الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-62 -
دفاع عن فلسطين
صرت موظفاً وأمسك بمعصمي القيدُ، ولكنه كان قيداً واسعاً أستطيع أن أُخرِج يدي منه متى شئتُ. بعت بعضَ وقتي بهذا الراتب وبعضَ حرّيتي، ولكن لم أبع ضميري ولا لساني، فأنا لا أزال حرّ الضمير طليق اللسان، ما هجرت المنابر ولا طلّقت الصحف، بل عدت إلى الأموي أخطب فيه كلما حدث حادث، فما إن أصيح صيحتي المعروفة (إليّ إليّ عباد الله) ويتبين المصلون صوتي تتجاوب أصداؤه من أرجاء المسجد، يصل إليها بلا مكبّر للصوت، حتى يُقبِلوا عليّ ويسرعوا إليّ ليسمعوا مني ما كانوا يسمعونه قبل أن أصير موظفاً. وربما قدت المظاهرات تخرج منه كما كنت أقودها قبل أن أكون موظفاً، ورجعت أكتب في الصحف ما يُرضي الحكومة وما يُغضِبها، ما جعلت من همّي يوماً رضاها ولا غضبها، كان كل همي أن أرضي ربي وأن أكون صادقاً أمام نفسي.
المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جداً، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يوماً- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في
مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة التي أنشأها تيسير ظبيان، والناقد، والمكشوف لفؤاد حبيش في بيروت، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه «المجموعة الكاملة» لبواكير كتاباتي التي لم أجمع منها في كتاب إلا ما اشتمل عليه كتابي «الهيثميات» الصادر سنة 1930؟ ولكن هب أنها جُمعت وطُبعت، فما انتفاعي أنا وما انتفاع الناس بها؟ فدعوها مدفونة فلن تُرجع لمن مات الروح!
موضوعات هذه المقالات كثيرة، ولكن أهَمّها: موضوع النضال للاستقلال وما صنعنا في هذا المجال، وموضوع الماضي وأمجاده، ما كتبتها لنفخر بها وننام عليها بل لنصنع مثلها، والنقد الأدبي وما نتج عنه من مناظرات وردود، وقصص من التاريخ، وصور ومشاهدات من الحياة، وتعليق على بعض أفلام السينما وتلخيص لقصصها (عرفتم أني كُلّفت بذلك لمّا احترفت الصحافة) والموضوع الذي أخذ من قلبي ومن لساني الحظّ الأوفر: وهو قضية فلسطين التي كنت أكتب فيها وأخطب في أواخر العشرينيات.
* * *
لقد ضاع (مع الأسف) أكثر ما كتبت يومئذ، ولكن أمامي الآن مقالة كُتب لها البقاء. نُشرت «افتتاحية» لعدد يوم الأحد 15/ 10/1933 من جريدة «ألف باء» للأستاذ يوسف العيسى. أنذرت فيها العرب «داهية دَهياء لا ينادى وليدها» إن بقينا على تجاهلنا قضية فلسطين؛ كأني كنت (وكان غيري ممّن يكتب عن هذه القضية) نحس بالخطر الذي يتربص بفلسطين وأهلها، ما
اطّلعنا على الغيب ولكنّ المقدمات أشعرَتنا بالنتائج. فكتبت وكتب مَن هو أكبر مني في البلاغة قدراً وأعلى في البيان مكاناً وأعرف بالسياسة ظواهرها وخفاياها، نصرخ في قومنا كما كان يصرخ في القبيلة النذير العريان، وممّا جاء في هذه المقالة حملة على الأدباء قلت لهم فيها:
أيهيج نفوسَكم ويؤلمكم ويسوّد الدنيا في عيونكم حبيبٌ يُعرِض عنكم، أو ليلة وصال منه تخسرونها، أو ابتسامة يُحجَب عنكم نورها؟ ولا يؤلمكم أمة في فلسطين تضيع بقَضّها وقَضيضها، يهاجمها في عقر دارها أذلّ شعب وأخسّه وأهونه على الله والتاريخ؟ يستلب بالثمن الغالي أرضها يشتريها منها، ثم يبعث بالفاسقات من بناته فيسترده منها، يعطيها بأيدي رجاله ويذهب ما أعطى من بين أرجُل
…
نسائه! ألا يؤلمكم أن تصبحوا يوماً فتجدوا أن فلسطين صارت لغيركم، وأنكم صرتم غرباء في أرضكم أو تائهين مشرّدين في أرض الناس؟ ونحن نعرف «اليهودي التائه» ، فهل تسكتون حتى يصير منا «العربي التائه» ؟
الأدب هو محرّك الشعوب ومثير الهمم وباعث العزائم، الأدب يوقظ النائم وينبّه الغافل، فأين أنتم يا أدباء العرب من «قضية فلسطين» ؟ إن خطبة طارق فتحت الأندلس، وخطب نابليون أكسبَته إسترلتز، وخطب فيخته أعادت الروح إلى الألمان وأرجعتهم إلى مكانهم من الحياة، فأين القصائد الفلسطينيات؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين: تصف نكبة فلسطين وتحرّك الدنيا لنصرة
فلسطين، بل تهزّ قبل ذلك أهل فلسطين وجيران فلسطين ليتداركوا فلسطين قبل أن يأتي يوم يندمون فيه، وليس ينفع في ذلك اليوم الندم.
لقد مرّ على دخول الإنكليز فلسطين خمس عشرة سنة، ودخول اليهود معهم، حشرات متعلقات بأذنابهم. أفما تكفينا خمس عشرة سنة (1) لنصحو من نومنا ونفتح عيوننا، فنبصر الماء يجري من تحتنا وبوادر النار من حولنا، والهوة السحيقة أمامنا نمشي إليها بأقدامنا؟
(إلى أن قلت): لينظم الشعراء القصائد في نكبة فلسطين، وليتغنَّ المغنّون بشعر فلسطين، ولتؤلَّف اللجان في كل بلد عربي، في كل بلد مسلم لإنقاذ فلسطين. لم تأتِ الآن معركة الدم والحديد، فلنحارب بالمال، لنردّ عدوان اليهود بالفكر السديد، بالخُطَط المدروسة، بالاتحاد، وقبل هذا كله وبعد هذا كله بالعودة إلى الله، لأن العدوّ مهما كبر ومهما كبر من يعينه وينصره فالله أكبر، فمن كان مع الله لم يخَف أحداً.
لنبدأ بجمع المال لإنقاذ فلسطين، ليقدّم كلٌّ ما يستطيع لا يخجل به مهما قلّ، إن الشحّاد يستطيع أن يقدّم «نِكلة» في الشهر فليقدّمها (2). نكلة في الشهر، وقرش في الشهر، وفرنك
(1) دخلوها سنة 1918م.
(2)
النكلة نصف قرش سوري، والقرش يعادل هلالة (هللة)، والهللة كالملّيم في مصر والفلس في العراق، والورقة (أي الليرة) مئة قرش والفرنك خمسة قروش.
في الشهر، وربع ورقة في الشهر، ونصف ورقة في الشهر
…
وأنا رجل مفلس ولكني أقدم من اليوم نصف ورقة في الشهر. لا تقولوا إن ذلك قليل، فالقليل إلى القليل كثير. ولو أن أهل دمشق دفعوا ما يعادل ربع ليرة فقط من كل منهم لاجتمع في الشهر خمسة وسبعون ألف ليرة.
يا أيها الناس، إخوانكم وأبناء عمّكم يريد اليهود أن يطردوهم غداً من ديارهم أن يُميتوهم، فاشتروا حياتهم بمالكم. الأدب، ثم المال، ثم الدم؛ هذه هي الأركان التي يقوم عليها العمل لإنقاذ فلسطين. فسيروا فهذا هو الطريق، سيروا من الآن بخُطى ثابتة وسريعة، لا يجوز أن نتمهل فالوقت يمرّ علينا لا لنا. يا أيها الناس، ثقوا أنها إن ضاعت فلسطين ضعنا.
* * *
هذا ما قلته من أكثر من خمسين سنة، ولكن ما سمعه أحد. ولو أننا جمعنا كل شهر في دمشق وحدها خمسة وسبعين ألف ليرة لمساعدة فلسطين واستمررنا عليها، فكم كان يجتمع لنا إلى الآن؟ لقد كانت موازنة «دولة سورية» يومئذٍ سبعة ملايين ليرة. كان ثمن الليرة الذهبية الرشادية خمس ليرات سورية ونصف الليرة. خمسة وسبعون ألف ليرة تعدل بقوّتها الشرائية -يومئذ- مليونَي ليرة اليوم أو أكثر. فلو جمعنا من كل بلد من بلاد المسلمين مثلها لاشترينا فلسطين من جديد.
لقد كتبت بعد هذه المقالة عشرات من المقالات، وكتب غيري ممّن هو أخلص مني وأفصح وأغيَر مئات، فما تنبّه أحد.
مرّت خمسون سنة ونحن نُنْذر ونحذّر، نقول: إننا في حرب مع أمكر وأخسّ البشر، فهل رأيتم من يعيش في الحرب مثل عيشه في السلم؟ هل رأيتم من ينفق فيها على السرف والترف والكماليات، بل على ما لا صلة له بالكمال، ما فيه إلاّ النقص والعار؟ ننفق ولانزال ننفق! نصبّ في هذه البالوعة ما لو وفّرناه لكان لنا منه جيش ينقذ فلسطين ويخلّص كل بلد مسلم يعاني مثل الذي تعاني فلسطين. طالما قلت للناس: إن هرّة مريضة تموء في الشارع تحت شبّاكك تطرد من عيونك النوم، فكيف تنام ومن إخوانك العرب المسلمين من يئنّ ويشكو ويمزّق من بكائه سكون الليل؟ من يدق جارُه مسماراً في جداره يفيق مذعوراً ويتعذر عليه المنام، فكيف تنام وفي الأرض عرب مسلمون تدكّ المدافعُ دورَهم وتهدم بيوتَهم، مدافع أصداؤها تملأ الدنيا، أفلا تسمعها؟
خمسون سنة ونحن نقول إن فلسطين أمانة في عنق كل عربي، عقيدة في قلب كل مسلم، فأنقذوها؛ أنقذوا المسجد الأقصى مسرى نبيّكم، قبلتكم الأولى. لا تنفقوا قرشاً بعد نفقتكم ونفقة عيالكم إلاّ على فلسطين، لا تبذلوا جهداً بعد الضروري من جهودكم لتأمين معيشتكم إلاّ على فلسطين. إن اليهود يعملون على سرقتها كافّة فاعملوا أنتم على استردادها كافّة. قاتلوا مجاهدين في سبيل الله لا لمجرد استرداد الأرض، فالأرض تُسترَدّ بالجهاد الذي معه عون الله، ولكن عون الله لا يأتي لمجرد القتال للأرض. لا تيأسوا فإنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون.
لقّنوا أولادكم مع حليب الأمهات وجوب الجهاد لاسترداد
فلسطين، علّموهم كلمة «فلسطين» مع كلمة «بابا» و «ماما» . فإذا كنا نحن -مع الأسف- جيل الهزيمة لبُعدنا عن ديننا واختلافنا في أمرنا، فسيظهر منهم جيل النصر، ولو بعد خمسين سنة أو مئة سنة. أما لبثَت القدس بأيدي من كانوا أقوى من اليهود نحواً من مئة سنة؟ فما احتاج استردادها إلا لمَن يطوي راية الجاهلية وينشر راية الإسلام، ويرمي السيف الذي استعاره من الكافر ويضرب بسيف محمد ‘، ويدَع دعوة الباطل ويَدْعو بدعوة الحقّ. إن نسيتم فاقرؤوا تاريخ عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، الذين قاموا في زمان كنّا فيه أكثر انقساماً وأشدّ اختلافاً؛ كان في سوريا وحدها عشر حكومات إسلامية وصليبية، كانت حماة دولة وشَيْزر دولة، كان في صَرخد (وهي قرية في جبل الدروز) دولة! فلما جاءت دعوة الإسلام محت دول الباطل، دول الضعف والانقسام، وأقامت دولة الوحدة تحت راية التوحيد. لقد أضعنا أياماً كثيرة وفرصاً كثيرة، ولكن لا يزال تدارك الأمر ممكناً.
تقولون: بماذا؟ بتغيير هذه الحال. تقولون: كيف نغيّر هذه الحال؟
لقد شرح الله لنا القانون: {إنّ اللهَ لا يُغيّر ما بقَومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسِهم} . فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ هل طهّرناها من أوضار الشبهات وأدران الشهوات؟ هل بدّلنا بتفرّقنا اجتماعاً على كتاب الله؟ هل سددنا آذاننا عن وسواس الشيطان من الإنس ومن الجانّ وفتحناها لنداء الرحمن؟
أمرَنا الله أن نُعِدّ السلاح للمعركة فقال: {وأعِدّوا لهُم ما اسْتَطعْتُم مِن قُوّةٍ} . فلا بد من القوّة ولا بد من السلاح، ولكن هل
نُعِدّه لأن النصر مقرون دوماً وحتماً بالسلاح؟ لا، بل للإرهاب:{تُرْهِبونَ بهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكم} {وما النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ اللهِ} . وأنزلَ الله يوم بدر ملائكة، ولكن للتطمين:{ومَا جَعَلهُ اللهُ إلاّ بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكم} لا للنصر فالنصر من الله، مع الملائكة ومن غير أن تنزل ملائكة، فاطلبوه منه بعد استعدادكم له.
هذه عقيدة المؤمن وهذا تفكيره وهذه نفسيته، يعمل كل ما يقدر عليه ولكن لا يعتمد عليه وحده، بل على قوة من آمن به ووحّده التوحيد الكامل وجاهد في سبيله.
* * *
لقد عشت مع قضية فلسطين؛ سايرتُها مراحلها كلها، ولكن من مقاعد المشاهدين لا من مكان الممثّلين. لم أرَها من الداخل مع الخاصّة من أصحابها بل من الخارج مع العامّة من متتبّعي أخبارها، وإن شئتم تاريخها ممّن عاش معها في داخلها فتداركوا الأستاذ عزة دَرْوَزَة فاسألوه عن خفاياها، وإن أردتم معرفة خبرها ممّن كان قريباً من قادتها الذين لهم يد في تحديد مسارها فعليكم بالأستاذ أكرم زعَيْتر. أما أنا فلقد عرفت منها ما عرفت وكتبت عنها ما كتبت مستمِدّاً علمي من سطور الصحف وأفواه الناس.
والذي رأيته ورآه الناس كلهم هو أن تاريخ الظلم والسرقة والغصب والتعاون على الإثم والعدوان لم يعرف أبشع ولا أشنع ولا أفظع من قضية فلسطين؛ ناس آمنون في مساكنهم التي ورثوها عن آبائهم واشتروها بأموالهم، ما لأحد حقّ فيها معهم، جاء مَن لا يخاف الله ولا يتقي العار ولا يأبى اللعن فوعد بها عصابة
من أخسّ اللصوص، ثم سعى حتى ولّوه هو أمرها و «انتدبوه» لتعليم أهلها فنون الحضارة، فكان خصمَها الحاكم فيها، وكان «حاميها» !
وعدٌ آثم بعده تعاون ظالم. ما اتفقَت دولة الشرق ودولة الغرب إلاّ علينا، هم دوماً في خصام ولكنهما يتفقان إنْ جمعهم عداؤهم للإسلام. ما التقى صاحب «البيت الأبيض» وصاحب «البيت الأحمر» إلا على كرهنا وعلى قتالنا، يعطوننا كلاماً حلواً، والكلام «بلاش» (1) ويعطون عدوّنا وسارقي أرضنا كل ما يريدون: من الشرق رجالاً لهم أيدٍ تعمل وأدمغة تفكّر، ومن الغرب مالاً يبني لهم وسلاحاً يقتلنا نحن، فإلى أين نلجأ؟
الملجأ قريب منا والمَنجى أمامنا، ولكن بهرج الحضارة المادّية أزاغ عنه أبصارنا، ذلك هو «البيت الأسود» في بطن مكة، البيت الذي يلبس الثوب الأسود وهو الأبيض بياض النهار المشرق، بياض النور الهادي، بياض الحقّ الأبلج. رَبّ هذا البيت الأسود هو وحده القادر على إنقاذنا من صاحب البيت الأبيض والبيت الأحمر، والبيت الأصفر إن انضمّ إليهما وكان معهما علينا في تأييد عدوّنا! فلماذا لا نرجع إليه، وبابه مفتوح ويده مبسوطة؟ لماذا نحوّل وجوهنا عن بابه؟
لماذا لا نُدخِل الإسلام في المعركة فيدخلها معه ألف مليون؟ إن جعلناها عربية خالصة لاسترداد الأرض العربية أبعدناهم عنا، ولكن إن جعلناها جهاداً إسلامياً لاسترجاع قبلة
(1) بلاش (العامية) أصلها بلا شيء.
المسلمين الأولى ومسرى نبيّهم كانت معركتهم، ما نحن بأحقّ بها منهم لأن الأقصى لنا ولهم، والإسلام يجمعنا ويجمعهم. وسترون فيما يأتي من الذكريات أني قلت هذا الكلام لغلام محمد الحاكم العامّ لباكستان سنة 1954، أمام الشيخ أمجد الزّهَاوي والشيخ محمد محمود الصواف.
لقد دنونا يوم 1973 من الإسلام قليلاً فَدَنا منّا النصر كثيراً، فلما عدنا فابتعدنا عنه رجع فابتعد عنا. قال أحد حكامنا يومئذ:"كنت أقاتل دولة إسرائيل ولكن لا أستطيع أن أقاتل أمريكا"! وهذا صحيح بجميع المقاييس المادّية، فلا جيوشنا كجيوشها ولا سلاحنا كسلاحها ولا نحن في العلم مثلها، ولكن لو فكّر المسلمون الأوّلون مثل هذا التفكير ما فتحوا قرية واحدة من أرض الشام ولا العراق ولا مصر، لأن الروم والفرس كانوا يومئذ كأميركا وروسيا الآن؛ كانوا أقوى في العدّة وأكثر في العدد وأغنى بالمال. فلو استعملنا هذه المقاييس الأرضية المادّية لانهزمنا. لقد قسنا المعركة بمقياس آخر لا يزال له وزنه وقيمته حتى في أيام الدبابات والطيارات، هو القوة المعنوية (1).
الجندي الذي يقاتل في سبيل عقيدة يعتقدها وجنة خالدة يطمع في دخولها إن مات في سبيلها ليس كالجندي الذي يُساق سوقاً إلى معركة يقاتل فيها مُكرَهاً عليها لا مقتنعاً بها، العصا
(1) قد تقولون هذا كلام شيخ لا يعرف الحرب، ولكن المارشال مونتغمري قاله في كتابه، أفلم يكن مونتغمري بطل العلمين يعرف الحرب؟
في يد الأول أقوى من البندقية، والبندقية في يد الثاني تؤخذ منه بالعصا. وإذا كان المثل الإسلامي الأول بعيداً عنكم فهاكم المثل القريب: ما يصنع المجاهدون المسلمون في الأفغان، وما صنعنا بالأمس في الجزائر وطرابلس (ليبيا)، والغوطة وجبل الدروز، وفي الرميثة في العراق، وفي منطقة القناة في مصر، وفي كل مكان فيه مسلمون إذا دُعوا لَبّوا وإن استُنصِروا نصروا، على أنْ يُدعَوا باسم الدين لحماية الأرض والعرض وأن تكون معركتهم لإعلاء كلمة الله، فلقّنوا المقاتلين هذه العقيدة وانظروا ما يصنعون.
إني لا أريد أن أتألم ولا أن أؤلم القرّاء، ولكن ما حيلتي وأنا أعرض ما علق بذهني من مراحل قضية فلسطين، وما فيها إلا الألم؟ كل ما رفضناه بحقّ عدنا نطلبه ممّن لا يعرف الحقّ، حتى بعد نكسة (أو نكبة)1967. وسترون في هذه الذكريات أنّا رحلنا سنة 1954 إلى آخر آسيا نشرح للناس مأساة فلسطين، كنا نشكو ما كنا فيه قبل عدوان سنة 1967، فما الذي كان حتى مُسخَت مطالبنا فصار أقصى ما نريده هو «إزالة آثار العدوان»؟ أي أن نعود إلى ما كان وما كنا نشكو منه! ولن أزيد إيلامكم بسرد بقية القصة فإنكم تعرفونها.
وإذا لم يُعجِب بعضَ الناس المثلُ الإسلامي من أيام الفتوح والمثلُ الجديد من الأفغان، فهاكم مثلاً من قوم لا يدينون دين الحق ولا يتبعون شرع الله، آمنوا بالجبت والطاغوت فنصرهم الله بهذا الإيمان في الدنيا. وإن الإيمان يكون معه النصر دائماً، فإن كان إيماناً كإيمان الفيتنام نصرهم به النصرَ المؤقّت في الدنيا، حتى على أميركا وقوّتها الهائلة، أما إن كان إيماناً كإيمان الصحابة
فعاقبته النصر دائماً. ربما يخسر أهله معركة أو يُخذَلون يوماً ولكن العاقبة لهم، إن لم يروها في هذه الحياة الدنيا رأوها في الحياة الباقية. وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، إنها دقيقة واحدة من عمر الآخرة. فقد انتصر قابيل على أخيه وقتله، فاستمتع بلحظة النصر، فما نسبة هذه اللحظة لما مرّ من الزمان حتى الآن؟ وما نسبتها لما سيأتي في هذه الدنيا من أزمان؟ فكيف بالزمان الذي يُمضيه الكافر خالداً في نار جهنم؟
يقولون: إنكم تريدون أن تُلقوا بالإسرائيليين في البحر. وأنا أسأل الإنكليز الذين هم رأس البلاء ومبعث الداء، وأسأل الأميركان الذين يؤيدون الظلم وينصرون الاعتداء، وأسأل الروس الذين هم معنا بالمقال وهم يُمِدّونهم بالرجال، أسألهم جميعاً: ماذا يصنعون لو جاء شعب نذل خسيس سارق مجرم يريد أن يطردهم من ربع لندن أو واشنطن أو موسكو ويملكها من دونهم، ثم يعمل على التوغّل في بلادهم وسرقة طريفهم وتالدهم وإفساد بناتهم وأولادهم، ماذا يصنعون بهم؟ إنهم إن لم يلقوهم في البحر شرّدوهم في القفر أو وضعوهم في الأسر، وإلاّ فماذا؟ خبّروني ماذا تصنع الأمم بالواغل عليها يسرق ديارها ويمحو آثارها؟ ماذا يفعل من يقتحم اللص عليه بيته ليطرده منه ويَسكنه من دونه: هل ينصب له المائدة ليأكل ويمدّ له الفراش لينام، ثم يقف باحترام ليعطيه مفتاح الدار ويمضي بسلام؟!
هذا هو السلام الذي تريده إسرائيل والذي كان منّا من يرحب به ويصفّق له. يقولون: وإلى أين نذهب بهؤلاء اليهود؟ لقد ألقى هذا السؤالَ رئيسُ أميركا الذي كسب الحرب، ألقاه
على ابن الصحراء الإمام العبقري الملك عبد العزيز، فردّ سؤاله بسؤال وجّهه إليه هادئاً، قال له: من أين جاء هؤلاء؟ أرجعوهم إلى بلادهم التي أُخرِجوا منها. لقد بُهت روزفلت ولم يقدر على الجواب لأن الحقّ غلاّب.
قالوا: إنكم رفضتم التقسيم ثم جئتم تطالبون بالتقسيم! نحن كمن كان يمشي آمناً فاعترضه مجرم خطف كيس نقوده وفيه ألف ريال، فلحقه يطالبه به فقال: تأخذ خمسمئة لك ولي خمسمئة. فأبى، وحقّ له الإباء فالمال ماله والكيس كله له، فشدّ اللص يده على الكيس وعدا هارباً، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الخمسمئة. قال: لا، ذاك عرض مضى، تأخذ أربعمئة؟ فأبى ومضى اللص، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الأربعمئة. قال: لا، ثلاثمئة. تأخذ ثلاثمئة؟
رفضنا التقسيم، وما لنا ألاّ نرفضه؟ مَن يرضى أن تُقسَّم داره بينه وبين اللص الذي يقتحمها عليه؟ ورجعنا فطالبنا به حتى لا تذهب الدار كلها ما دام قد غلب الباطل وفُقد النصير.
أنا لا أريد ولا أقدر أن أؤرّخ قضية فلسطين، أنا أدوّن ذكريات لا أكتب تاريخاً. ولكن أقول: إنه ليس في تاريخ الظلم والعدوان مثل قضية فلسطين، ولا في تاريخ التخاذل والانقسام وقلة الاهتمام مثل موقفنا من قضية فلسطين، ولا في تاريخ التعاون على الإثم والعدوان مثل موقف الدول في غرب الأرض وفي شرقها من قضية فلسطين. وما لنا إلا الله، فهل نعود إليه؟
* * *