الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-47 -
يوم ماتت أمّي
الأمور تعرف بأضدادها؛ فلا يقدر الصحّةَ قدرها إلاّ من ذاق المرض، ولا الغِنى إلا من عرف الفقر، ولا الراحة إلا من حمل التعب. لذلك تجهل نساؤنا اليوم النعمة التي يرتعن فيها! العيش اليوم سهل وأعمال الدار يسيرة. لا أعني أنها خالية من المتاعب، فمن طبيعة الدنيا اقترانها بالمتاعب والسعادةُ الكاملة لا تكون إلا في الجنّة، ولكن أعني سهولة حياة المرأة اليوم بالنسبة لما كانت عليه بالأمس.
لا أعرض اللوحة كلها بل خطوطاً منها تدلّ عليها، ولعلّي أفصّل القول فيها يوماً.
المرأة اليوم تجد كل ما تطلبه -متى أرادته- حاضراً، الخضر والفواكه موجودة على مدى العام، وكنا إذا حل الشتاء فقدناها، لذلك كان من عمل المرأة أن تجفّف في الصيف ما تطبخه في الشتاء: الباذنجان والبامياء وأخواتهما جميعاً، ولا تصل إلى مرحلة التجفيف حتى تمر قبلها بمرحلة التنظيف، ثم التصنيف، تأتي بأعواد الملوخيا مثلاً فتقطف منها أوراقها وتغسلها وتجففها.
ولا تحسبوا هذا سهلاً، فأنا أكتب هذا الكلام ونصف الغرفة من حولي تغطيه هذه الأعواد، تشتغل فيها المرأة يوماً أو يومين.
والزيتون: تذهبون الآن إلى السمّان (1) فتجدونه في علب مختومة معَدّاً للأكل، لا تحتاج إلا إلى مدّ يدك إليها فتفتحها ثم تقلب ما فيها في الطبق. ولكنا لم نكُن نعرف هذه العلب الواردة من اليونان أو من بلاد الإسبان، بل نقطفه من أشجاره في الشام ولبنان. وجوانبُ البحر المتوسط متشابهة كلها في طبيعتها وأشجارها وثمارها، وكثيرة التشابه في صفات أهلها. وعندنا في حرستا (وقد صارت اليوم كأنها حيّ من أحياء دمشق) أشجار زيتون يبلغ عمر إحداها مئة سنة أو مئتين. وللزيتون أنواع، في البيت الشامي العادي نوعان منها أو ثلاثة وقد يكون فيه السبعة والعشرة، من الأخضر الذي يُقطَف مُرّاً فيُحلّى بمحلول الكلس، يديره الأولاد بالأعواد ثم يبدلون عنه الماء ثم يعودون إلى إدارته وتحريكه حتى تذهب مرارته، والأخضر الصغير تشقَّق جوانبه برأس السكين ويعالج بالماء والملح أو بالخلّ، لست أدري والله، فما أحسنت في عمري عمل الدار وإن كنت لا أكفّ ما استطعت عن المشاركة فيه، ونوع أسود يؤكل جافاً، وأسود كبير أو فاتح اللون كثير الشحم يدعى الجُلُطّ. ولكلٍّ طعم، وكلٌّ يأخذ من جهد المرأة ومن وقتها.
و «المَكدوس» (وقد أشرت إليه من قبل) يُصنَع بالباذنجان وبالليمون الشامي الكبير وبغيرهما، يُغلى في الماء ثم يُحشى
(1) هذا هو اسم البقّال في الشام (مجاهد).
الجوز والثوم (والعياذ بالله). والمخلَّلات عشرات من الأنواع: الخيار والفليفلة (الفلفل) والجَزَر والملفوف، وأخواتها وبنات عمّها. وقد كان في بيتي أول عهدي بالزواج من أربع وأربعين سنة ثلاثة عشر نوعاً منها، كلها من صنع زوجتي، مع أنها من الطبقة التي تلي طبقة أمي، جاءت بعد ما تيسّرَت سبل العيش وخفّ الحمل عن النساء. وقد كان عندنا مع ذلك من الثمار المعقودة بالسكّر (1) من صنعها هي أيضاً أربعة وعشرون نوعاً توضع على مائدة الإفطار معاً، لا أفصّل الحديث عنها فليس هذا مجالها، ولكن أعدّ منها: المشمش البلدي الشامي الكبير، والكلاّبي الصغير يُنزَع بذره وتُعقَد فصوصه، ومنه «المَمْروت» أي المعجون بالسكّر حتى يكون كالمربّى الذي يأتي بالعلب، ولكن شتان، فهذا مشمش حقيقي بالسكر الخالص وفي تلك العلب ما الله أدرى به من مركّبات الكيمياء، لها طعمه وليس فيها شيء منه. ومعقود الجانرك وأنواع الخوخ والدرّاق (الدرّاقن)(2) والسّفَرْجل واليقطين الكبير المستدير. ومن أنفسه معقود الكَبّاد، وهو نوع من الليمون كبير له قشرة عطرة من الخارج وقشرة بيضاء مثل الشحم، كلاهما يُعقَد بالسكر على النار فيبقى سنين لا يطرأ عليه فساد.
(1) أي أنواع المُربّى (مجاهد).
(2)
يطلقون اسم الخوخ في بلاد الشام على ما يسميه أهل المملكة والخليج البُخارة وما يدعونه في المغرب البرقوق، أما ما يسمونه في المملكة خوخاً فهو في بلاد الشام الدُّرّاق (أو الدُّرّاقِن). وفي القاموس المحيط:"الدُّراقن (بشَدّة على الراء أو بغير شدة) هو المِشمش والخوخ"، قال: وهي كلمة شامية (مجاهد).
ومعقود الجوز الأخضر قبل أن ينضج وتقسو قشرته حتى تصير كالخشب، ومعقود قشر النارنج، وزهره وهو من أعطر الزهر وأطيبه ريحاً، ومعقوده يُهدى إلى الملوك، ويبرع في صنعه أهل طرابلس الشام لأنه يكثر فيها كما يكثر في سواحل فلسطين، ردّنا الله إلى ديننا ليردّها إلينا.
ومن عمل المرأة (لا سيما في القرى) قطف الجوز وكسره واستخراج لبه، وتجفيف التين، والعنب حتى يصير زبيباً، وللزبيب أنواع منها ما ليس فيه بزر. وهذه الثلاثة هي أنقال الأسرة في ليالي الشتاء الطويلة، طيّبة الطعم مقوّية للجسم، كثيرة الحرّات (الكالوري) تدفئ الجسد من داخله إذ لم يكن عندهم مدافئ تدفئه من ظاهره.
أما تعب الأولاد فلا تكاد تعرف مداه أمهات هذه الأيام. إن الأم تجد اليوم الثياب جاهزة لهم و «الحفائظ» من القطن الناعم مهيّأة تستعملها ثم تلقيها، ولمن شاءت مدارس حضانة حتى للرضّع، (ولا أنصح غير المضطرة بطَرْق بابها)، وقد كانت المرأة تفصّل الثياب لهم بنفسها، وتغسل ««الحفائظ» بيدها، حتى إذا جفّت عادت إليها فاستعملتها. وكانت تسهر الليل كله إن مرض وليدها، لم يكن قد ارتقى طبّ الأطفال ولا أُعِدّت هذه العشرات من الأدوية والعقاقير، وقد تلقى بعد هذا التعب العقوقَ من الولد، كما لقيت أنا من ابن أبي الذي ربّيتُه صغيراً وكنت الأبَ له بعد أبيه الذي لم يعرفه، وأوليتُه من حبي ومن قلبي مثلما أوليتُه من نتائج كسبي، فكان أن قاطعني من أكثر من ربع قرن، حتى إنه لَيسكن البلد الذي أسكنه ولا أعرف عنوانه، ويعمل في الجامعة
التي لا أزال أستاذاً فيها ولكن لا أراه ولا أدري ما عمله، وقُتِلت بنتي فلم يبقَ قريب ولا بعيد إلا عزّاني وواساني، وما عزّى ولا واسى بزيارة ولا رسالة ولا برقية. والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وهل في الظلم أكبر من قطع الرحم وجحود الإحسان؟
* * *
ولو أني عددت كل الذي كانت تصنع النساء لأطلت وأمللت وخرجت عن الموضوع تماماً، ولكن ذلك لم يكن «بلاش» ، أي بلا شيء، بل كان لهن عليه أجر كبير يعدل -كما جاء في الحديث- جهاد الرجل وشهوده المشاهد.
كان ذلك عمل المرأة، وكان عليها فوق ذلك غسل الثياب وكيّها، وتنظيف الدار وترتيبها، وطبخ الطعام وجلي أوانيه. وكانت أمي واحدة من نساء تلك الأيام تحمل حملهن، بل لعلها من أثقلهن حملاً، لأن من النساء من لها الخادم (أي الخادمة) والطباخة (أي العشّيّة) أو لها البنات الكبيرات يساعدنها في ذلك كله، وبعض البيوت الكبار كان فيها جارية (أَمَة) مملوكة. وقد أدركت في صغري بقايا من هؤلاء الإماء، يتوالدن ويتناسلن في الرقّ من قديم الزمان، وكنّ راضيات مسرورات، وكنّ كالوالدات لنساء الدار، ربّينَهنّ صغاراً وكنّ يولينهنّ الحب فيبادلهن النساء حباً بحبّ. وكانت أمي تعمل كل شيء بنفسها، بنتها الكبرى أخذناها (كما عرفتم) فتزوجَت في مصر، والأخرى صغيرة مشغولة بمدرستها، وما كان لنا فضل مال نستأجر به من تخدم
في الدار كما يفعل أرباب اليسار.
الدنيا يا سادتي ليل ونهار وخريف وربيع، ولكن حياة أمي -رحمها الله- كانت كأنها ليل امتد وطال حتى لم يدرك آخرَه الصباحُ، وخريف ضاع فيه طريق الربيع فضلّ فلم يتصل بخريفه ربيع. ما أقول إنها كانت شقيّة في نفسها محرومة من كل شيء، بل أقول إنها لم تجد متعة من مُتَع العيش.
أبوها الشيخ أبو الفتح الخطيب (1) كان رابع أربعة من الإخوة لكل منهم منزلة في المجتمع وذِكْر في الناس، ولكنه كان من دونهم جميعاً ميالاً إلى الزهد منصرفاً عن شهوة الجاه والمال والسيادة، عمل أميناً للمكتبة الظاهرية من يوم أنشأها (في مدرسة الملك الظاهر بيبرس) الشيخ طاهر الجزائري وجمع فيها الكتب الموقوفة التي كانت متفرقة في المساجد معرّضة للضياع، فصارت اليوم أغنى مكتبة بكتب الحديث وغيرها من مفردات المخطوطات. وكان إذا جاء الدار بعد صلاة العشاء قال لزوجته: يا آسية (وهي بنت الجلاّد، إحدى الأسر المعروفة في الشام) هل عندكم طعام؟ فتأتيه بالطبق الذي أعدّته له، فيسأل: هل تعشّى الأولاد؟ وكان له ولد واحد هو محبّ الدين وبنتان، فتقول: نعم، فيقسم ما فيه قسمَين يضع فوق أحدهما ماءً وملحاً ويأكله ويدع الثاني.
وكان يمرّ وهو رائح إلى الدار ببياع الخُضَر، فما وجد
(1) له ترجمة في الأعلام للزركلي، ومعجم المؤلّفين لكحالة، وأعيان دمشق للشطي.
عنده من بضاعة كاسدة اشتراه رحمة به وحمله معه، فتصرخ فيه زوجته وتتذمّر وتتنمّر، وهي امرأة حازمة من أسرة غنيّة، فيتلقّى ذلك بالحِلم والصبر ويدعها حتى تفرغ جعبتها وتخرج كلّ ما في صدرها، حتى إذا هدأت قال لها: يا آسية، هذا جارنا وهو بياع فقير، فإن فسدَت البضاعة غرم ثمنها، ونحن أقدر على حمل الغرم منه. يا آسية، المركب الذي ليس فيه شيء لله يغرق، وهذه الدنيا فانية فاعملي شيئاً لآخرتك الباقية، وإن لم تريدي ما أحضرتُه فابعثي به لأهل الخان.
وكان في صدر الحارة خان فيه عائلات كثيرة من الفقراء لا يكادون يجدون شيئاً. فلا يزال بها حتى ترضى، يطفئ بحِلمه نار غضبها ويُذهِب بصدقه في زهده كبرياءَ نفسها وحبّها دنياها وحدها.
* * *
ومات جدي الشيخ أبو الفتح سنة 1315، وكان عمر أمي ثماني سنين وعمر أخيها محب الدين اثنتي عشرة، ولحقت به زوجته فتولت تربيتَهما أختُهما الكبرى، وكانت امرأة حازمة صارمة، وكان لها ولد في مثل سنهما هو الشيخ شريف الخطيب، فأخذتهم بالشدة، فكانت الدار بإشرافها كأنها مدرسة عسكرية، بل ربما أدار المدرسةَ العسكرية ضابطٌ ليّن العريكة قوي العاطفة، وخالتي هذه لم تكُن تعرف إلا النظام والضبط، وكانت كما يُقال في الشام «أخت الرجال» .
رأت ليلة من ليالي الشتاء شبح رجل في «المَشْرَقة» (وهي
السطح المسوَّر)، فصاحت به فلم يذهب ولبث يتبختر يروح ويجيء، فأنذرته فما برح مكانه، فأخذت البندقية ورفعت الشبّاك (النافذة) ووجّهَتها إليه فما بالى، فأطلقت النار.
وكانت البيوت من الحجر والخشب والطين، وكانت متداخلة متعانقة، يستطيع من شاء أن ينتقل من طرَف الحيّ إلى طرَفه الآخر من فوق السطوح لا تمس رجلاه الطريق، فسمع الجيران الصوت، ولم يكن يحتاج الجار ليصل إلى جاره إلا أن يقفز من فوق «الطّبْلة» (وهي حاجز من الخشب واللبِن يفصل مشرقتك، أي سطحك، عن سطح الجار)، فنادوا:"يا الله، يا ستّار" ليتستر من النساء مَن كانت كاشفة، ثم صاروا عندها فقالوا: خالتي أم شريف، ما لك؟ خير إن شاء الله؟ سمعنا طلقة رصاص. قالت: نعم، حرامي، وقد أصبته بلا شك لأن رصاصتي لا تخيب.
وكان من عجائز الشاميات مَن تجيد الرمي! فصعدوا إلى السطح فوجدوا سراويل زوجها الشيخ عبد الفتاح الخطيب معلَّقة بالحبل (وكانت سراويل الرجال والنساء تصل إلى القدم ويفصَّل من الواحد منها إحدى عشرة من سراويلات نساء اليوم) فكانت تمتلئ بالهواء من شدة الريح في تلك الليلة فتبدو كأنها رَجل يمشي
…
ووجدوا بارود الطلقة قد مزّقها.
قالت: ألم أقل لكم إني أصبته؟
* * *
وتزوجَت أمي وعمرها سبع عشرة سنة، فانتقلَت من دار ما فيها إلا الجِدّ والحياة الخالية من اللهو ومن أسباب المتعة، وإن لم تخلُ من ضرورات الحياة ولوازم العيش، إلى دار مثلها ما فيها إلا الجدّ والبعد عن اللهو وعن المتعة. من دار تحكمها امرأة صارمة أمرها قانون يُطاع أو تحلّ النقمة بمن يعصيه، إلى دار يحكمها رجل (هو جَدّي)، شيخ بعمامة ولكنه عسكري الطبع والمهنة، فقد كان إمامَ طابور وله رتبة عسكرية، صارم أمره قانون ومخالفة أمره انتحار. وكان أبي لطيف المعشر رقيق الطبع ولكنْ لا حكم له في بيت أبيه، ثم إنه كان معلّماً، وكان أسلوب التعليم يقوم على الشدّة، وكان الترهيب فيه والعقاب مقدَّماً على الترغيب والثواب.
فما سعدَت السعادة التي تحلم بها كل بنت في بيت أبيها الذي عاشت فيه يتيمة الأبوين، كانت أختها الكبرى هي أمها بعد أمها، أرضعَتها من ثديها وربّتها مع أخيها وابنها، ولكنها كانت شديدة بطبعها تكره اللين والميوعة ولا تُظهِر العاطفة، ولعلها (والله أعلم) لا تخفيها أيضاً لأنها لا تجدها. ولا أحب أن أظلمها، وأستغفر الله لي ممّا قلت ولها، فلقد أفضلت على أمي وَرَعَتْها، رحمها الله. وما عرفَت سعادة الحياة العاطفية في بيت زوجها، فصبّت عاطفتها كلها وفَيض قلبها كله في حبها لأولادها. ما نالت كل ما اشتهت فحاولت أن تعوّض ذلك بإنالة أولادها كل ما يشتهون من الحلال، فالحرام لم يكن له مكان في بيت زوجها كما لم يكن له مكان في بيت أبيها.
ولكن كيف والعين كما يقول الفصيح من أمثال العوامّ:
«العين بَصيرة واليد قصيرة» ، تعرف الذي تريده ولكن لا تعرف طريق الوصول إليه. فكانت تبذل من ذات نفسها ما تعجز عن بذله من مالها؛ كانت إذا جاء العيد ولم تستطع شراء الحلوى صنعت بيديها ما تقدر عليها منها.
وحلويات الشام من يوم عرفتُها طيّبة المذاق جيدة الصنعة، لكنها غالية الثمن. فلما حدّدَت الحكومة أسعارها ولم يعُد ما حدّدَته يسدّ نفقاتها استبدلوا بالسمن العربي الخالص دهناً مصنوعاً، وأدخلوا عليها من فنون الغشّ الخفيّ ما دخل كل شيء منذ عرفنا هذه الحضارة المادية. وما كنا قبل ذلك ملائكة ولا كنا جميعاً مثل أبي بكر وعمر، وكان فينا من يغشّ، ولكنه كان غشاً بدائياً يسهل كشفه فصار غشاً «حضارياً» لا يكشفه إلا الخبير، حتى لقد سمعنا أن في المصانع هناك، أو في بعضها، كيميائياً له وظيفة (1) كبيرة عمله إخفاء الغش، ولدى الحكومة كيميائي له وظيفة كبيرة لإظهار ما أخفى الأول. كل ما يصنعونه يكون بادئ الأمر متيناً ويكون صالحاً، فيضعف ويفسد، لا حباً بالفساد بل توفيراً للمال وزيادة للربح. حتى السيارات: القديمة منها التي كنت أعرفها صغيراً كانت من المعدن المتين، والجديدةُ إن ضربتَ بقبضة يدك غطاء المحرّك فيها، أثّرَت فيه ضربة يدك. وعلب الأدوية كانت من الحديد فصارت من الورق، والحقائب كانت من الجلد فصارت
…
لست أدري والله ممَّ صارت، ولكنها ليست جلداً على أيّ حال.
* * *
(1) الوظيفة في اللغة هي الراتب.
كانت أمي إذا جاء العيد صنعت بيدها الحلوى التي لا تستطيع أن تشتريها بمالها، وكانت تطبخ بدل الطبخة الواحدة طبخة لكل ولد. تقدّم لكل منهم الأكلة التي يحبها، ولو كان ذلك على حساب راحتها وصحتها. ومن البلاد ما لا يعرف أهله إلا ألواناً معدودة من الطعام يعيدونها ويكررونها، أما المطبخ الشامي ففيه العشرات من ألوان الطعام ممّا لا مثيل له في غير ديار الشام، لا أستطيع أن أعدّها لأني لا أعرفها كلها، ولكن أسمّي ما عرفت منها تمثيلاً لها، فمن اللحم: المشوي والمقلي واللحم بالصينية والكباب الهندي واللحمة بالخلّ وداود باشا
…
ومن الباذنجان: المُنَزَّلة والمُسقَّعة وإمام بايلدي (وهو اسم تركي معناه «الإمام داخ» أي غُشي عليه) والمَقلوبة (وهي أرز مطبوخ فوقه الباذنجان مع اللحم والصنوبر واللوز)
…
ومن الكوسا: المُنزَّلة والمُفَرَّكة والكوسا المحشي والمَكْمور (وهو كوسا يُفرَّغ ويُحشى باللحم واللوز والصنوبر ويُطبَخ بالمرق) والشيخ المغشي (وهو مثله لكن مرقه اللبن الرائب المطبوخ). ويصنع من اللبن: الشاكريّة واللّبَنيّة و «شيش بُرَك» و «باشا وعساكره» والمشمشية. ومن الفول ألوان: المُقَلّى والمُفَرَّكة والرز بالفول والفولية، ولكل منها طريقة في طبخها ونَصّ على ما يُضَمّ إليها ويوضع معها. والكبة أنواع كثيرة: النيّة (النيئة) وقد اشتهر بها لبنان، والمشوية والمقلية والكبّة بالصينية، والكبة المسلوقة وهي من حلب، والكبة الحَميص المطبوخة بدبس الرمان
…
والمقليات: من الباذنجان والكوسا والزّهرة وأخواتها. وأكلات يعتني بها النساء هي «حَرّاق إصبعه» و «ستّي إزبقي» و «قصاقيص الخياطة» ، والتبّولة والفتوش
…
ولو
ذهبت أعدّ ما أعرف من طبخات نساء الشام لضاق المقام وضجر القارئ من قراءة أسماء منكرة لأطعمة أكثرها معروف، ولكنه يأخذ المنكر من أسمائها ويجهل المعروف من حقيقتها.
* * *
عاشت أمي سبع سنين بعد أبي ما لها شاغل إلا أولادها؛ تُطعِمهم هي وتُلبِسهم، وتحثّني على أن أدارسهم دروسهم وأراجع معهم كتبهم، لأنها لم تكُن متعلمة ولم تدخل المدرسة كما دخلتها عمّتي من قبلها. وقد زدتُ همّها باشتغالي بالقضية، وإذا قيل القضية فالمراد قضية الاستقلال ومحاربة الاحتلال، فكانت كلما ذهبت أخطب في اجتماع أو سمعَت أني قدت مظاهرة، أو دفعت الشباب إلى تحقيق إضراب، أو كتبت مقالة مثيرة تهاجم الحاكمين، طار قلبها شعاعاً خوفاً عليّ، ولما وُقِفْتُ (1) في إدارة الشرطة مرّة وفي مخفر الخراب مرّة جاء من أخبرها، فوضعت عليها ملاءتها وذهبت إلى ابن أختها الشيخ شريف في مدرسته، فأبى أن ينجدها وقال لها عندي درس، فشتمته وشتمت الدرس الذي يشغله عن نجدة ابنها. والشيخ شريف أخوها من الرضاع وسَنينها ورفيق طفولتها، وكان يحاول ضربي أحياناً فتهجم عليه كأنها الدجاجة يُعتدى على فراخها فتنفش ريشها وتُعلي صوتها وتهدّد بمنقارها، ولو كان المهاجم أقوى منها قوة وأمضى سلاحاً.
* * *
(1) يقال وقَفَه بلا تشديد القاف، ومنها الوقف والأوقاف التي كانت تسمى قديماً «الأحباس» كما تسمى الأوقاف.
وجاء اليوم الأسود، وكان يوم أربعاء أذكره تماماً، وكان في الثاني والعشرين من صفَر سنة 1350. مرّ عليه ثلاث وخمسون سنة ولا تزال ذكراه ماثلة أمام عيني كأنه قد كان أمس.
عدت إلى الدار فوجدت أمي معصوبة القدم، وإذا هي تُسِرّ في أذني أن في رجلها جرحاً صغيراً من مقصّ سقط عليها. فهممت أن آتي بالطبيب فقالت: لا. لم تُرِد أن أتعب أنا بدعوة الطبيب ولم تحبّ أن تزعج إخوتي بمعرفة الخبر، وهوّنَت من أمره فرأيته هيّناً، ووضعت عليه قليلاً من صبغة اليود وأقبلت على كتابتي ولم أفكّر فيه، ولم أعلم أنه سيشغل تفكيري ويؤثّر في حياتي.
وأصبحت فأوهمتني أن الجرح قد برئ، لم أعلم إلا بعد حين أنها أمضت ليلها كله ساهرة لأن الألم لم يكن ليدعها تنام. كانت تدور في الدار يمنعها حبّها أولادَها من إيقاظهم، فهي على ألمها تتعهّدهم واحداً واحداً كأنها تودّعهم. ولم تخبرني، ولو كانت تعلم عاقبة هذا الكتمان لرحمَتني منها فأخبرتني، إذن لحاولتُ السعي لشفائها أو لتخلّصتُ -على الأقل- من هذا الندم الذي ظلّ يعتصر نفسي لأنني قصّرت في الاهتمام بها. وظللت مع إخواني نتكلم في الأدب وفي العلم وأمّي تعاني ما ليس لنا به علم ولا لها عليه صبر.
فلما امتدّ الوجع إلى اليوم الثالث واشتدّ ولم تَعُد تستطيع احتماله خبّرَتني به. وكان عندي رفيق عمري أنور العطار رحمه الله ورحمها فأشار أن آخذها إلى طبيب جراح، وكان أشهر الجرّاحين
من غير أطباء المستشفى هو الدكتور أحمد راتب، وأحضرت سيارة وحملتها إليها، وبلغنا عيادة الدكتور فلم نجده، وذهب من يفتّش عنه فجاؤوا به من المقهى في شارع بغداد، فشقّ الجلد لينظّف الجرح من غير أن يطهّر المشرط، فوضع هو أسباب الداء من حيث كنا نرجو على يديه الشفاء.
وأعدتها إلى الدار فإذا الألم يزيد ولا ينقص، كان في القدم فارتفع إلى الساق، فدعوت صديقي ورفيقي صبري القباني رحمه الله، وكان يعمل في مستشفى معهد الطب طبيباً داخلياً (1). فلما رأى ما بها قال: ماذا تنتظر؟ إلى المستشفى.
وذهبنا وكان أستاذ الجراحة الدكتور نظمي القباني حاضراً، فأدخلها إلى غرفة العمليات رأساً، ووقفت أنتظر كما يقف المتهَم أمام محكمة الجنايات ليسمع الحكم له بالبراءة أو عليه بالموت. وطال وقوفي وثقلَت الدقائق عليّ، حتى لأحسّ طقطقة الساعة الكبيرة على الجدار فوق رأسي كأنها مطارق تنزل عليه، إلى أن فُتح الباب وخرج الدكتور صبري يقول: لا بد من بتر الساق، فاكتب هنا أنك موافق.
ولم يدع لي وقتاً للتفكير لأن الأمر -كما قال- لا يحتمل التأخير، فكتبت وأخذ الورقة ودخل، ولبثت مثل المشدوه أفكّر كيف تدخل بساقين وتخرج بساق واحدة. وكَبُر عليّ الأمر ونسيت
(1) ويسمونه الآن طبيب امتياز، وهو الذي يتدرّب على العمل بعد نيله الشهادة.
أن بعض الشرّ أهون من بعض وأن الإنسان يتمنى المصيبة إذا واجه ما هو أكبر منها.
لقد تمنيت بتر الساق حين فُتح الباب وظهر الدكتور صبري، ينطق وجهه قبل أن ينطق لسانه، يخبر أن أمي لن تخرج بساق ولا بساقين؛ لن تخرج إلا محمولة على الأعناق.
لقد ماتت أمي!
* * *