الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-43 -
جريدة «الأيام»
أليس عجيباً أن يكون الخيال أقوى أحياناً من الحسّ، وأن تمحو الصورة المرسومة على الذاكرة الصورة الماثلة في الواقع؟ هذا ما كان يُخيّل إليّ وأنا واقف أمام «أمانة العاصمة» في دمشق: كانت تغيب هذه العمارة الفخمة عن نظري ويقوم في موضعها بناء من طبقتين لدار شامية، لها الصحن الفسيح و «الإيوان» العالي و «القاعات» الكبار المزخرَفة الجدران المزدانة الأركان، حتى لأحسّ من فرط تصوّرها أني أدخلها كما كنت أدخلها يوماً، فأرى أمامي أشجار الصحن المثمرة وأغراسه المُزهرة، وقاعة فيها مطابع تدور وعُمّال يشتغلون لا يسكنون ولا يهدؤون، وأصعد درجاً إلى اليسار إلى ممرّ طويل، له نوافذ على الصحن وأبواب إلى غرف وأبهاء تطل على الشارع. إني أرجع إلى الوراء إحدى وخمسين سنة فأجد نفسي في دار جريدة «الأيام» التي بدأت الحديث عنها.
أول غرفة في الممر غرفة رئيس التحرير، بعدها غرفتنا، والغرفة الكبرى هي التي يجتمع فيها أعضاء الكتلة الوطنية،
فيكون من ذلك «برلمان» شعبي له في الناس من الأثر ولقراراته من الحرمة ما ليس لمجلس النواب.
وربما اجتمع في هذه الغرفة أعضاء اللجنة العليا لطلاب سوريا التي كنت عند الناس رئيساً لها. وقد اعترفت لكم بعد نصف قرن بحقيقة هذه اللجنة وأنها كانت قاصرة على اثنين وأحياناً ثلاثة، وهؤلاء الذين ندعوهم إلى حضور جلساتها ونسمّيهم أعضاء فيها، لا يملكون إلا أن يُدعَوا فيجيبوا ويؤمَروا فيطيعوا. وكذلك الحال في أكثر الأحزاب والجمعيات والهيئات والمنظمات؛ اسم كبير ودار أكبر، ولوحة على باب الدار بعرض الدار، وما ثمة إلا رجلان أو ثلاثة أو من يختبئ وراءهم فيحركهم، يُقيمهم ويُقعِدهم ويوجّههم ذات اليمين وذات الشمال، وهم يحرّكون سائر الأعضاء.
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها
…
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَولةَ الأسدِ
* * *
ولقد عرفت جرائد تطبع كل يوم عشرات الآلاف من النسخ وتمشي إلى الكثير من البلاد، ولكنها تلحق هي القرّاء بالدعاية لها والإعلان عنها. ما عرفت جريدة يلحقها القراء، ينتظرون صدورها أمام بابها حتى يكاد جمعهم يسدّ الطريق على المارّة، إلا «الأيام» .
كان هذا الشارع العريض جادة يمشي فيها الترام، وكانت الجريدة تصدر وقت العصر، فكان الناس يتسابقون إلى شرائها،
يزدحمون عليها مثل ازدحامهم على الأفران أيام الحرب، حتى إنهم ليعرقلون سير الترام. فما الذي اختصت به هذه الجريدة حتى كانت لها هذه الميزة الفريدة؟
إنه رئيس تحريرها الأستاذ عارف النكدي. لقد كان رجلاً، وما كل الرجال رجال. لا أعني بالرجل الإنسان البالغ الذي ليس امرأة، فالرجال بهذا الوصف لا يُحصَون، إنما أعني الرجل الذي خبر طرق الحياة فلما رأى طريق الصدق اتخذه له طريقاً، لا يحيد عنه ولو حالت دون سلوكه الحوائل وقامت الموانع واشتدّت العقبات. وكذلك كان النكدي؛ كانت كلمته عهداً، وعهده إنفاذاً، وإنفاذه عاجلاً غير آجل. عرفته أديباً كبيراً يوم كنت شادياً في عالَم الأدب، وعرفته رئيساً لتحرير الجريدة وأنا أحد محرّريها، ووكيلاً لوزارة العدل وأنا أحد قضاتها، فوجدت النكدي الأديب، والنكدي الرئيس، والنكدي الوكيل، هو هو؛ ما بدّله المنصب فارتفع به لأنه كان في نفسه أكبر من كلّ منصب.
ولقد تنقل بين الدوائر على عهد الرئيس شكري القوّتلي، فكان وكيل الوزارة وكان مدير الشرطة وكان محافظ الجبل، لم يتولَّ أحد من الوظائف أكثر ممّا تولّى، ولا استقال أحد من الوظائف أكثر ممّا استقال.
كان أقوم وأعفّ وأحزم مَن عرفت من الموظفين، وقد حاول اثنان من تلاميذه اتباع سبيله واقتفاء أثره، فنجح الأول وهو أخي الحبيب نهاد القاسم وزير العدل في مصر والشام على عهد الوحدة، رحمه الله. والثاني كاتب هذه السطور، وما أدري
ما مبلغ نجاحه وليس لي أن أحكم له، ولا أحب أن أحكم عليه، فأدع أمره لله ثم لمن شاء من الناس.
كان المفتّش العامّ لوزارة العدل يوم كان المستشار الفرنسي هو الآمر الناهي على الحقيقة ومَن عداه يأمرون وينهون على المجاز، ولكن من كان مثل النكدي لا يحني رأسه لأنه متصلب العنق (من غير مرض)، فلا يكون عنقه إلا مستقيماً؛ فكانت بينهما معارك متصلة، يهدّده المستشار بسلطان الفرنسيين ويعتمد هو على زعامته في دروز لبنان وصلته بالوطنيين، فكان المستشار يتّقيه وكان هو يأخذ الأمور بالرفق ويعالجها بالنعومة. وليست النعومة علامة الضعف ولا الخشونة أمارة القوة، فالفأس الناعمة الملمس تقطع الحطبة الخشنة، وما عَهِدَ الناس حطبة قطعت فأساً من الفولاذ مرهَفة الحدّ. حتى اشتدّ الخلاف يوماً، فأرى المستشار كيف تكون غضبة الحليم وكيف تكون عِزّة المُحِقّ ولو كانت أمام بطش المُبطِل الجبّار، فانتصرت عليه، ولكنه ترك المنصب.
وكانت له طريقة في التفتيش يا ليت كل مفتّش يتبعها؛ لم يكن يعلن موعد قدومه فيُستعد له بسدّ الفتوق وإكمال النواقص وإخفاء العيوب، ولا يجيء بالطبل والزمر كسيارة الشرطة في الأفلام، تصفر من بعيد فيسمعها اللص فيهرب، بل كان إن أراد محكمة أتاها على غير موعد ومن غير ضجيج، يلبس لباس أهل البلد ثم يدخل في غمار الناس، يرى الأمور على حقيقتها، يسمع الكلام ويراقب الوقائع ويدوّن الملاحظات، ويكتب تقريره ويعرضه على القاضي ويدعه يقول قولته فيه، ثم ينظر، فما كان من نقص يمكن إتمامه أمهله حتى يتمّه ثم عاوده فجأة فرأى ما
كان منه، وإن كان القاضي جاهلاً سبيل الحكم أو مائلاً مع الهوى تابعه حتى يخلّص القضاء منه.
كان رجل القانون، ولكنه كان يعلم أن القانون الذي وضعه البشر ليس شرعاً أنزله الله، فإن الْتَوى طريق القانون ودار من حول الحقّ فأبعد الناس عنه قطع طريق القانون كي يصل إلى الحقّ، لأن الحقّ غاية والقانون وسيلة، وليس للوسائل أن تصرف عن الغايات.
تولى مرة الإدارة العامّة للشرطة فرأى السفهاء من الشبّان يؤذون البنات، يغريهم بذلك شهوة عارمة تُذكيها بعض الصحف والأفلام والروايات، ويشجّعهم عليه السفور والاختلاط وقانون العقوبات الذي ليس فيه ما يحمي البنت ويردع الولد. فأمر الشعبة الأخلاقية بأن تمسك كل شابّ يعرض لفتاة بما يمسّ شرفها وعرضها فتبطحه على الأرض (مهما تكُن منزلته ومكانة أسرته) وتجلده عشر جلدات، غير مؤذيات ولكنهنّ محطّمات لكبريائه مُذهِبات أمل الشيطان فيه.
ثم إن تبيّن بالتحقيق أن شرطياً ضرب بريئاً جعله عِبرة للناس. فارتدع الشبّان، وأمِنَت البنات، ولم تجاوز الشرطة حدود العدل.
* * *
على أن البنات مسؤولات، فلو سترن اللحم ما شمّ ريحَه ولا طمع فيه البسّ (1)، ولكن الفتاة تخضع بالقول فيطمع الذي في
(1) البسّ: القط (عربية).
قلبه مرض، وتلين له فيشتدّ وتُبدي الرضا فيزيد في الإقدام، ولو حجبَت عنه ما يغريه بها لما عرض لها، ولو سدّت في وجهه كل طريق يوصله إليها، ولو عن طريق الهاتف والبريد، لما بلغ منها شيئاً ممّا كان يريد.
وباب آخر فتحه إبليس فدخل منه بُغاة الفساد وقُصّاد الشرّ، ودخله معهم -عن غفلة منهم- أهل الخير. ذلك هو «باب التعارف» في المجلاّت، ينشر لها صورته فتنشر له صورتها، ويعلن اسمه وعمره وعنوانه فتعلن عنوانها واسمها وعمرها، ويوضّح لها هواياته لتعرف ما يحبّ وما يكره فتخبره هي بما تكره وما تحبّ. فناشدتكم الله، ماذا أبقى هؤلاء لوسطاء الفاحشة؟ ولم أذكر الكلمة لأنها قبيحة، وإن لم تكُن أقبح من الفعل الذي تدلّ عليه، فكيف ينكر الاسم من فعل الفعل؟!
ولطالما قلت وأعدْتُ حتى أضجرت وأملَلْتُ، أقول للبنات: إن اللذّة المحرّمة شركة بين الشباب وبينكن، والعقوبة في الآخرة عليهم وعليكن، ولكن عاقبتها في الدنيا عليكن أنتُنّ وحدكن. المجتمعات -يا بنات- ظالمات تسامح الشباب، تقول:«شابّ أذنب وتاب» ، ولا تسامح الفتيات. إنها تغفر له زلّته وتنسى حَوبته، ويبقى أثر الزلة في البنت: ثقلاً في بطنها ووصمة على جبينها لا تفارقها حتى تفارق حياتها.
إن الذين يزيّنون لك السفور والحسور والعمل مع الرجال وكشف الجسد، بحجّة الرياضة أو الفنّ أو للكشف الطبّي بلا ضرورة، أو الخلوة بالأجنبي بلا داعٍ
…
إنهم لا يريدون رياضة ولا
فناً ولا شيئاً ممّا يدّعونه، ما يريدون إلا أن تكشفي عن جسدك ليستمتعوا بجمالك، ولو بالنظر أو باللمس إن لم يقدروا على أكثر من ذلك. فلا تكوني عوناً لهم على نفسك، ولا تمتّعيهم بشيء منه إلا أن تربطي أحدهم من عنقه برباط الزواج، وإلا أخذ منك أعزّ ما لديك وهرب.
إن حب الشابّ يا ابنتي «خَطف» ، لذّة دقائق يخطفها ويهرب خفيفاً، وحبّ الفتاة «بقاء» ، أثر هذه اللذّة تسعة أشهر ثم القيام عليها طول العمر. يلبس لك جلد الحمَل يُلقي عليك مثل هديل الحمام، يذلّ لك، يُطمِعك ويَعِدك، فإذا نال الذي يريده منك نزع جلد الحمَل فبدا الذئب، وسكت هديل الحمام وسُمع فحيح الحيّة ونعيق الغراب، ثم أعرض عنك وتعالى عليك وأنكرك وأنكر ولده منك، ثم تركك مع ألمك وندمك وذهب يفتّش عن حمقاء أخرى يعيد معها المسرحية من أولها.
إن أكثر من عرفنا من دعاة التكشّف والاختلاط ما لهم زوجات ولا أولاد، وأنا رجل لي بنات ولي حفيدات، فأنا أنصحكن وأدافع عنكن كما أنصح بناتي وأدافع عن حفيداتي.
نعم يا سادتي القراء، أعرف أني خرجت عن الموضوع، ولكن هذا الذي قلته أنفع من الموضوع، إنها تذكرة لمن شاءت من البنات أن تذّكّر.
أعود إلى حديث النكدي، وحديثه طويل. في ذاكرتي الكثير من أخباره وفي نفسي التقدير له والإعجاب بفضائله. ولقد هممت أن أقول «رحمه الله» ثم ذكرت أنه درزي. بل إني أقولها،
فقد صحبته طويلاً في الوظيفة وخارجها، وفي العمل وفي غير العمل، وفي دمشق وفي قريته عبية، بجوار سوق الغرب جارة عاليه (1)، وتلك البلاد خلقها الله جنّات، فكفرَت حيناً بأنْعُم الله وجاهرَت بالفسوق والعصيان وصارت مباءة لكل لاهٍ عابث من أولياء الشيطان، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وما كلّ أهلها قد فسق، ولكن المصيبة إذا نزلت عمّت. أسأل الله أن يكشف عنها العذاب، وأن يردّها إلى طريق الصواب، وأن ينتقم ممّن بغى عليها وأراها كيف يكون الخنزير لابساً جلدة إنسان، اسمه بيغن أو شارون وله أسماء أخرى ولكن من أسماء المسلمين.
صحبت النكدي دهراً وكنا نخوض معه في كلّ موضوع، وطالما عرضنا للفِرَق والمذاهب وللدرزية بالذات، فما لمست منه (وما أنا بحمد الله بالغبي) ما لمست منه يوماً ما يدل على أنه يؤمن بالمذهب الدرزي، ولو كتم إيمانه بلسانه لنمّت عليه ملامح وجهه ونبرات صوته.
ولمّا جمع أوقاف السيد التنوخي الذي يعظمونه وصانها من عبث العابثين وأيدي السارقين، أنشأ بها مدرسة كبيرة في عبية (2)،
(1) لا يلفظون الهاء في آخرها، أما الياء فينطقونها كالألِف المُمالة في قراءة ورش للقرآن (أو كالياء في كلمة «مَجريها» في قراءة حفص التي نقرأ بها في المشرق). و «عاليه» و «سوق الغرب» من قرى جبل لبنان، لا يعرف جمالها إلا من زارها أو عاش فيها، وقد تخرّب كثير منها في أيام الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان منذ سنين (مجاهد).
(2)
وُلد عارف النكدي في لبنان سنة 1304 وتوفي فيه سنة 1395هـ.
اقتبس منهاجها من مناهج الأزهر وجاء لها بمدرّسين من الأزهر ومن أمثال علماء الأزهر، وعرض عليّ أن أدرّس فيها ولكني اعتذرت لبُعد الشقّة ولأني لم أكُن أستطيع ترك إخوتي. على أني زرت المدرسة وحاضرت طلابها كثيراً. أفيصنع هذا مَن يدين دين الدروز؟
أما علمه بالعربية وغيرته عليها ودفاعه عنها فشيء لا يحتاج إلى دليل. ولمّا استفتى شيخُنا الشيخ عبد القادر المغربي في مطلع العشرينيات من هذا القرن علماء العربية في الكلمات «غير القاموسية» (1)، أي التي وردت على ألسنة البلغاء وعلى أسنان أقلامهم ولم ترد في المعاجم، كان النكدي أصلبهم في الحفاظ على اللغة ونفي الدخيل عليها.
وإن يكن درزي الأصل فما يسأل الله الناس يوم القيامة عن أصولهم بل يسألهم عن أعمالهم. وأمير البيان الذي كان في أوربا سفيراً للإسلام، الأمير شكيب أرسلان، درزي الأصل، ولكنه تبرّأ من درزيّته وعاد إلى الدين الحقّ، وظلّ عمرَه كلّه يحامي عنه بقلمه وبلسانه، يؤدّي فرائضه وسننه ويجتنب محرّماته ومكروهاته. بل إن صديقنا الأديب الشاعر الراوية عزّ الدين التنوخي درزي الأصل أسرته سادة الدروز، سمعت ذلك منه مراراً.
وأكثر القراء لا يعرفون أن العصبية القبَلية بين القيسية (2) واليمانية، التي مزّقَت الجسم العربي وتعدّته إلى الجسد
(1) راجع مجلّدات مجلّة المجمع العلمي العربي.
(2)
المراد بالقيسية المُضَرية لأن ربيعة كانت غالباً مع اليمن.
الإسلامي، وكانت السبب في أكثر المصائب التي أصابتنا من خراسان إلى الأندلس وكانت من عوامل القضاء على حكم الأمويين، هذه العصبية نُسيَت في بلاد العرب من عهد بعيد ولكنها بقيَت في لبنان إلى ما قبل قرن من الزمان. وكان التنوخيون سادة اليمانية ورؤساءها، فاجتمعَت عليهم القبائل القيسية وبيّتوهم فذبحوهم في «عين دارَه» قرب صوفر. ولم ينجُ إلا طفل رضيع، حملوه إلى دمشق فنشأ فيها منسوباً إلى غير أهله، خوفاً عليه أن يُعرَف مكانه فيلحق به من يُلحِقه بمن هلك من قومه. وكبر الطفل وصار سَروجياً، أي مشتغلاً بصناعة الجلود، ثم صار شيخها يوم كان لكل صناعة شيخ، ولا يزال هذا العُرف سائداً هنا.
هذا الطفل هو جَدّ الأستاذ عزّ الدين، ومن هنا كان لقب أسرته «شيخ السروجية» . وقد عاش ثُلثَي حياته جاهلاً حقيقة أصله الدرزي، فضلاً عن أن يكون في نفسه أو في عقيدته أثر لها. وكان رحمه الله (كما كان صديق عمره شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار وكما كان الأستاذ النكدي) من أقدم أعضاء المجمع العلمي في دمشق، وكان قد درس في الأزهر كما درس في فرنسا، ولولا أنه سمع قصّة جَدّه من شيوخ الطائفة في لبنان (كما سمعتُها أنا من الأمير حسن أرسلان) ما كان ليعلمها.
* * *
قلت إن صدور جريدة «الأيام» كان عنوان فصل جديد في كتاب «تاريخ الصحافة في الشام» (الذي ننتظر مَن يؤلّفه لنا أو يجعله أطروحة ماجستير أو دكتوراه)، لا لمجرّد أنها صدرت
في ثماني صفحات وكانت الصحف في أربع، ولا لأنها اتخذت مراسلين يبعثون إليها بالأخبار ووكلاء يتولّون توزيعها في الأقاليم والأقطار، بل لشيء أكبر من هذا، شيء انتقل إليها من أخلاق رئيس تحريرها.
ذلك هو «الصدق» ، فلم تكُن تغشّ قرّاءها وتكذب عليهم ولا تُلبِس لهم الباطلَ ثوبَ الحقّ. والصدق يجرّ «الصراحة» ، فكانت تسمّي لهم الأشياء بأسمائها، لا تقول عن الحمار إن كان ذا مال أو ذا سلطان إنه غزال بأذنين طويلتين، بل تقول إنه حمار. والصدق يدعو إلى «الإخلاص» ، فلا تنشر إلاّ ما ينفع الناس، أو ترى أنه ينفعهم، ولا يُسخِط الله.
وكانت افتتاحيات الأيام قطعاً ثمينة من الأدب السامي. بلاغة مطبوعة وبيان أخّاذ، ما أظنّ أني قرأت في جريدة عربية ما يفوقها في هذا الباب. أسلوب صحيح مشرق وديباجة عربية صافية، منها مقالات لا تزال حلاوتها في نفسي، كالمقالة الرائعة التي كان عنوانها «المستقبل لله يا مسيو بونسو» . والمسيو بونسو هو المفوض السامي الذي كان -كما قلت لكم- يملك من السلطان أكثر ممّا يملك الآن رئيسا سوريا ولبنان وحكومتاهما ومجلساهما.
إني أذكر بهذه المقالة قصيدة فيكتور هوغو التي حفظنا ونحن طلاّب: «نابليون الثاني» ، لما ولد لنابليون بونابرت ولده الوحيد صاح فرحاً مزهواً:«المستقبل لي» (L’avenir est a moi)، فردّ عليه بقصيدة من عيون الشعر، يا ليت شاعراً مطبوعاً من شعرائنا
يصوغها شعراً، كما صنع المنفلوطي بخطبته في «تأبين فولتير» لما تُرجمت له معانيها فصاغها صياغة لو كان هوغو أديباً عربياً ما أحسب أنه يقدر على أجود منها. قال له: كلاّ؛ المستقبل ليس لأحد، المستقبل يامليكي لله وحده (Sire! L’avenir est a Dieu). في هذه القصيدة من الصور ومن الأفكار ومن الحماسة ما يجعلها في مقدّمة ما يحسن نقله إلينا من أدب الغرب، لأن أسلوب هوغو (في شعره وفي نثره) أسلوب خطابيّ فخم التعبير، أقرب ما تكون أساليب القوم إلى أسلوب شعراء العرب.
وللنكدي مقالة عنوانها: «إذا كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ، وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ» ؛ من أبلغ ما خطّت أقلام الكاتبين.
وكان -على قوّة شخصيته ومضاء عزيمته- رجّاعاً إلى الحقّ إن تبيّن أن الحقّ عليه لا له، يخمد غضبه في لحظة ولو كان مشتعلاً اشتعال النار متفجّراً تفجّر البارود، وهذه -لعَمري- مزيّة لا يكاد يتحلّى بها إلا أبطال الرجال. وقد خبّر سيد البشر ‘ أن مقياس الشدّة والقوّة ليس بالغلَبة بالصراع، بل الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
كان من مبادئ الجريدة مقاومة الشيوعية، فسرّب أحد المحرّرين مقالة فيها تحبيذ خفيّ لها ودعوة مبطنة إليها، عُرضت على النكدي فلم يتنبّه إليها فوافق على نشرها وذهب، فلما وصلَتْ إليّ لتصحيح تجارِب طبعها (بروفاتها) رأيت ما فيها، ولم يكن لديّ من سعة الوقت ولا من وسيلة الاتصال ما أتمكّن
معه من عرض أمرها عليه، فوقَفْت نشرَها وأنزلت غيرَها مكانها. فلما صدرت الجريدة خالية منها سبقني هذا المحرّر إليه فأوغر صدره عليّ، فاستدعاني وتلقّاني بخطبة طنّانة تطقطق فيها قافاته المعروفة (كقافات الدكتور محجوب ثابت في مصر) وتزدحم كلماتها في جملها حتى ما أجد فسحة أبدأ كلامي منها.
وكنت امرءاً فيه حدّة، وكنت أوقّر الرجل، ولكن لمّا زاد نسيت التوقير ونفضت يدي من الجريدة ولم يبقَ أمامي إلا كرامتي التي توهّمت أنها مُسّت، فصرخت فيه وأسكتّه وأسمعتُه كلاماً جعله يفتح عينيه دهشة، وكان ممّا قلت له: أهذه أخلاق من كان مفتّش المحاكم، تقضي ولا تسمع دفاعاً، تحكم للمُبطل على المُحِقّ؟
فهدأ وقال: وما الأمر؟ قلت له: إن الرجل خدعك وسخّر جريدتك للدعوة لعقيدة أنت تحاربها
…
وشرحت له ما وقع. فما كان منه إلا أن نهض واقفاً ومدّ يده إليّ وقال لي: أعتذر إليك. أمّا ذلك المحرر فنال منه ما يستحقّه.
إن أكُن أطلت الحديث عن عارف النكدي فلأنه أحد مَن أثّر فيّ وأفادني وعلّمني دروساً كثيرة، في الرجولة وفي الخضوع للحقّ وفي إباء الدنيّة وفي الصدق والإخلاص.
* * *