الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-49 -
مآتم الشام
وكيف كان مأتم أمّي
بقيَت كلمة واحدة من حديث أمي، أقولها وأختم الحديث. انتهت المعركة ورجعت منها مهزوماً مَحطوماً، لأنها المعركة التي لا يمكن أن ينتصر فيها أحد من البشر؛ هي معركة الحياة والموت. وبدأت معركة أخرى ينتصر فيها مَن أقدم وثبَتَ ويندحر من توانى وهرب، معركة العقل و «التقاليد» ، بيني وبين عمّتي التي هي أكبر من أبي، والتي لم أكُن أحبّ أحداً بعد أمي مثل حبها ولم يكن لأحد فضل عليّ في طفولتي (بعد أمي) مثل فضلها، وبين خالتي التي كانت الأم الثانية لأمي. وكانت المعركة على ترتيبات المأتم، أي على هذه العادات التي ابتدعها الناس فتنكّبوا فيها جادة العقل وخالفوا فيها عن أمر الشرع، وجعلوا من الموت الذي هو الموعظة الكبرى تقاليدَ حمقاء ما فيها إلا الإنفاق والنفاق والكثير من الإرهاق.
جعلوا للرجال «الصّباحِيّة» ، وهي أن تُصَفّ الكراسي في غرف الدار كلها، وربما ضمّوا إليها بعض الغرف من منازل
الجيران إن كان الميت عظيمَ الشأن كثير الإخوان، لا الإخوان الذين يأتون للعزاء حقيقة يستشعرون الحزن ويشاركون في المصاب، فهؤلاء أقلّ من القليل، وما يحتاج هؤلاء إلى «ترتيبات» ولا إلى كراسي تُصَفّ ولا إلى غرف تُستعار، بل الذين يأتون رغبة أو رهبة، يجيئون يبتغون تسليف يد يطالبون يوماً بردّ مثلها أو حظوة يأملون الإفادة منها، لا حظوة عند الميت بل عند من بقي من أولاده وذويه، فإن لم يكن له ولد أو قريب يرجُى خيره أو يُخشى ضُرّه لم يأتِ منهم أحد.
أما الصباحيّة فتبدأ من بعد المغرب، وإنما سُمّيت صباحية لأنها كانت في المقبرة صبيحة الدفن يخرجون إليها بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، ثم صارت في المسجد بين العشاءين، يجلسون يقرؤون القرآن من «الربعة» ، وهي أجزاء القرآن كل جزء في مجلدة لطيفة، كل يقرأ وحده، فإذا انتهوا دعا واحد منهم للميت وللمسلمين وأمّنوا. وكانوا يديرون كؤوس الماء المحلّى بالسكر. ثم صارت في البيوت، يأتون بقارئ يقرأ القرآن فلا يُصغي إليه أحد ولا يتدبّر ما يتلو أحد. هو يقرأ والمعزّون يدخلون ويخرجون، وأصحاب المأتم يقومون ويقعدون، يودّعون ويستقبلون، ويدورون عليهم بالقهوة المرّة كأنهم في مقهى لا في مأتم. لا يختارون من القرّاء أعلمَهم بأحكام التجويد وأعرفَهم بمخارج الحروف وبمواضع الوقف، بل مَن كان أحلى صوتاً وأقدر على التصرّف بالأنغام وأدرى بمحطّ الألحان، وبلغ بهم الأمر (وهذا كله في الشام) أن جعلوا للقرّاء نقابة كنقابات الأطباء والمهندسين والسبّاكين والسوّاقين، ثم صنّفوا القرّاء أصنافاً ثلاثة
وحدّدوا لكل منها أجر قراءته كما تُحدّد أجور العمّال وأسعار الفاكهة والخضر (1).
وأنا لم أحضر في عمري كله إلا مآتم معدودة، كما لم أحضر إلا موالد معدودة. وما حضرته منها لم أخرج منه إلا وقد أغضبت أهله لأني لا أسكت عن منكر، والناس يغضبون على من يُنكِر عليهم ما هم فيه. سمعت مرة في مأتم لكبير من أسرتنا اضطُررت إلى حضوره قارئاً يَلْحَن، فنبّهتُه بلطف وكنت قريباً منه، فعاد إلى اللحن فعدت إلى التنبيه، فلما كثر ذلك منه ومني قال: أنا من صنف المئة، أفتدفعون مئة ليرة في الليلة وتريدون من يقرأ لكم مثل الشيخ محمد رِفعة؟! وكنت مرة في مولد مع شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، فقام منشد حسن الصوت مطرب الأداء يغني أغنية غزلية مشهورة من الغزل المكشوف، فلما انتهى منها قال: اللهم صلّ وسلم وبارك عليه
…
جعلها في رسول الله. وكان الحاضرون مئات، فصرخت به: اخرس! أتجعل غزَلاً في غلام مدحاً لسيد الأنام؟ وفسد «المولد» .
وكانت «الصباحية» تبدأ بعد صلاة العشاء، فمات مرّة أحد الوجهاء وكانت أيام اضطرابات منع فيها الفرنسيون التجوّل في الليل، فجعلوها بعد المغرب. وكذلك تتبدّل العادات، بحادثة من الحوادث أو بإقدام كبير يُقتدى به على تغييرها فيقلّده غيره، فتتبدّل العادة. فلا تقنطوا من تبديل سيّئ العادات.
أمّا النساء فكان لهنّ «العَصْريّة» ، وهي أبعد عن الشرع
(1) وأخذ الأجرة على مجرّد التلاوة لا يجوز.
وأحفل بالمخالفات من صباحية الرجال. يجتمع النساء من أهل الميت، القريبات منه يلبسن السواد ومن كانت أبعد اكتفت بالألوان القاتمة. ولا يجيز ذلك الدينُ إلا للزوجة. وتُصَفّ الكراسي حتى تملأ المكان، يقعدن عليها على ترتيب قرب الواحدة من الميت (أو الميتة)، وربما وقع النزاع والقتال أحياناً على الكرسي الواحد، ينسين الفجيعة وتقول الواحدة: لماذا تقعد فلانة فوقي وأنا للميت كذا وكذا؟ تبيّن قرابتها منه. والتي لا تُدعى من القريبات تغضب. هذا كله «وراء الكواليس» ! ويتركن كرسيين أو ثلاثة فقط للمعزّيات، ثم «يُرفَع الستار» وتضع كل واحدة منهن من مظاهر الحزن على وجهها بمقدار قرابتها من الميت، ومنهن من تمسك بالمنديل تعصر عينيها وتمسح دمعها الذي لم تنزل منه قطرة. ويبدأ «التمثيل» ، فتدخل المعزّيات مَثنى مَثنى أو ثُلاث ثُلاث، يدخلن صامتات ويخرجن صامتات، لا سلام ولا كلام، يجلسن دقائق معدودة لكنها تكفي «لأداء الدور» . وأهل الميت يلاحظن بأطراف العيون، حتى إذا انتهت «الرواية» بدأن بانتقاد فلانة كيف دخلت وعِلاّنة كيف قعدت والثالثة ما أدري ماذا فعلت
…
والمعزّيات إذا خرجن شرعن في انتقاد النساء من أهل الميت واحدة واحدة.
ثم إذا كان ثالث ثلاثة لموت الميت كانت مراسم أخرى، ويوم الخميس الأول، ويوم الأربعين، ثم «السّنَوية» ، ثم ما قال الشاعر:
إلى الحَولِ ثمّ اسمُ السلامِ عليكُما
…
ومَن يبكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتذرْ
هذا ما كانت تريده مني عمّتي وخالتي. أفئن فقدت أمي فهل أفقد معها ديني وعقلي ورجولتي؟ لا. وقلت لخالتي وعمّتي: لا!
إن من العلماء من كان يواجِه بكلمة الحقّ الملوك والأمراء ويصبر على مايلقى منهم من ضروب الإيذاء، وهذا صعب، ولكن أصعب منه أن تجابه بها العوام، وأصعب منهما أن تصرف النساء عمّا توجبه العادات، لا سيما إن كان لهن عليك حقّ القرابة وفضل السنّ. وقد عرفتم ممّا سبق شدة خالتي وصرامتها، وستعرفون ممّا يأتي لسان عمّتي وفصاحتها ومحفوظها من الأمثال ومن بليغ التقريع. ولكني مع ذلك قلتها. قلت: لا.
وبدأت المعزوفة المعروفة، «مونولوج» له أول وليس له آخر من نوع «الهارموني»: خالتي بصوتها الواطي الثخين (الكونترالتو)، وعمّتي بالصوت العالي الثاقب (السوبرانو)، تصرخان معاً: ما يصير أبداً، هذا شيء ما يصير! أمك ما كانت رخيصة. هل هي أقلّ من فلانة وفلانة؟ لقد عُمل لهما عزاء تحدّث به الناس. أفتبخل عليها بمثله؟ ماذا يقول عنها الناس؟ أنت شابّ لا تعرف هذه الأمور. وقالت عمّتي: استحِ أنا أكبر من أبيك. وقالت خالتي: أنا أرضعت أمك.
وحسبتا أن هذا يخيفني، ولكني لم أخَفْ. أنا من صغري إلى اليوم لا أبالي بعادات الناس إن لم يقبلها عقلي ولم يوجبها عليّ ديني، ولا أجعل رأي الناس فيّ دستور سلوكي.
أتساءل الآن: ما الذي دفعني إلى هذا الموقف؟ لقد حاسبت
نفسي عليه ألف مرة وكل مرة أجدني على صواب، وأنا أفكر فيه الآن بعد بضع وخمسين سنة فأرى أني لم أندم عليه. كان حزني على أمي أكبر من حزنهما، ولكني كنت أنظر بعينها أحاول أن أفكّر تفكيرها. هل كانت ترضى لي أن أوافق عمّتي وخالتي وأن أُرضي الناس على حساب أولادها؟ أن أجدّد لهم الأحزان كل ساعة؟ أن أذكّرهم المصاب كلما أوشكوا أن ينسوه أو يَسلوه؟ ماذا ينفعني رضا الناس وماذا يضرّني سخطهم؟
لقد فعلت ما لم يفعله (فيما أعلم) أحدٌ قبلي وما سمعت اليوم أنه فعله أحد بعدي. وقفت منهما موقف حزم لم تكونا تستطيعان ولا مئة من أمثالهما زحزحتي عنه أصبعاً، فكّرت وقرّرت وأسمعتهما أعجب قرار. قلت لهما: أنا مضطرّ أن آخذ إخوتي وأن أغلق باب الدار بالمفتاح وأحمل المفتاح معي، ونلتقي فيما بعد.
تصوّروا الذي كان معي. لقد صرختا وولولتا وجمعتا عليّ الجيران، ولكن كل هذا «كلام» ، فما هو «الفعل» الذي تقدران عليه؟ صفر؛ لا شيء. إنه مثل موقفنا مع اليهود وغير اليهود:«أوسَعتُهُ شَتماً وأَوْدى بالإبِلْ» . وأخرجتهما من الدار وأخذت إخوتي وأغلقت الباب وحملت معي المفتاح.
فيا ربِّ عفوك فأنت تعلم كيف كانت حالي وماذا كان مقصدي، ويا أمي سامحيني، فما فعلت هذا إلاّ رأفة بأولادك وحباً بهم وخوفاً عليهم. لم أستطع أن أجعلهم يتجرعون الآلام قطرة قطرة ليقول الناس إننا أدّينا «مراسم الحزن» . لم أقدر أن
أمزّق قلوبهم لأرقّع بها الخروق بيننا وبين الناس. لقد كان قلبي منصدعاً ولكن عقلي كان سليماً، تحملت ألمي لأجنّب إخوتي (ما استطعت) حمل الألم. كان عليّ أن أُنسِيَهم بالسفر ما أصابهم، ولكن إلى أين أسافر بهم؟ ما كان معي ما أسافر به إلى بيروت فكيف بالبلد البعيد؟ فأخذتهم إلى قرية من قرى الوادي، وما نمت حتى تلقّيت طعنة مفاجئة من خنجر حاد، حين أقبلنا نفرش الفرش لننام فسألني أخي الصغير سعيد: وأين ستنام أمي؟
إلى هنا ودعوني أطوي (1) صحف هذه القصة (وإن كانت مرارة ذكراها سيبقى مطوياً عليها القلبُ إلى أن أموت) وأقلب الصفحة من كتاب الذكريات الذي لم أكتب منه شيئاً قبل الآن إلا صوراً وأفكاراً جاءت منثورة في بعض ما كُتب بعد ذلك اليوم.
* * *
أستأنف صفحة جديدة من هذه «الذكريات» التي صار لها قراء، ولهؤلاء القراء آراء تأتيني فيما يتفضلون بإرساله إليّ من رسائل، في بعضها ثناء وفي بعضٍ نقد، ومنها ما فيه استيضاح واستفهام. ورسالة جاءتني تشهد لصاحبها بأنه من بلغاء السفهاء ومن أكابر أهل الهجاء، ألقى هذه الأقذار كلها أمام بابي لأني تردّدتُ أن أترحّم على عارف النكدي لأنه درزي.
وثلاث رسائل من رجلين وامرأة فيها تعليق على ما شكوته من أخي. وكان خيراً لي ألاّ أشكو إلاّ إلى الله. وأنا أشكر لهم
(1) أطوي ليست جواب الطلب، لذلك رفعت الفعل ولم أجزمه.
عاطفتهم واهتمامهم، ولكن الأمر ليس كما ظنوا، وهو أبعد الناس عن ظنهم هذا. إنه أصلح مني مئة مرة وأحرص على العبادة، ثم إنه -على زهده وعبادته- ذكي واسع الاطّلاع، شهادته الجامعية في الفيزياء وكان من أقدر مدرّسيها في الشام. وهو داعٍ إلى الله على إلمام تامّ بعلوم الإسلام والتاريخ والأخبار، وهو كاتب مؤلّف يُحسن نَظْمَ الشعر، قَلّ مَن له مثل ثقافته. ولئن أساء إليّ فما كنت لأسيء أنا إلى نفسي فأظلمه وأبخسه حقه، ولعل له عند نفسه عذراً فيما فعله بي، فما كان ليُقدِم على محرّم إلا بتأويل. ولكن التأويل يُخطئ ويصيب، سامحه الله وغفر لي أن شكوته للناس (1).
(1) لو أن أمر هذا الكتاب رُدّ إليّ لحذفت هذا التعليق والذي استجرّه هذا التعليق ممّا سبق من كلام في هذا الموضوع، لكنني لا أملك أن أنقص ممّا كتبه جدي حرفاً ولا أن أبدل كلمة بأخرى، لا أملك إلا أن أصحح خطأ مما يخطئه الطابعون أو أوضّح (في مثل هذه الحواشي) غوامضَ قد يجهلها عامة القراء. لذلك لم أصنع ما كنت أحب، ولكنني أبحتُ لنفسي أن أوضح المسألة لئلاّ يشتطّ قومٌ من القرّاء فيذهبوا في تعليل المسألة ذات اليمين وذات الشمال.
وخلاصة الأمر أن جدي -كما علمتم- قد كفل إخوته بعد وفاة أبيهم وأمهم ومنحهم كل ما يقدر مثله على منحه، وكان سعيد أصغرَ الإخوة، سنّه لمّا مات أبوه ثلاثة أشهر، فصار أقربَ إلى الولد لجدّي منه إلى الأخ، وأولاه من الرعاية والعناية ما مرّ بكم بعضُ خبره فيما سبق من حلقات. ونشأ الشيخ سعيد على الدين والأدب والعلم حتى بلغ من الصفات ما وصفه بها جدي في هذه الصفحة من ذكرياته، وأخذ نفسه بالشدّة وحملها على المَكاره حتى صار من صنف أولئك=
وهذه رسالة من «قارئ» . وكان صديقنا الأستاذ الكبير
= الزهّاد العُبّاد الذين نقرأ عنهم في «صفة الصفوة» وأمثاله من الكتب. والصلابةُ من صفاته، فإذا رأى رأياً في مسألة كاد يعجز عن تغيير رأيه فيها أهلُ الأرض ولو اجتمعوا كلهم عليه. وكان له في الرائي (التلفزيون) رأيٌ من أول يوم وصل فيه الرائي إلى بلادنا، وهو أنه من المنكَرات المحرَّمات، لا يجوز اقتناؤه ولا يجوز حضور مجلسه ولا النظر إليه، بل ولا يجوز دخول البيت الذي يوجد فيه.
وكان علي الطنطاوي متوجّساً من الرائي ولكنه لم يحرّمه، وستجدون فيما يأتي من الذكريات -في أخبار الوحدة والانفصال- أنه تردد حين دُعي لإلقاء أول حديث فيه ألقاه في حياته قَط، قال:"لمّا عرضوا عليّ أن أتكلم في الرائي ترددت وخشيت أن يكون ظهوري فيه دافعاً بعضَ الناس إلى اقتنائه، وربما رأوا فيه ما يضرهم فأكون أنا السبب في ذلك". لكنه أقدم بعد ذلك على إذاعة أحاديث في الرائي وأقدم على اقتنائه، فعندئذ رفض أخوه الشيخ سعيد دخولَ بيته لأنه لا يدخل بيتاً فيه جهاز الرائي.
وتكرر هذا الأمر في المملكة لمّا جاءها علي الطنطاوي ثم أخوه سعيد؛ لم يكن في بيت جدي تلفزيون فكان يزوره، فلما اقتناه انقطع عن زيارته، فلم يزُرْه قطّ حتى حين قُتلت خالتي بنان رحمها الله. واستمر على ذلك سنين طِوالاً؛ هو يأبى الزيارة إلاّ أن يُرفَع الجهاز، وجدي لا يصنع ذلك لأنه لم يكن من طبعه المداورة والمراوغة، ما رآه حقاً صنعه لا يبالي به كبيراً ولا صغيراً، فكيف يداري أخاً له هو منه بمنزلة الولد وما كان ليداري الكبير والوزير؟ فانقطع ما بينهما سنين وسنين، حتى كانت أخريات أيام جدي رحمه الله وقد تتابعت عليه نوبات المرض ودنا منه الأجل، فما زال بعض أصحاب الشيخ سعيد به حتى أقنعوه وحملوه على زيارة أخيه، فالتقى به في=
إسعاف النشاشيبي يكتب بعض مقالاته في الرسالة باسم «قارئ» ، ولكن النشاشيبي ذهب مع من ذهب من أئمة العصر ولم يسدّ بعدهم أحدٌ مسدّهم. يقول هذا القارئ في كلام طويل: إنك تتكلم عن دمشق، فكيف زلّت بك القدم أو زلّ القلم فصرت في شارع بغداد، وأين بغداد عن دمشق؟
يا أخي، شارع بغداد الذي تكلمت عنه في دمشق. ألم تسمع أن في بلد شارعاً باسم بلد آخر سمّوه به تكرمة لذلك البلد؟ ومن خبره أن أول شارع فُتح في دمشق شارع جمال باشا، فتحه سنة 1916 وسمّوه بعد ذلك شارع النصر، والثاني شارع بغداد هذا شقّه الفرنسيون سنة 1925. وأنا اذكر فتح الشارعين. كان فتحه أيام الثورة لمقاصد عسكرية لأن حارات دمشق كانت مغلَقة أمام سيارات الجيش لا تستطيع أن تمشي فيها، وبعضها كان مسدوداً، وكان الجند من الفرنسيين يطاردون مجموعة من الثوّار أو من رجال المظاهرة حتى يحصروهم في واحدة منها، ويقفون في مدخلها يقطعون عليهم خط الرجعة ويمنعونهم من الخروج، فإذا أمسى المساء عليهم وهم يراقبونهم أصبحوا فلم يجدوا منهم أحداً ووجدوا الحارة خالية ما فيها أحد. فيقرعون أبواب المنازل يفتّشونها فلا يلقون في المنازل إلا أهلها، فيُجَنّ
= جزء من بيته ليس فيه تلفزيون (وما كان من قبل ليقبل دخول البيت الذي فيه هذا الجهاز ولو أُقصي في ركن من البيت ووُضع في جوف صندوق)، وبقي كذلك يزوره بين حين وحين حتى وفاة جدي رحمه الله وغفر لأخيه.
هذه هي القصة كلها (مجاهد).
جنونهم. وربما جاء أحد الشباب ممّن يعرف لسانهم فأوهمهم أن في الحارة أرواحاً وأشباحاً وجِناً وأنها ربما آذتهم، وكثير منهم يخاف الأشباح والأرواح، فكان الجندي يعصي ضابطه إن أمره بدخول الحارات، يرضى بالعقوبة لأنها أهون عنده من أذى الشبح. وكثير من الأوربيين يخشون الأشباح كما يخاف الجنَّ عمومُ المسلمين.
أما حقيقة الأمر فهي أن من البيوت الكبيرة ما له بابان: باب من هذه الحارة وباب آخر إلى حارة في الحيّ المجاور، وبين البابين عشرة أمتار من داخل الدار، ولكن مَن يدور في الطرق لا يصل إليه إلا بعد سير عشر دقائق. وكثيراً ما يكون الباب الثاني في فجوة أو في وسط غرفة فلا يراه إلا من دقّق وأمعن في التفتيش. منها بيت الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله، له باب من الخَيْضَرية وباب من زقاق البرغل، وبينهما مشياً على الطريق أكثر من نصف كيل. ومثله بيت الشيخ صلاح الدين الزعيم رحمه الله، له باب على حارة السمّانة وباب من قفا الدور، وبينهما في الطريق أكثر من ذلك. ودعوني أفسّر لكم ما «قفا الدور» ؛ إن دور دمشق ومنازلها كانت تنتهي بنهاية السمّانة من هنا، ما بعد ذلك إلا بساتين الشام، وكل بستان منها بمقدار عزبة في مصر، وكان الرجال يتراهنون مَن منهم يقدر أن يمرّ بقفا الدور ليلاً. هذا الذي صار اليوم شوارع وجادّات تتفرع من شارع بغداد تمشي فيها السيارات وتقوم على جانبيها العمارات، تسبح الليل بالأنوار فكأنها منها في نهار.
في سنة 1931 التي لا أزال أتحدث عنها لم يكن في
الشارع (شارع بغداد) إلا بناء واحد ضخم هو مدرسة اللاييك، أي المدرسة الـ «لادينية» ، وكانت ثانوية أربعةُ أخماس طلابها منا نحن المسلمين. وكان الشارع خالياً من العمران، على جانبيه البساتين التي صارت اليوم صناديق من الأسمنت فيها ناس متزاحمون كالسردين في العلب، هذه هي البيوت الجديدة التي قطعنا نصف أشجار الغوطة لنقيمها. وما كان فيها سوى ذلك إلا بيوت قليلة في حارات معدودة، منها حارة الخطيب التي كنا نسكن داراً فيها مساحتها ستون متراً مربعاً، وكان أشهر مكان في الشارع «قهوة ديب الشيخ» .
وما هي قهوة كالمقاهي (1) ولا هو مثل أصحاب القهوات. ديب الشيخ (أبو عبده) مرّ بكم ذكره عند الكلام على الثورة السورية، واحد من أعلام «الزكرتيّة» . والزكرتي في الشام مثل «الفارس» في أوربا في القرون الوسطى. أمَا قرأتم قصة «الفرسان الثلاثة» لإسكندر دوماس (2)(مع انهم أربعة لا ثلاثة) والصورة «الكاريكاتورية» للفارس في «دون كيشوت» ؟
كان في كل حارة واحد أو جماعة منهم، إذا استجار بهم الضعيف أجاروه، وإن استنصرهم المظلوم نصروه، يحمون نساء الحارة كما يحمون نساءهم، يغارون على أعراض أهلها غيرتهم على أعراضهم، أكثرهم له دكّان يبيع فيه أو مركز يركز
(1) كلمة مقهى فصيحة، من «أقهى» أي أدام شرب القهوة.
(2)
الأب، وهو مثل تشارلز ديكنز عند الإنكليز، أما الابن فمؤلف «غادة الكاميليا» .
فيه. يُشرِف من بعيد على بيوت الحارة، فإن رأى فيها غريباً سأله ماذا يريد، فإن كان آتياً لمصلحة مشروعة دلّه وساعده، وإن كان سيّئ المقصد نصحه ثم زجره، ثم أدّبه تأديباً يحرّم عليه أن يعود. وكانت لكبارهم كُنى عادية، فديب الشيخ مثلاً كنيته «أبوعبده» ، فمَن ناداه أو خاطبه قال له: عمّي أبو عبده. ولمن هم دون الكبار كُنى ضخمة: أبو صيّاح، أبو عَجاج، أبو دعّاس، أبو سطّام، أبو كعّود، أبو كاسم
…
وقد رأيتم في الرائي هنا في المسلسلات الشامية ثلاثة نماذج: «أبو عنتر» بشعره الطويل وكمّه القصير وكمّته (أي طاقيته) المائلة وعدوانه على الناس، هذا نموذج الزكرتي الأزعر أو مدّعي الزكرتية. و «أبو صياح» ، وهو مثال الزكرتي العادي. وظهر مرة واحد كنيته في المسلسلة «أبوحديد» ، بطربوشه وردائه الطويل ورزانته وهدوئه، مع شجاعته ومضائه، هذا هو نموذج الزكرتي الأصيل.
أما البستان الذي وُضعت القهوة في مدخله فهو قطعة من الغوطة "التي تضمّ دمشق بين ذراعيها كالأم التي تسهر ليلها كله تحرس وليدها، تُصغي إلى وشوشة السواقي الهائمة في مَرابع الفتنة وحديث الجداول المنتشية برحيق بردى، الراكضة أبداً نحو مطلع الشمس تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها، وهمس «الزيتون» الشيخ الذي شيّبته أحداث الدهر فطفق يفكّر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع ويتلو على نفسه نتاج حكمته، وتصفيق الحور الطروب لغناء الطيور على الأغصان، ألهاه عبث الشباب عن التفكّر والتأمل فقضى العمر مائساً عجباً وتيهاً، مائلاً على أكتاف السواقي خاطراً على جنبات المسارب، يغازل الغيد
الحسان من بنات المشمش والرمان، يميّله إليها الهوى والهواء، يريد في الربيع أن يقطف زهرة من خدّها أو ثمرة من ثغرها، ثم يرتدّ عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص. والجوز ملك الغوطة بجلاله وكبريائه، جلال ملك تحت تاجه وعاهل فوق عرشه (1).
وكانت القهوة مجلساً لشيوخ الحيّ يجلسون فيه، يتحدثون ويسمرون، فإذا حلّ وقت الصلاة كان فيها (كما كان في المقاهي الكبار في شارع بغداد) مَن يؤذّن ومن يؤمّ الناس، وقد يجتمع وراء الإمام في مقهى اللونابارك وفي المقهى الذي يقابله والذي نسيت اسمه مئتان وأكثر من المصلّين. وكان أبو عبده رحمه الله يسمح لنا أن نعقد اجتماعاتنا (أي اجتماعات لجان الطلاّب التي كنت رئيسها) في قهوته، نُلقي الخطب ونرسم الخطط، ونعد الإضرابات ونهيّئ المظاهرات. وكنا مرة في أحد هذه الاجتماعات فجاءت «الكَبْسة» (2) تفاجئنا. وكان يقودها رقيب في الشرطة (أو صاحب رتبة قريبة منها) هو أبو عَجاج الخطيب، فأخّر مَن معه وعجّل إليّ فناداني: علي أفندي، علي أفندي. قلت: ماذا تريد؟ فأشار إليّ ألاّ أرفع صوتي وأن أسرع إليه، فأسرّ إليّ قائلاً: جئتكم على رغمي ولم يكن لديّ وقت لأنذركم، فتفرّقوا واجلسوا هادئين، وإذا شتمتُ أو أغلظت القول فلا «تَزعلوا» . أنا معكم كما تعرفون ولكني مأمور.
(1) ما بين الأقواس من مقالة لي نشرت في «الرسالة» سنة 1945، وهي في كتابي «دمشق» .
(2)
لا التي تأكلونها هنا رزاً ولحماً، بل الكبسة جند الحكومة أو الشرطة.
وكان أتْباعه قد دنوا منا، فصاح: ممنوع، ممنوع كلمة واحدة وإلا قبضت عليكم جميعاً. كل واحد يذهب إلى بيته. آخر كلمة: هل تتفرّقون أو
…
هه.
فتفرقنا، وعاد بمن معه فعدنا نحن إلى ما كنا فيه. ولهذا الرجل قصة طريفة أرويها لكم لعلّي أنفّس بها عنكم بعدما حَمّلتكم قصص المآسي والأحزان، ولكن طال المقال، فإلى المرّة القادمة إن شاء الله.
* * *