المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دمشقصور من جمالها وعبر من نضالها - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌دمشقصور من جمالها وعبر من نضالها

-42 -

‌دمشق

صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها

عرفتم من سياق هذه الذكريات أني نشأت في مجتمع صغير، في بلد كان يوماً من عواصم الحضارة والعمران وقلاع القوّة والعِزّة، وكان حاكمه هو السيد المُطاع في ثلث المعمور من الأرض في بقعة تمتدّ من حدود الصين وأواسط روسيا إلى إسبانيا وقلب فرنسا، وكان البحر الأبيض المتوسط بحيرة في أملاكه الواسعة، يملك أكثر شطآنه وتتجول أساطيله في لُجّته وخلجانه. ثم تضاءل هذا الملك الكبير ونقص الدهرُ أرضَه من أطرافها، فضمّ بعضها إلى بعض حتى صارت دمشق بلدة تعيش على هامش الحياة. ولكن مَن كانوا فيها كانوا سعداء بهذه المعيشة لأنهم نشؤوا فيها ولم يعرفوا غيرها.

في هذا البلد وفي ذلك العهد فتحت عيني على الدنيا. كان قد وصل إلينا جانب صغير من حضارة العصر فقنعنا به، وكان لدينا إرث كبير من فضائل الماضي فحافظنا عليه. لا نهتمّ بسياسة ولا نتزاحم على رياسة، تركنا الأمر للوالي العثماني الذي كان

ص: 41

يدبّر بمعاونة «الدفتردار» الحكومة المدنية، والمشير الذي كان يتولّى الحكومة العسكرية.

يقوم أكثرنا بحق ربنا، فالمساجد ممتلئة والصلوات فيها قائمة، والناس عاكفون على حضور حلقات العلم فيها. ونقوم بحقّ أنفسنا فنتاجر ونعمل، ونكسب ونربح، ونلهو ونمرح، وإن كانت ملاهينا (التي كان يعرفها أمثالي) معدودة. نحرص على الصبحيّة (نزهة الصباح) في «صدر الباز» (حيث المعرض الدولي الآن، وكان مرجاً أخضر على كتف بردى، وهو وقف إسلامي) وفي الرّبوة، وهي مدخل الوادي الذي يأتي منه بردى، وهو من أجمل أودية الدنيا: بردى يجري في وسطه وأبناء بردى الستة على جانبيه، والشلالات تنحدر من الأعلى منها إلى الأدنى، ومن هنا جبل قاسيون ومن هناك جبل المِزّة، ومن الجهة الأخرى «الشرَف الأعلى» وفيه «الميزان» ، وقد قام فيه الآن مستشفى المواساة. وكان أجمل متنَزَّهات دمشق: تنظر منه إلى الوادي يبدو لك أوله من بين الجبلين كما يبدو الأمل بالفرج من بين الشدائد، ثم يلتوي فتراه حيناً يلوح لك من بعيد ويخفى حيناً، كالمجهول في القصة الأدبية أو في الحياة الواقعية، تمسك به ثم يفلت منك. وأمام الشرف الأعلى الشرف الأدنى.

ولست أصف دمشق (1)، فدمشق (التي حُرِمتُ من رؤيتها وحُرّم عليّ دخولها) جمعَت ما لم تجمع مثلَه مدينةٌ في الدنيا: ميراث ضخم من الماضي جعلها أقدم المدن المسكونة في الأرض

(1) لي كتاب اسمه «دمشق» فيه صور من جمالها وعِبَر من نضالها.

ص: 42

بلا خلاف، وفيها من كل شيء: فيها الجبل والوادي، والسهل والقفر، والجنان والبساتين، والأنهار الجارية، والثمار الدانية، وكل ذلك أُلِمّ به بنظرة واحدة من شرفة بيتي في قاسيون (1). وأين مني بيتي وأين قاسيون؟ أحسب أني سأموت قبل أن أتزود منه بنظرة

فلله وحده الشكوى.

وكنا نعيش في سعادة لأننا كنا راضين، ما كنا نتطلع إلى خير ممّا كنا فيه لأننا لم نكُن نعرف ما هو خير ممّا كنا فيه، والمرء يرضى بطعامه الذي لا يعرف غيرَه حتى يذوق ما هو أطيب منه. كنا نأوي إلى بيوتنا من بعد صلاة العشاء، وكنا نجتمع على الأُلفة الحلوة والنكتة المسلّية، وكنا نقضي حياتنا نغنّي كما يغنّي الصرصور في الصيف، فالمرء إذا انفرد بنفسه دندن بالغناء، وأَجيرُ الخبّاز وهو يحمل على رأسه «المعجن» إلى الفرن يغنّي، ونداء الباعة كله غناء في كلام إن لم يكن شعراً حقيقياً فهو خير من كثير ممّا يُنشَر اليوم على أنه شعر.

أليس شعراً (وإن لم يكن موزوناً مقفّى) نداء بائع الباذنجان: «أسود ومن سواده هرب الناطور» ؟ أليست صورة ناطقة: صورة ناطور البستان يرى شدة سواد الباذنجان فيشمر عن أذيال الفرار؟ وبائع التين إذ ينادي: «دابل وعلى دباله يا عيون الحبيب، من دباله يمشي لحاله)، تين ذابل كالحبيب الذي يذبل عينيه فيسبي الناظر إليه. وبائع الزعبوب (أي الزعرور) ينادي: «أبيض أحمر

(1) جبل قاسيون الذي يطل على دمشق ويحجزها من شمالها، وقد سكن جدّي فيه دهراً في بيت يرتفع في الجبل (في الجادة الخامسة) فيطلّ على دمشق كلها (مجاهد).

ص: 43

يا زعبوب، تمر محنى يا زعبوب، البزر بن يا زعبوب»، كلام موزون يغنّى بلا مُغَنٍّ، لا يحتاج إلاّ إلى عازف آلة يصحبه أو رِقّ يضبط نغمته.

وبائع الجَرادِق في رمضان (وهو الحلوى الرقيقة التي تكون كالطبق الواسع عليها خطوط الدبس، وهو عسل العنب) أليس نداؤه غزَلاً حلواً وتشبيباً صادقاً إذ يقول: «ياما رماك الهوى وقلبي انكوى يا ناعم» ؟ وما هذا بالخيال، فالجردقة إن هبت عليها النسائم وهي في يد صاحبها طيّرها الهواء، فهل في وصف الخفّة والرقّة أجمل من هذا النداء؟

وبائع العنب في آخر الصيف إذ يودّعه: وهموم الحياة كلها يجمعها عنوان الوداع، وداع العاشق المعشوق، ووداع المريض الصّحّة، ووداع المحتضَر الحياة، اسمعوه ينادي ويا ليتني أستطيع أن أحكي نغمته أو أضع لها «نوطة موسيقية» ، فهي في ذاتها شعر.

والشعر والموسيقى والتصوير لغات شتّى تعبّر عن الصورة الواحدة أو الشعور الواحد. فأنت إن كنت شاعراً عبّرت عن منظر غروب الشمس في البحر بالألفاظ والأوزان، وإن كنت موسيقياً فبالأصوات والألحان، وإن كنت مصوّراً فبالخطوط والألوان. ولمّا أصيب بتهوفن بالصمم ودخل يعزّي صديقه بوفاة ولده ولم يسمع ما قاله له ولم يسعفه المقال بما يناسب الحال قعد إلى «البيان» فعزف عليه «لحن الحزن» المعروف.

أقول: إن بائع العنب لا يبعد كثيراً عن الشعراء والعشاق

ص: 44

حين ينادي: «ودّع والوداع لسنة يا عنب» ، «هَدّوا خيامك وراحت أيامك، ما بقي في الكَرْم غير الحطب يا عنب»

ألا يذكّركم هذا ببكاء الديار ومخاطبة الأطلال، وهو أصدق ما قال شعراء الجاهلية في شعر العاطفة؟

وفي الشام من أنواع العنب ما ليس في سواها، وآخر معرض أذكره في داريا في الغوطة الغربية عُرض فيه مئة وسبعة أنواع من العنب، ولكن مجمع الكروم ومعظمها كان في دوما، التي كانت تمتد إلى الجبل الذي فيه الثنيّة التي نزل منها خالد بن الوليد مَقْدَمَه من العراق، التي تزيد رقعتها طولاً وعرضاً على عدة أكيال (كيلومترات) والتي يُستخرج منها الدبس وقمر الدين، ثم أصابها من سنين بلاء (دودة أو مرض) أودى بها كلها فذهبت حتى الحطب، فيا أسفي على هذا الكنز الذي ذهب!

وما دمنا في الكلام على نداء الباعة فهاكم هذه الصورة العجيبة لبائع اليَخَنا (أي الملفوف): «يخَنا واطبخ، والجارية تنفخ، والعبد عَ الباب، يطرد الكلاب» ، هذا يوم كان الطبخ على نار الحطب ولا تذكّى النار إلاّ بالنفح عليها، وكان في البيوت المماليك من العبيد والجواري. صورة من تاريخنا القريب.

وبائع البَليلة: «بليلة بلّلوك، وسبع جوار خدموك يا بليلة» . وبائع الشّمَندر المسلوق في أيام الشتاء، يضع صينية فوق الحلّة ويصفّ عليها رؤوس الشمندر مقشورة ساخنة تُشهّي الأكل الشبعان (1)، ينادي: «بردان تعال صوبي، تعال صوبي أنا بياع

(1) أي تجعل الشبعان يشتهي الأكل.

ص: 45

العسل». وبائع غَزْل البنات، هذه الحلوى اللذيذة في اللسان، الليّنة تحت الأسنان، التي تذوب في فمك حين تدخله فكأنك تأكل في المنام، إنه ينادي:«ياغَزْل البنات، ياما غزلوك في الليالي يا غزل البنات» . ومن عجائب النداء نداء بياع التَّرْخون، وهو حشيش من المشهّيات على المائدة، وهو من الأفاويه المعروفة، يزعمون أنهم يزرعونه في بقعة فينبت في غيرها، فهو ينادي عليه هذا النداء العجيب حقاً الذي لا يعرف المراد منه إلاّ ابن البلد:«ويلي عليك يا ابن الزنا يا خاين» ، هل تعرف إن سمعته أنه يبيع التّرخون؟

وإن سمعت من ينادي في الصباح «الله كريم» أوفي النهار «الله الدايم» فاعلم أن الأول بياع الكعك والثاني بياع الخسّ (1). ولرمضان نداءات خاصّة برمضان.

* * *

عفوكم أيها القرّاء، لقد كنت كالماشي بين الحقول فأغراه منظر بستان، فمشى إليه وأوغل فيه حتى بَعُد عن طريقه وكاد ينسى إلى أين يسير. وهذه هي علّة كل من نشأ على كتب الأدب العربي ومن أدمن قراءة شيخنا الجاحظ الذي سنّ لنا سنّة الاستطراد التي تصرف عن المراد.

إن الصغير الليّن العود يمكن إن اعوجّ أن يُقوَّم، ولكن كيف يُقوَّم من كان على عتبة الثمانين؟ إنها علة أُنكِرها من نفسي ولا أستطيع الخلاص منها، فاحتمِلوها مني أو قولوا لأصحاب

(1) راجع مقالة «دمشق» في أول كتابي «دمشق» .

ص: 46

الجريدة وللقائمين على الإذاعة والرائي أن يريحوكم مني، فما عاد في تقويمي أمل.

إن حياتنا تلك التي كانت سعيدة على فقرها، ناعمة على خشونتها، لم تدُم علينا. لقد سعينا إلى التعلّق بأسباب الحضارة وأزمعنا المسير إليها في أرضها، فجاءنا بها أصحابها إلى أرضنا وقرعوا بها أبوابنا، ولكن الذي رأيناه منها كان الجوع والحاجة وموت الأحبّة أيام الحرب الأولى. ثم رأينا المدافع، لا في العرض العسكري، ولكن رأيناها حين دكّت بقنابلها بيوتنا ودمّرت ثلث مدينتنا، وأحرقت أجمل دورنا وأغلى قصور أغنيائنا

رأينا كيف غصب المتحضرون منّا بلادنا وأكلوا خيراتها من دوننا، رأيناها يوم سرقوا حرّيتنا وقتلوا استقلالنا في ميسلون.

حاربنا في «ميسلون» حرباً مرتجَلة، لم نُعِدّ لها عدّتها ولم نرسم خطتها، فانهزمنا ودخل غورو دمشق، وجعل جنده يطؤون الأرض التي كان يمشي عليها بلال وأبو الدرداء ومعاوية، وظنّ أنه حلّ فيها محلّ الأخلاف من بني أمية الذين:

كانوا ملوكاً سريرُ الشرقِ تحتَهمو

فهلْ سألتَ سرير الغربِ ما كانوا؟

عالينَ كالشمسِ في أطرافِ دولتِهم

في كلِّ ناحيةٍ مُلكٌ وسلطانُ

رحم الله شوقي.

فهل خضعنا وخنعنا؟ لا؛ بل لقد ناضلنا، وكان نضالاً صعباً مريراً خضنا إليه سواقي من الدم، من دماء أعدائنا ودماء شهدائنا، وتخطّينا ركاماً من الجثث، وبذلنا آلافاً من المُهَج، وحملنا فيه

ص: 47

من الشدائد والصعاب ما ينوء ثقله بالصخور الراسيات (1). تعاقبَت الثورات في الشمال، وعلى الساحل، ثم كانت الثورة الكبرى سنة 1925 (وقد حدّثتكم حديثها)، ثم بدأت حرب الشوارع. حتى جاء الاستقلال.

إن هذا الاستقلال كالثروة التي يجمعها البخيل قرشاً إلى قرش، يجوع في سبيلها ويشقى لجمعها، فيأتي وارثه، أو يأتي من ليس له بوارث ولا له في إرثه حقّ، فيبذّرها باليمين وبالشمال، لا ينفقها على أمته ولا على وطنه ولكن

وتعرفون ما الذي يُقال بعد «لكن» ، والمعروف لا يعُرَّف.

ما جاءنا الاستقلال على صينيّة من البلّور ولا على طبق من الفضّة، كما يجيء الشاي لمن يطلبه في الفندق الكبير، يقدّمه إليه النادل مع الانحناء ثم يسرق ثمنه سرقة إذ يأخذ بدل الريال عشرة. بل جاءنا بالثمن الغالي، دفعناه ولا نزال ندفعه من مُهَجِنا وأرواحنا.

لم أدرك أيام النضال الأول، نضال الاتحاديين من الأتراك، ومن نِعَم الله عليّ أني لم أدركه وأن الله عصمني من أن أشارك في تمزيق أمّة محمد إلى عرب وترك وشَقّ عصاها وإذهاب وحدتها، على أني أعذُرُ من شارك في ذلك ممّن هم أساتذتنا كرشيد رضا ومحبّ الدين الخطيب، فما أرادوها قومية تحلّ محلّ أخوّة الإسلام، ولكن أرادوا استرداد حقّ العرب ضمن حدود الإسلام ممّن عدا على حقوق العرب وجانب الإسلام.

ص: 48

ثم جاء قوم من النصارى، وقوم من المسلمين لا يربطهم بالإسلام إلاّ أنهم وُلدوا من آباء وأمهات يدينون به، كساطع الحصري ومن بعده عفلق، فجعلوها قومية كافرة تنافي الإسلام وتخالف القرآن.

وكنت أيام الثورة الكبرى طالباً فلم أشارك أهلها ولم أعاون عليها، فلما انتقلنا إلى هذا العهد، عهد النضال في الشوارع، انغمست فيه وصرت من زعماء الشباب العاملين عليه.

كنت في نزاع بين طبيعتي التي تميل إلى العزلة وتنفر من الاندماج في جمهور الناس، وبين موهبتي في الخطابة وفي الكتابة التي دفعَت القيادةَ إلى التمسك بي؛ فاقتصرَتْ مشاركتي في هذا النضال ثم في العمل الإسلامي بعده على ثلاث: أواجه الناس من فوق المنبر، أو من خلال الصحف، أو أشارك في الرأي والمشورة

ولا شيء بعد هذه الثلاث. وعرفتم أني لما تركت دار العلوم في مصر ومضى وقت القبول في الجامعة في الشام بقيت سنة بلا عمل، فعملت في التعليم وفي الصحافة. اشتغلت في جريدة «فتى العرب» وفي «ألف باء» وفي «القبس» ، وفي سنة 1931 فُتح باب جديد في تاريخ الصحافة في الشام بإنشاء جريدة «الأيام» .

كل حزب في الدنيا له جريدة تنطق بلسانه وتعبّر عن رأيه، والكتلة الوطنية كانت سنة 1931 أكبر من حزب، كانت تجمع الزعماء المناضلين العاملين للاستقلال، فصحّ عزم رجالها على إنشاء جريدة «الأيام» ، واختاروا لرياسة تحريرها العالِم البليغ

ص: 49

الأستاذ عارف النّكْدي، وسبق صدورَها إعلان كبير عنها وترقّب متلهّف لها.

وكانت أول جريدة في الشام تصدر في ثماني صفحات، وأول جريدة ليس في أقوالها «ضمير مستتر» يعود إلى رئيس أو وزير أو غنيّ ذي نفوذ، وكانت أول جريدة تخطّت عرائس المسرح فلم تمدحها ولم تذمّها، بل توجّهَت إلى صاحب اليد التي تحركها فخاطبَت المفوض السامي الفرنسي، لم تخاطب رئيس الحكومة المحلّية ولا أحداً من وزرائه.

وجمعت طائفة من الأساتذة يعملون فيها، واختارني الأستاذ النكدي «محرّراً داخلياً» (وهو لقب مرادف للقب «مدير التحرير» في أيامنا)، فكان ينظر هو في المقالات، فما يوافق عليه أحاله إليّ وما لم يكن يمسّ سياسة الجريدة ومبادئها ترك لي النظر فيه: نشره أو طيه. والأخبار العالمية التي كانت تحملها برقيات «رويتر» و «هافاس» وأخبار المراسلين أنظر أنا فيها، فأختار منها وأضع العناوين لها، وقد أعلّق عليها. وكانت «الأيام» أول جريدة لها مراسلون حقاً، لا كالذي وصفتُه لكم في الجرائد التي عملت فيها من قبل. وأكتب فوق ذلك في الجريدة.

وكان في الغرفة التي أعمل فيها أشخاص مختلفو المشارب متباعدو الاتجاهات، فكان إلى اليسار مكتب الأستاذ منير الريّس وهو المحاسب، وهو ذو اتجاه قومي متحمّس لمبدئه مناصر له، وإلى جنبه مكتب الدكتور كامل عيّاد، وبجواره شيوعي آخر أظنّه عراقياً، فقد نسيت لبعد العهد. وأحسب أن أنطون سعادة،

ص: 50

مؤسّس الحزب القومي السوري، أو آخَر من أتباعه كان معنا.

كنا كعربة رَبَطْتَ في كل جهة من جهاتها الأربع حصاناً قوياً وسُقْت الخيل جميعاً: أنا (طول عمري) إسلامي الاتجاه، وهذا قومي، وذلك شيوعي

وكنا نمضي الوقت كله في نزاع وخصام.

اختارني الأستاذ عارف النكدي لهذا العمل الكبير وأنا شابّ صغير، لم أكُن أكملت الثالثة والعشرين، لأنني كنت (حقيقة لا فخراً) قد استكملت الصفات التي يحتاج الصحفي إليها، الصحفي الذي يعمل على كرسيه وراء مكتبه، لا الذي يقابل الرجال ويتصيد الأخبار ويكون خرّاجاً وَلاّجاً، لا يُعجِزُه بابٌ مغلَق في وجهه أن يدخله ولا سياسي معتصم بصمته أن يُنطِقَه، ولعلّي أقرب إلى الكاتب الصحفي مني إلى الصحفي المحترف.

كنت حركة دائمة ونشاطاً مستمراً، لا أتعب لأني أحب عملي، ومن أحب عمله لم يُتعبه ولو حرمه راحته المعتادة ومنعه طعامه ومنامه. وكان القلم في يدي حين أكتب أسرع من الدماغ إذ يفكر واللسان إذ ينطق.

لقد أعطيت الجريدة وقتي كله وجهدي كله ونشاطي كله. كان الأستاذ النكدي يخطط ويوجّه وأنا الذي ينفّذ ويحقّق. كنت أشعر (ولا أزال أذكر) حين أمسك تجارِب الطبع (البروفات) وأنزل إلى المطبعة وحين أوافق على الطبع أو أؤخّره، أني قائد معركة يتنقل على فرسه بين فرق جيشه وأفراد جنده.

ص: 51

أرأيتم الأكلة الطيبة التي تذهب مادتها ولكن تبقى ذكراها، فتحنّ أبداً إلى مثلها وتأسى على فقدها؟ تلك كانت أيامي في «الأيام» ، فيا سقى الله تلك الأيام!

لقد تلقيت من النكدي دروساً واستفدت منه كثيراً، واقتديت (أو حاولت) الاقتداء به، في استقامته التي لا نظير لها وجرأته التي ليس لها حدّ. أما لقائي به وذكر بعض مزاياه، وما صنعت يومئذٍ في لجنة الشباب، وماذا كان موقفنا من تزوير الانتخابات، وماذا صنعت بعد أن أغلق الفرنسيون الجريدة ومنعوا إصدارها

فكل ذلك سيأتي -إن شاء الله- حديثه.

* * *

ص: 52