري. فيفكّر ويأخذ هيئة العالِم الجادّ ويقول: العددية يا أولادي هي التي تنقص والهندسية هي التي تزيد! وجاء مرة ذكر «ميزانتروب» (وهو اسم مهزلة كوميدية لموليير) فقال: أتعرفون من هو ميزانتروب؟ قلنا: لا. قال: هو عالِم من علماء الاقتصاد! قلنا: أفادك الله كما أفدتَنا.
* * *