الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-56 -
في سَلَمْيَة
تركتموني في آخر الحلقة 45 وقد عطلت «السّلطة» الصحيفةَ التي كنت أعمل فيها وأستمدّ قُوتي وقوتَ عيالي منها، فَسُدّت أمامي المسالك وأُغلقت الأبواب، إلا باب الوظيفة الذي كنت أمرّ به من قبل فأُعرِض عنه ويُفتَح لي فآبى دخوله. ولكن:
إذا لم يكن إلاّ الأسنّةُ مركَباً
…
فما حيلةُ المضطرّ إلاّ ركوبُها
فذهبت إلى وزارة المعارف فتسلمت هذا الكتاب:
"دولة سورية، وزارة المعارف، الديوان رقم 55/ 2344.
لحضرة السيد علي الطنطاوي المحترَم، دمشق.
رأينا تعيينكم معلّماً ملازماً في مدرسة سَلَمية، فنرغب إليكم أن تباشروا وظيفتكم هذه. والسلام عليكم.
دمشق في 10 نيسان 1932.
وزير المعارف محمد كرد علي".
ثلاثة أسطر، ولكنها بدّلَت مسار حياتي؛ وضعتني في طريق جديد أوله واضح بيّن ولكن نهايته غامضة خفيّة، لأنها المستقبَل
الذي أسدل الله عليه ستاراً حاجباً لم يكشفه لأحد، لكن يشقّه قليلاً لمن يشاء بمقدار ما يشاء. إنه عمل جديد في بلد جديد، لا أعني بالعمل التعليم فالتعليم عرفته وألفته، وأقول من باب التحدّث بنعمة الله: إني نجحت فيه من أول ما مارسته. ولكن أعني حياة الموظف، فهل أقدر عليها؟
الموظف الصالح (عندهم) هو الذي يطيع كل أمر وهو صامت؛ يطلق يديه بالتنفيذ ويمسك لسانه عن الاعتراض، يقيس الرجال بمراتبهم ورواتبهم ويقيم تقديره لهم على أرجل كراسيهم، فمن كان أعلى رتبة وأكثر راتباً وأضخم كرسياً كان هو المقدَّم، وكان هو الأفهم، وكان الأعلم! فهل أستطيع أن أروّض نفسي على هذا السلوك لأكون الموظف الصالح؟ هل أمشي مُكِباً على وجهي من كثرة الانحناء ليقولوا إني مثال الاعتدال؟
إن أثمن ما أقتنيه في حياتي حرّيتي وكرامتي، وأنا أبذل حياتي ليسلما لي ولا أبذلهما لتسلم لي حياتي، فكيف أقيّد حرّيتي بحبل الوظيفة وأُذِلّ كرامتي بالخضوع للرؤساء؟ أنا أذلّ أمام الله لأن الذلّ أمامه عزّ، والمسلمون الأولون لمّا وضعوا جباههم على الأرض ذلاًّ لله أعزّهم الله حتى وضع الجبابرة رؤوسهم عند أقدامهم. وأنا أخضع لحكم الشرع لأن الله هو الذي شرعه وأمرَنا باتباعه، وللقانون الذي يُقرّه أولو الأمر منا ويكون فيه مصلحة لنا ولا يخالف شرع ربنا. ولكني لم أذلّ يوماً لرئيس ولا انقدت لشهوته في التحكّم ولا استشعرت الصَّغار أمامه، لهذا كله لم أكُن موظفاً طيّعاً منقاداً بل كنت (عندهم) مشاكساً مشاغباً.
كنت أواظب على عملي لا أتأخر عن موعد الدوام بل أسبقه، وأقوم بالعمل كاملاً لا أنقص منه بل أزيد عليه، أعطي الوظيفة وقتي كله وجهدي كله، وأعترف للرؤساء بالحقّ الذي أقرّه لهم القانون وأعاملهم بالأدب الذي يقتضيه العرف، فإن طلبوا مني أكثر من ذلك أو ساوموني على عزّة نفسي وكرامتها لم يجدوا عندي إلا الإباء.
يحملني على هذا المسلك ثلاث: واحدة تكاد تكون فينا معشر العرب جميعاً، بقيت من عهد البداوة، هي الإفراط في «الفردية» . إن كل واحد منا يشعر أنه جماعة وأنه أمة وحده، يريد النفع لبلده لكن بشرط أن يجيء على يده، فإن جاء على يد غيره نَفِسه عليه وتربّص به العثرات والسقطات. والواعظ يدعو الناس إلى الله ويرغّبهم في التقوى، فإن اتقوا عن طريق غيره وجد عليه وربّما تنكّر له!
ونحن جميعاً نكره النقد ولا نصبر عليه ونضيق بالمعارضة ولا نحتملها؛ إن أنت نقدت ديوان شعر صرت عدواً للشاعر وإن تكلمت عن كتاب صرت خصماً لمؤلف الكتاب، لذلك قلّت فينا الأعمال الجماعية، وإن وُجدَت فقدت روحها وصارت -غالباً- مؤسسة فردية: الفعل فيها لواحد والاسم للجماعة، كأن الله خلقنا على مثال الثوم (في شكله لا في ريحه): تأخذ رأس الثوم فتقشره فتجد فيه رؤوساً أصغر منه، فاقشر أحد هذه الرؤوس تَلْقَ فيها رؤوساً أخرى صغاراً، فنحن مثل الثوم كلنا رؤوس!
أما الثانية: ففينا أهلَ الشام، مَن أدرك منا أيام الانتداب (وهو الاستعمار) وما شابهها من الأيام، حين كان حُكّامنا من
غيرنا وكنا نرى موالاتهم ذنباً وطاعتهم ضعفاً ومدحهم جريمة، وكان من البطولة أن نعصي أوامرهم وأن نتمرّد عليهم. وبقيَت في نفسي بقيّة من هذا الشعور إلى الآن، حتى إنني أتحرّج حين أمدح من الحكام مَن هو صالح في نفسه مُصلح في عمله مستحقّ للمدح ما في مدحه ظلم ولا فيه معرّة، ولكنه أثر ما نشأت عليه ولم أتخلص منه.
الثالثة: فيّ أنا خاصّة، هي أنني خُلقت أبِيّاً على الظلم منيعاً على الاستبداد، لا أحترم الكراسي بل مَن كان عليها ممّن يستحقّ الاحترام لصلاحه وعلمه وفضله، فإن لم يكن من هؤلاء كان الكرسي -فارغاً- أكبرَ في نفسي وأملأ لعيني من الرئيس القاعد على الكرسي!
لذلك كانت حياتي في الوظيفة صداماً وعراكاً ونقلاً مستمراً من مكان إلى مكان. ثم إني لم أكُن أقصُر نزاعي مع الجَهَلة أو مع الظالمين من الرؤساء على مكان العمل، بل أنقله بقلمي إلى الصحف أُصليهم به ناراً وأقلّبهم على متوقد الجمر، وأحمله بلساني إلى المنابر أرجمهم من فوقها بنقد صادق أشدّ من وقع الحجارة على رؤوسهم. على أني ألين لمن يلقاني منهم بالأدب (والأدب واجب في لقاء الكبير بالصغير مثل وجوبه على الصغير عند لقائه الكبير) ولمن يعاملني بالإنصاف، بشرط أن يكون مستقيم السيرة طاهر السريرة شريف النفس، فإن كان فاسقاً أو منحرفاً أو فاسداً لم أَلِنْ ولو أولاني أكبر الاحترام ونالني منه أجزل النفع.
* * *
وذهبت لتسلّم عملي في سَلَمية (1). ما ذهبت بنفسية موظف جديد يتهيب العمل ويتهيأ لمقابلة الرؤساء، بل بنفسية شابّ معتزّ بنفسه. ولو صحّفتم الكلمة وبدلتم مواقع النقط على الحروف لما ابتعدتم عن الواقع، فلقد كنت مغتراً بعض الغرور، وبين الاعتزاز والاغترار فرق يسير. وكيف لا يصيب الغرور شاباً صار له اسم في البلد وزعامة في الشباب، ووزن في الأدب وذِكْر في الخطباء ومشاركة في التأليف، ومعرفة بكبار رجال السياسة والعلم والأدب، وهو لم يجاوز الرابعة والعشرين؟
وكانت هذه هي المرة الثانية التي أخرج فيها من دمشق. ففي الأولى (أي قبل أربع سنين) كانت سفرتي إلى مصر وقد عرفتم خبرها، وهذه الثانية. ذهبت في الأولى بالقطار إلى حيفا وركبت في الثانية السيارة إلى حمص: تخرج من دمشق فتمشي ثلاثة عشر كيلاً في طرف الغوطة، إلى دوما التي كانت بلدة الأعناب فأصاب كرومها (التي كانت تمتد أكيالاً) آفةٌ ذهبت بها، تمر في الطريق إليها على حَرَسْتا بلد الزيتون وفيها معاصره التي تعصره زيتاً لا نظير له، وقد اتصلَت دمشق الآن بحَرَسْتا (وأظنّ اسم حرستا سريانياً معناه المحروسة)، ثم بدوما، ثم جاوزت دوما إلى القصير (والقصير مثل شَهار هنا والعصفورية في بيروت والعباسية
(1) اسمها الشائع بين الناس هو السلميّة (بالتعريف وبتشديد الياء)، والصحيح فيه أنه بلا تعريف وبميم ساكنة بعدها ياء مفتوحة:«سَلَمْيَة» ، كذا وردت في معجم ياقوت وفي بيت لأبي فراس:
عَبرْنَ بماسحٍ والليلُ طِفلٌ
…
وجئنَ إلى سَلَمْيةَ حين شابا
…
وفي بيت للمتنبي صدره: «تثير على سَلَمْيَةَ مُسْبَطِرّا» (مجاهد).
في مصر؛ فيها مستشفى الأمراض العقلية)، ثم تمرّ بقربة عَدْرا، وضُمَيْر التي مرّ بها وذكرها المتنبي:
لئن تركنَ ضُمَيراً عن ميامِننا
…
لَيحدُثنّ لمن ودّعتُهم ندمُ
ثمّ ترتقي التنايا (الثنايا، وهي ثنيّة العقاب التي هبط منها خالد سيد قُوّاد التاريخ القديم لما جاء من العراق)، ثم تمرّ بالنَّبْك ومنطقة يَبرود، وهي أعلى مصايف لبنان الشرقي، ثم يهبط بك الطريق إلى حمص، وطوله مئة وستّون كيلاً في نهاية كل أربعين كيلاً منها منزل فيه خان أثري ومحطّة للقوافل، وهي القطيفة والنّبك وحسية، وكانت لها مقاصد أخرى هي أنها كانت مراكز اتصال، فكان الرسل يصلون إليها على خيولهم المتعَبة فيجدون خيولاً أخرى مُعَدّة مستريحة فيستبدلونها بخيولهم، وربما سلّموا الرسائل إلى رسل آخرين مستعِدّين فحملوها ونزلوا هم فاستراحوا، فيمشي البريد أبداً ليلاً ونهاراً. وهذه الخانات متصلة من دمشق إلى حلب. وعندنا سلسلة من القلاع مبنيّة كلها على تلال صناعية، أكملُها وأجملُها قلعة حلب، وإلى الجنوب منها قلعة حماة وقلعة حمص، ومن حلب إلى الشرق قلعة الموصل وقلعة أربل (أربيل) وقلعة كركوك، وقد تَخرّب بعضها. وقد مررت بها لمّا عدت من العراق، وسيأتيكم خبر ذلك.
وكان عندهم أسلوب آخر للاتصالات السريعة اهتموا به أيام هجوم التتار والمغول: نيران توقد ليلاً إذا كان هجوم، فإذا رآها من في المركز الثاني أوقدوا ناراً مثلها، فينتقل الخبر من العراق إلى الشام في أقصر الأوقات، وفي النهار يجعلون بدل النار دخاناً كثيفاً يُرى من بعيد.
وكانت تلك أول مرة أجاوز فيها دمشق شمالاً إلى أبعد من النبك، فكنت أتأمل المشاهد من حولي وأرقب الطريق من خلفي، أخشى أن تسقط إحدى حقيبَتَيّ كما سقطت في السفرة الأولى في طريق حيفا. فلما طال الطريق مللت وأغمضت عيني، ولكن ما نمت لأن مقعد السيارة كسر ظهري، فقد كان صُلباً عالياً قائم الظهر، لم تكُن هذه المقاعد المريحة ولا هذه السيارات الفسيحة المدفّأة في الشتاء المبرَّدة في الصيف. واذكروا أني أتكلم عن سنة 1932، أي عمّا كان قبلَ خمسين سنة. ولم يكن في السيارة ممرّ من داخلها، بل كانت مقاعدها موصولة مصفوفة صفوفاً لا يوصل إلى أحدها إلا من باب السيارة أو من نافذتها، كانت كعربات الترام التي ألغيناها في الشام ونزعنا من الأرض خطوطها، ومرّت مدّة ثم رأيتها أمامي قد عادت كما كانت بقِدَمها وبِهِرَمها وبسَقَمِها، ولكن في بروكسل لمّا ذهبت إليها، قد رُدّت إلى أهلها لأن الشركة التي كانت عندنا بلجيكية جاءت من هناك.
إن القادم على بلدة جديدة يتخيل شكلها ويفكّر فيها ويعرض في ذهنه الصور الممكنة لها، ولكن صرفني عن ذلك تعبي في مركبي، ومللي من طول الطريق، وبرودة الهواء وبرد أحاديث الرفقاء، وأن المقاعد امتلأت بالركّاب فوقها وبالسلال والقِفاف والأحمال أمامها وفيما بينها، حتى إنه كان في الصف الأخير شاة تقول طول الطريق «باع» وأطفال يبكون يصرخون «واع» ، والفكر ضاع بين باع وواع.
لم يكن في ذهني عن سَلَمية إلا ما يقوله مُنكِرو نسب الفاطميين من أن جدّهم (القدّاح) كان منها، لم يكن جدّهم
فاطمياً ولا علوياً والله أعلم، فما أريد الآن تحقيق نسبتهم أو إثبات افترائهم. وأنها بلدة الإسماعيليين من أتباع آغا خان، ينظرون إليه نظرة تقديس ويعاملونه معاملة عبادة (1). وأنها فُتحت فيها ونحن في أوائل المدرسة الثانوية مدرسة زراعية، بذلوا لها كرائم الأموال وجاؤوها بأفاضل الرجال ولم يبخلوا عليها بشراء أجوَد الآلات وأفضل المعدّات، ودعوا التلاميذ إلى الانتساب إليها ووعدوهم ومنّوهم، فما استجاب لهم إلا نفر من رفاقنا كانوا
(1) حينما نشر الشيخ هذه الذكريات في جريدة «الشرق الأوسط» ختم الحلقة الستّين منها بحاشية عنوانها «تصحيح وتوضيح» لم ترد في الطبعة السابقة من هذا الكتاب، وقد وجدت إدراجها في هذا الموضع مفيداً، وفيها:"تلقّيت رسالة من الأستاذ في الجامعة الإسلامية في المدينة أحمد الأحمد الذي كان من تلاميذي سنة 1938 يقول فيها إن أهل سلمية ليسوا جميعاً من الإسماعيلية، بل إن ثلثهم من أهل السنّة والجماعة ومن السلفيين، وهو من هؤلاء. وأنا أذكر أنه كان في سلمية لمّا كنت معلّماً فيها سنة 1932 رجل سنّي اسمه محمد أفندي الجندي بنى مسجداً فيها وله جماعة، ولست أدري الآن ما صلة سامي الجندي به. وهذا توضيح وتصحيح لما قلت، ومن كان لديه علم عن هذا الأمر فليتفضّل بإعلانه".
قلت: وقد وجدت في الدراسة التي كتبها محمد المبارك عام 1958 وسمّاها «تركيب المجتمع السوري» (ونُشرت من قريب) أن بعض علماء حمص قاموا بالدعوة إلى الإسلام السنّي في قرى سلمية في أيام الانتداب الفرنسي فتسنّنَ كثيرٌ من أهلها، وانتبه الفرنسيون فأخرجوا هؤلاء العلماء، وبقي من عاد إلى الإسلام من الناس على إسلامه، حتى إن بعض الأسر قد انقسمت إلى قسمين إسماعيلي وسني، وحصلت بين الفريقين مصادمات ومشاجرات (مجاهد).
من أضعفنا في العلوم وأقلّنا في الدرجات. فانطبعَت بذلك صورة سيئة لها في نفسي.
ثم انصرفت الحكومة عنها وكأنها يئست منها، فتركت من كان فيها من التلاميذ ليكملوا دراستهم فيها، واستغنت عن خيرة أساتذتها، وقررت إلغاءها. فلما بلغتها وجدتها كالآثار: ديار ولكن ما فيها ديّار، صرح عامر ولكن:
تحمّلَ عنه ساكنوهُ فُجاءةً
…
فعادَتْ سواءً دُورُهُ ومقابرُه
مشاتل صوّح نبتُها ويبس زرعها، وبساتين ماتت أشجارها وبادت ثمارها، وآلات صدئ حديدها ورثّ جديدها؛ صار القصر قبراً وصار الواقع ذكرى.
لقد محت الأيام الآن صورة سلَمية من ذاكرتي إلا بقعاً منها ثبتت ألوانُها على مرّ الزمان، حتى أراها اليوم -بعد نصف قرن كامل- واضحة ظاهرة كأنما هي قد رُسِمت أمس. لمّا ركبت السيارة من دمشق كان قد بقي من السنة المدرسية شهران اثنان. وكنت أعلم هذا، ولكني لمّا جئت أختار الكتب التي أحملها معي كنت أرى الكتاب فأقول إنه يفيدني، والثاني فأرى أنه يسلّيني
…
وكتبُ العالِم (أو طالب العلم مثلي) هم أصدقاؤه، ولا تطاوعني نفسي في التخلي عن أحد من أصدقائي، بل إنني لطول معاشرتي الكتب وابتعادي (إلا عند الاضطرار) عن الناس أفيض عليها صفات الأحياء من الأصدقاء، فهذا مخلص ولكنه قبيح الصورة صعب العِشرة، وهذا عالِم مطّلع ومعلّم نافع ولكنه ثقيل الدم بعيد عن القلب، وهذا خفيف الروح يسلّيك ويطربك
لكن لا تخرج من صحبته بطائل، وهذا حبيب إليك لا تملّ رفقته ولا تحتمل فرقته، وهذا بغيض إليك ولكنه مفروض عليك
…
وقد جمعت كتباً لا يتسع لقراءتها عامان، مع أنه لم يبقَ لديّ إلا شهران وعندي امتحان، فقد كنت في السنة الثانية من كلية الحقوق. وكنت أعرف هذا ولكن الإنسان طمّاع، يجمع من المال ما لا ينفقه ومن الكتب ما لا يقرؤه ومن اللباس ما لا يلبسه، يريد أن يملك كل شيء. يبتغي الألف فإن نالها طلب الألفين، وإن وصل إلى المليون طمح إلى المليونين، ولو كان له وادٍ من ذهب لابتغى له ثانياً، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
خرجت من دمشق صباحاً، وكنت أرجو أن أبلغ سلمية قبل انصراف التلاميذ فما بلغتها إلا ليلاً، فوجدتها أشبه شيء ببلدة بَحْرة (1) وحولها صحراء كالتي تحيط ببحرة، ورأيت فيها وأنا في السيارة مضارب بدو، خيامهم قائمة وماشيتهم سائمة، وفي وسطها قهوة فوقها بناء جديد، كالذي ترونه وسط بحرة لكنه أكبر وأعلى. وبحرة على الطريق إلى مكة، فلا يكاد المارّ بها يتأملها لأن بصره موجّه إلى غايته فهو يريد بلوغها، فلا يتنبّه إلى ما يمر به في الطريق إليها، وسلمية غاية لقاصدها، ينقطع الطريق عندها فلا يصل إلى مدينة بعدها.
ووقفت السيارة في رحبة البلد أمام القهوة، فخرج منها
(1) في منتصف الطريق القديم بين مكة وجدة، و «البَحرة» في اللغة مجتمَع البيوت.
المرحّبون بي القاعدون في انتظار استقبالي. ووجدت أن مدير المدرسة هو الرجل الطيّب النبيل بكر (باكير) أفندي الأورفلي الذي كان من معلّمينا في المدرسة الابتدائية (وهو من حماة)، ووجدت اثنين من المعلمين فيها كانا معنا في المدرسة: الشيخ منير لطفي والرسّام البارع شعيب أفندي. وقعدنا نتحدث كأننا متعارفون متآلفون طول العمر، وكنت موضع التكريم.
ومن يَعِشْ في القرية المنقطعة يأنسْ إن قدم قادم، لأنه وجه جديد معه خبر جديد، يبدّد به وحشة العزلة وملل الحياة الرتيبة. أما أنا فقد كنت في نشوة من الأنس بهؤلاء الإخوان وبما أحسست من الأمان والاطمئنان، وبالهدوء الذي أُقدِم عليه وأعيش فيه بعد الصخب والضجيج في الجريدة ولجنة الطلبة والخطب والمظاهرات ومصادمات الشرطة ومناظرات ومهاترات الصحف
…
في بلد جديد آمل أن أجد فيه طريفاً مشوّقاً. ثم إني بين إخوان بدا لي من اللقاء الأول أنهم طيّبون لا خلاف بينهم ولا تباغض، ما بينهم -كما يبدو- إلا المحبّة والوداد. ثم إني سأستريح من طَرق أبواب الرزق وآخذ مرتّباً كافياً، هو ستّ وثلاثون ليرة (تعدل بسعر اليوم اثنين وعشرين ريالاً). ذلك كان مرتبي في الشهر، أي أقلّ من ثمن بطيخة واحدة أو كيل بلح في أيامنا هذه! بثمن بطيخة أنفق على نفسي هنا وعلى إخوتي وعمّتي في الشام شهراً كاملاً لأنني كنت أشتري بها قبل خمسين سنة ما لا يُشترى الآن بألفَي ريال!
وانفضّ الجميع فذهب المعلمون إلى بيوتهم، وصحبت المدير إلى دار السيد (الذي صار من بعدُ شيخاً بجبّة وعمامة) منير
لطفي الذي دعانا إلى العشاء. وكنت من صغري أكره الدعوات، ولكني لم أكُن قد اتخذت رفضها سُنّة دائمة لا أحيد عنها كما أفعل من عشر سنوات. وأنا لا أحبّذ المخالفة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُنّته هي الطريق المستقيم وهي الرأي الحكيم، ولا أدعو أحداً إلى تقليدي بل أدعوه إلى إجابة دعوة الأخ المسلم فهي من حقّه عليك، وأنا أستغفر الله من رفضها والهرب منها، وما فعلت ذلك إلا لأنه آنَسُ لحالي وأعون على إنجاز أعمالي وأحفظ لوقتي، ولو أني أجبت كل دعوة واستقبلت كل قادم وودّعت كل مسافر وهنأت كل مسرور وعزّيت كل مُصاب (وكل هذا مطلوب محبوب، يقوّي المحبة ويزيد الألفة) لو فعلته لما كتبت شيئاً ولا خطبت ولا حاضرت ولما وجدت وقتاً لمطالعةٍ ولا لمراجعةٍ.
وحياتي كلها ثلثها نوم، وثلثها عمل لا بد منه ولا غَناء عنه، والباقي منها أنفق أكثره في المطالعة، فهي أنس نفسي وغذاء عقلي. ولو أني أجبت دعوة إياد واعتذرت لعمرو (1) لأغضبت عَمْراً، لذلك أعمّ بالاعتذار الجميعَ وأستغفر الله. ومن عذري أن من يدعوني يطعمني ما هو ألذّ من طعامي المعتاد، ولكنه يسلبني حرّيتي في اختيار وقت الأكل وتحديد نوعه وانتقاء من يأكله معي، وربما أطعمني ما لا أريد مع من لا أحب في غير الوقت
(1) إياد الطبّاع وعمرو حتاحت من أحفادي الذين بلغوا إلى الآن عشرين، منهم من الأطباء والمهندسين، كما بلغ أولاد الأحفاد إلى الآن (1404) ثمانية، وفّقهم الله إلى ما يرضيه.
قلت: ثم زاد الحَفَدة اثنين فصاروا اثنين وعشرين، وبلغ أولادهم (وأنا أعدّ هذا الجزء للنشر) سبعة وأربعين (مجاهد).
الذي أريد أن آكل فيه. لذلك أهرب من الدعوات، ولا أنصح أحداً أن يفعل فعلي.
وهذا كله في الولائم الرسمية والدعوات التي يُتكلَّف لها ويُحتفَل بها، أما أن أكون عند صديق لا أحتشمه فيحين موعد الطعام فيأتي بما تيسّر، أو يكون عندي فأقدّم له ما حضر، فهذا من باب آخر. ومن هذا الباب الآخر كان عشاؤنا أنا والمدير عند أخينا منير، ولمّا قُضي العشاء اقترح أن نزور «قائم المقام» ، أي الرئيس الإداري للمنطقة. والتقسيمات الإدارية عندنا هي:«الناحية» ، ويتألف «القضاء» من عدد من النواحي ويكون رئيسه قائم المقام (ويدعونه القائمْقَام) وهو تعبير عثماني، وتتألف «المحافظة» من عدد من الأقضية ورئيسها «المحافظ» .
وفي القضاء محكمة شرعية فيها قاضٍ شرعي تنظر في دعاوى الأحوال الشخصية، ومحكمة صلح فيها حاكم صلحتنظر في القضايا الأخرى (الصغيرة منها)، ودائرة مالية فيها «مديرمال» ، ودائرة عقارية ودائرة صِحّية، وضابط الأحوال المدنية (ويسمّونه مأمور النفوس)، ومخفر للدرك يقوم عليه ضابط يأتمر بأمر قائم المقام، والمفتي وموظف الأوقاف وموظف الزراعة والمصرف الزراعي، كلٌّ يتبع وزارته. ولقائم المقام الإشراف العام.
وأفهمني بأن زيارة الموظف الجديد لقائم المقام أمر متعارف لا بد منه وهو «تقليد رسمي» ، فذهبنا إليه في بيته. وكان أميراً من أمراء المنطقة وقوراً مهيباً ليس على شيء من العلم ولكنه مهذب الطبع، فاستقبلني مرحّباً وقال بأنه كان يسمع بي ويقرأ مقالاتي ويتابع أخباري، وكان عليّ أن أصدّقه أو أن أظهر أني
مصدّقه! ووجدت الموظفين يجلسون حوله كأن على رؤوسهم الطير فلا يتحركون خشية أن تطير، أما أنا فلم يكن على رأسي إلا طربوشي
…
ووجدتهم يعظّمون فيه الكرسي لاينظرون إلا إليه، وأنا إنما أرى الرجل وأكلمه وأعطيه قدر ما يعطيني، فلما رأيته يكلمني بأدب وتهذيب كلمته بتهذيب وأدب، ووجدته يسألني فأجبته عمّا يسأل.
وأدلى بآراء في قضايا طلب فيها رأيي فبينت رأيي فيها، فوافقته في بعض ما قال وخالفته في بعض، وهم يوافقونه على كل ما يقول ولا يخالفونه في شيء. فعجبوا مني ونظروا إليّ وكأن عيونهم تقول لي: إننا نعرف ما تعرفه ونستطيع أن نقول ما قلتَه، ولكنا كبار مجرّبون نريد أن نأكل خبزاً، وأنت شابّ غرير لم تجرّب الحياة ولا يهمّك أكل الخبز.
ولو عرفوني لعلموا كم جرّبت وكم تعبت حتى أكلت وأطعمت أهلي الخبز! وكانت النتيجة أن الرجل زاد في تقديري وأثنى عليّ، ونلت منه بصراحتي وصدقي ما لم ينَله هؤلاء بموافقتهم ومسايرتهم. وودّعني إلى الباب الخارجي وطلب أن أُكثِر التردّد عليه، ولكني جعلتها الزيارة الأولى والأخيرة.
وأصر المدير إلا أن أنام في داره وأصررت على النوم في الفندق، وقلت له: أنت أستاذي وقد علّمتَني الصدق، وأنا أسألك: ألا تريد راحتي؟ قال: بلى. قلت: يا سيدي، إن راحتي في الفندق.
* * *