المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

-59 -   ‌ ‌بَرَدى والغوطة ختمت الحلقة السابقة بكتاب وزارة المعارف بنقلي إلى - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٢

[علي الطنطاوي]

الفصل: -59 -   ‌ ‌بَرَدى والغوطة ختمت الحلقة السابقة بكتاب وزارة المعارف بنقلي إلى

-59 -

‌بَرَدى والغوطة

ختمت الحلقة السابقة بكتاب وزارة المعارف بنقلي إلى مدرسة سَقْبا في وسط غوطة دمشق. أفأمضي إليها من غير أن أقف معكم وقفة في دمشق؟

تجوزون الدّيارَ ولم تعُوجوا

كلامُكمُ عليّ إذن حرامُ

أفتريدون أن تحرمني دمشق مناجاتها وحديثها بعد أن حرمَتني الأيامُ رؤيتها وحرّمَت عليّ قربها؟ فيا مَن في دمشق، تنشقوا عبير الخلود من دمشق فما تلقون إن فارقتموها مثلها، مثل ميزانها وشاذِرْوانها (1)، وغوطتها وواديها، والأنهار السبعة التي تمتدّ على السفحَين في «الرّبْوَة» كأنها عنقود اللؤلؤ في جيد الحسناء، والبساتين التي يضلّ فيها النظرُ سكرانَ من الفتون، وهذي المنارات وهذه القباب، والمسجد الذي تكسّرَت على جدرانه أمواج القرون وهو قائم وارتدّت عنه العصور وهو شامخ، يروي لأبناء الأرض تاريخ الأرض مُذْ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار كنيسة نصرانية، إلى أن غدا جامعاً إسلامياً. وهذا الجبل

(1) الشاذروان عند منعطف الوادي في الطريق إلى دُمّر.

ص: 277

الذي يفترّ أبداً عن مثل ابتسامة الأمل على حين تعبس الجبال! لن تلقوا بعدها مدينة مثلها: ثيابها زهر، ونسيمها عطر، وحديثها شعر، وجمالها سحر، ومياهها خمر، خمر حلال لأنها جنّة المستعجل.

إنها أقدم مدن الأرض العامرات؛ ماتت أخواتها من دهور وبقيَت سالمة، وأدركَتها سنّ الشيخوخة وهي شابّة، وكانت عروس الماضي وستبقى أبداً عروساً، فأمّوا آثارها وسائلوها تخبرْكم أخبار الأمجاد الخوالد، وترفّقوا في سيركم على ثُراها، فإنّ تحت كل حجر تاريخ بطولة، وفي ظلال كل دوحة قصة حب، وفي خرير كل ساقية قصيدة عبقرية لا تنتهي قوافيها. "دمشق التي تجمّع فيها ما تفرّق في مدن الأرض من الجمال: فالجِنان في غوطتها، والأنهار في ربوتها، والسهل في مزّتها، والبساتين تحفّ بها والجبال من حولها، وكل مجالي الوجود فيها، لا ينقصها إلاّ البحر، ومن قاسيونها ترى بحراً من الخضرة النضرة ما له من آخر" (1). "دمشق التي تحرسها «الرَّبْوَة» ذات «الشّاذِروان» وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبّح الله وتحمده على أن أعطاها شطر الحُسن وقسّم في بقاع الأرض الشطر الآخر. وما «الرّبوة» إلاّ حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأبهى العواطف التي عرفها قلب بشر، حلم يذكّر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته، ثم يتصرّم الحلم ويستحيل ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث. الربوة، لحن علوي وعته الأرض مرة واحدة حين أُلقيَ في أذن دمشق! كانت دمشق مدينة عامرة قبل أن تولد

ص: 278

بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تشاد الأهرام ويُنحَت من الصخر وجه أبي الهول" (1) ففي أرضها من مدنيات مَن سلف طبقات تحت طبقات، والحضارة لها فيها جذور ممتدّة تحت الثرى وفروع باسقة في الهواء.

* * *

"وبردى؟ إنه سطر خطّته يد الله على صفحة هذا الكون ليقرأ فيه أولو البصائر فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل. واختصّ به العرب، فجمع فيه تاريخهم ببلاغة علوية معجزة.

والله الذي جعل الآية المعجزة في القرآن هو الذي جعلها في الأكوان، والله الذي أعجز أئمة البلاغة وأمراء البيان بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الذي أعجز أرباب الفكر وأصحاب العقول بسور من بحار وأنهار وكهوف. وما «بَرَدى» إلاّ سورة من قرآن الكون أجراه في الأرض الذي أنزل القرآنَ من السماء، وما إعجاز بردى في أنه يجري، فكل الأنهار تجري، ولكن في أنه ينطق وأن في كل شبر فيه تاريخ حقبة من العصور وقصة أمة من الأمم: أمم وُلدَت في حِجْره ورضعت من لبانه، وَحَبَتْ بين يديه، ثم قويَت واشتدّت وبنت فأعلت

وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتَت واستكبرت، فأخذها الله ببعض ما اكتسبت، فإذا تلك العظمة والجبروت

(1) هذه القطعة بين الأقواس من مقالة «دمشق» المنشورة في أول كتاب «دمشق، صور من جمالها وعبر من نضالها» (مجاهد).

ص: 279

ذكرى ضئيلة في نفس بردى وأنقاض هيّنة إلى جواره، وصفحة أو صفحات في كتاب التاريخ، وإذا بأمّة أخرى تخلفها في أرضها وترثها مجدها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها. هكذا يدور الفلك في السماء ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة ويغطي على الحياة القبر، والسلسلة لا تنتهي والناس لا يعتبرون، وبردى يتبسم ساخراً من غرور الإنسان ضاحكاً من جهالته، يحسب نفسه شيئاً، فيصارع الكون ويتطاول بعقله القاصر إلى الكلام في صفات الربّ العظيم، يقيس الخالق على المخلوق، ويزعم لأدبه وفنّه الخلود وما عمره إلاّ ساعة واحدة من عمر بردى! وما عمر بردى إلاّ ساعة من عمر الأرض، وما عمر الأرض إلاّ ساعة من الزمان المطلق الذي لا يعرف حقيقته إلاّ خالقه.

بردى وهو يجري على الأرض رمز لتاريخ أمة العرب وهو يمشي في الزمان، ففي كل قسم من بردى فصل من التاريخ:

يخرج بردى من بقعة في الزّبَداني منعزلة صعبة لا يبلغها إلاّ مَن كان من أبنائها عارفاً مداخلها ومخارجها، كما خرج العرب من هذه الجزيرة الصعبة المنعزلة التي لم تكُن يوماً إلاّ لأبنائها، والتي ردّت عنها الفاتحين كافّة وجعلت رمالها رمساً لكل من يجرؤ منهم على وطئها، حتى من كان من أبنائها تحت راية واحد من أعدائها كان مصيره مثل مصيرها وابتلعته هذه الجزيرة كما ابتلعت جيش كسرى في «ذي قار» ، ثم لم يقنعها ما صنعت حتى ابتلعت دولته كلها في «القادسية» تحت راية القرآن، وقالت للدنيا: هذا جزاء من يطأ أرض الجزيرة!

ص: 280

ويسير بردى في غور عميق لا يخرج إلى هذه الجنّات الجميلة الفتّانة التي قامت على مقربة منه، يمشي في حضيض الوادي تلتطم مياهه وتصطدم كما كان العرب في جاهليتهم يقتتلون ويصطرعون، يشتغلون بأنفسهم عن العالَم من حولهم! حتى يبلغ بردى «الفيجة» فتصبّ فيه المياه العذبة الكثيرة من «عين الفيجة» التي يخرج ماؤها مندفعاً فوّاراً كأنه سيل ينحدر من قمة الجبل، كما خرج المسلمون يفتحون الأرض لينشروا فيها الخير الذي هبط عليهم من السماء في غار حراء.

تنزل مياه «الفيجة» في بردى فتضيع قلّته وكدورته في كثرتها وصفائها، ويكون منهما نهر جديد يعدو عَدْواً ويهدر ويعلوه الزبَد، وقد كان -من قبلُ- يمشي بطيئاً، قد خالطه الطين، يسرع إلى أرض الأزهار والثمار، كما انصبّت على عقائد الجاهلية مبادئُ الإسلام الصافية السامية. وترى بردى يتجافى بعكَره عن مياه الفيجة، يجاورها ويأبى أن يختلط بها، فيسير النهر مئة متر ترى الماء من يمينه معكَّراً، ذلك ماء بردى، ومن يساره صافياً رائعاً لأنه من ماء الفيجة؛ كما تجافى العرب عن الإسلام وأبوا أن يتبعوه وكادوا لأصحابه، حتى صارت الجزيرة كبَرَدى فيها عكَر الشّرك وفيها صفاء التوحيد، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهليون المشركون المختلفون، ثم مكّن الله لرسوله فخضعت له الجزيرة التي لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته ولم تجتمع تحت راية أحد قبله، فقادها خلفاؤه إلى أرض التين والأعناب، لا لتستمتع بخيراتها بل لتمدّ بالخير أهلها، لاتريد أن تأخذ الغنى والترف منها بل لتقدّم

ص: 281

الحضارة المؤمنة إليها.

ويبلغ بردى «بَسّيمة» و «الأشرفية» و «الجدَيْدة» فيجعلها الله به أجمل البقاع، يسقيها من مائه فيكون شكرها إياه خمائل قلّما رأى الراؤون مثلها، تعانقه السواعد الغضّة من أشجارها وتلثم خدَّه الروائعُ من أزهارها، وهو يلين تارة حين تُرى حصباؤه من صفائه، ويشتدّ أخرى فيُرغي ويُزبِد ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل، مرهوب ولكنه محبوب، كما كانت الأمة العربية المسلمة بعد أن بسطت سلطتها على العالَم القديم كله محبوبة مرهوبة، يحبّ الناس عدلها ويرهبون بطشها، أغاث الله بها أرجاء الأرض فكان شكرها إياه هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها وهذا النعيم الذي تفيّأ ظلالَه أبناؤها. وكانت تستقيم لها الأمور فتلين حتى تجعل البلاد جنة يسعد بها أهلها، وكانت تغضب فيغضب لها الدهر وتسير إلى عدوّها فيسير في ركابها الموت. كانت تحمل في يمناها السعادة والهداية والسلام لمن أراد السلام، وفي يسراها الموت والخراب والشقاء لمن أراد الحرب، كما يحمل بردى عند بَسّيمة والجديدة الخير والنماء والطوفان والغرق.

ويبلغ بردى الربوة ويمشي عند «النَّيْرَبين» وقد صار النهرُ الواحد سبعةَ أنهار، منها العالي الذي يمشي في عَدوة الجبل، والذي في السفح، والذي يقبع في قرارة الوادي، منها الكبير الممتلئ والصغير الفارغ، كما انقسمت الأمة إلى طوائف وحكومات منها القوي ومنها الضعيف، وإن كان من هذه الحكومات الصغيرة حكومة ردّت الصليبيين وغلبتهم في حطّين كحكومة صلاح الدين، وحكومة هزّت في «الحدَث»

ص: 282

دولة البيزنطيين وانتزعت من بين أيديهم النصرَ المبين" (1) الذي يحدّثكم عنه المتنبي (2).

* * *

ما انقسم بردى إلى السبعة الأنهار إلاّ ليسقي دمشق كلها وضواحيها جميعاً، غورها ونجدها، فأول ما ينفصل عنه نهر «يزيد» من عند «الهَامَة» (على بعد عشرة أكيال من دمشق)، يأخذ قسطاً محسوباً مقدّراً من ماء بردى ثم يسيل في مجرى حُفر له في الجبل، لا يميل ميل الأرض ببردى بل يبقى عالياً ليصل إلى الأحياء العالية من دمشق.

ثم ينفصل «تُورا» بماء أكثر من ماء «يزيد» محسوب مقدَّر، فيجري تحت مجرى «يزيد» ، وتنفصل الفروع الأخرى تِباعاً، كل واحد له مجرى معلوم يناله من ماء النهر قَدْر معلوم، يمشي ليسقي أراضي محدّدة معلومة. ترتيب قديم عظيم بدأ به الرومان وأتمّه وضبطه المسلمون، وسُجّل ذلك بوثائق واختُصّ به ناس يتوارثون معرفته؛ فلكل قرية ماؤها يصل إليها ولكل بقعة في

(1) ما بين الأقواس من مقالة لي نُشرت في «الرسالة» سنة 1353هـ.

قلت: والمقالة في كتاب «دمشق» وعنوانها «نهر دمشق» (مجاهد).

(2)

في قوله:

هل الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرفُ لونَها

وتعلمُ أيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ؟

و «الحدث» قلعة حصينة قرب مَرعَش (إلى الشمال من حلب)، أوقع فيها سيفُ الدولة الحمداني بالصليبيين هزيمة منكرة في شعبان سنة 343هـ (مجاهد).

ص: 283

القرية حقها من هذا الماء، لا يطغى بستان على بستان لا يأخذ أحدٌ أكثرَ من حقه ولا يُحرَم أحد شيئاً من حقه.

وأعجب من هذا التقسيم لماء القرى والبساتين قسمة الماء على حارات دمشق وأحيائها، فلكل حارة نصيب معلوم ثم يُوزّع هذا النصيب على البيوت، ومقاسم المياه تقوم في أزقّة البلد، ويسمّى المَقسم «الطالع» ، وهو بناء مربّع بحجم البرّاد الكبير أو الخزانة، يقوم في زاوية الطريق، يصل الماء إليه من فتحة لها سعة محدَّدة ثم يُوزَّع على فتحات أصغر منها، كل واحدة توصل الماء إلى دار من الدور. ومن المنازل ما يأتيه الماء منها رأساً ومنها ما يكون ماؤه من فائض دار أخرى. وفي كل دار بِركة ينصبّ إليها الماء من «السّبع» ، هذا اسمه، ولعلّه كان قديماً على صورة سبع يُنزل الماء من فمه كما ترى في صور «الحمراء» في الأندلس، ويفيض من «الهارِب» (1). ثم يخرج الماء من الدور إلى المجاري. وفي دمشق مجارٍ تحت الأرض مبنيّة، قديمة جداً، لعل منها ما يزيد عمره على ألف ومئتي سنة، ولا تحتاج إلى مضخّات تدفع ماءها كما هي الحال في البلاد الأخرى، لأن أرض دمشق مائلة من الغرب إلى الشرق، لذلك يجري فيها الماء جرياً طبيعياً.

(1) في مقالة «طريق السعادة» المنشورة في كتاب «مع الناس» يقول الشيخ: "قعدت أمام البحرة وأردت أن تمتلئ ففتحت السباع كلها فتدفق الماء"، ثم شرح ذلك في الحاشية فقال: "البحرات: البِرَك التي تكون في بيوت الشام القديمة، فيصبّ الماء إليها من تماثيل من النحاس على هيئة السّباع، لذلك يُسمّى مصب الماء «السبع» ومجراه «الهارب» (مجاهد).

ص: 284

أما بردى فإنه يذلّ بعد عزّه، ويفتقر بعد غِناه، ويضعف بعد قوّته، ويصل في الصيف إلى دمشق قليل الماء معدوم الصفاء، حتى إن الهرّة تمشي في مائه فلا تغرق! ثم يخرج إلى الغوطة.

ولقد جئت أحدّثكم عن الغوطة، ولا أظن أنكم تعرفون عنها إلاّ مقالة ياقوت الحموي في «معجم البلدان» ، ياقوت الذي ساح في بلاد الله شرقاً وغرباً ورأى أقاليم الأرض، فما رأى مثل غوطة دمشق، وأقرّ أبا بكر الخوارزمي على أن متنزَّهات الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصُغد سمرقند، وشِعْب بَوّان، ونهر الأُبُلّة. أما سمرقند فلم أصل إليها، وأما شعب بوّان فقد خبّرَنا المتنبي أن:

مَغاني الشِّعبِ طِيباً في المَغاني

بمنزِلةِ الرّبيعِ منَ الزّمانِ

ولكنّ الفتى العربيَّ فيها

غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ

ملاعِبُ جِنّةٍ لو سارَ فيها

سليمانٌ لسارَ بتُرْجُمانِ

وأما نهر الأبلّة (ويُدعى اليوم «أبو الخصيب») فسيأتي كلامي عنه حين أصل إلى ذكريات سنة 1936 لمّا ذهبت إلى البصرة مدرّساً للأدب العربي فيها. وأما الغوطة فهي: "بساتين متصلة حافلة بأنواع الثمار، تمشي فيها من طرَفها إلى الطرَف الآخر أكثر من تسع ساعات، وما تنفكّ تمشي في ظل شجرة مثمرة أو بجوار نبتة مُزهرة. ولو اجتمع على مائدة واحدة ما يخرج منها من الثمار لاجتمع أكثر من ثلاثمئة طبق، ما في طبق منها مثلُ ما في غيره من الطباق. إذا رأيت نساءها يَلُحْنَ لك من بعيد وهنّ ساربات خلال الأشجار أو منثورات وسط الحقول رأيت

ص: 285

ثياباً زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهنّ زهراتٍ من زهرها، على شمول ثيابهن وسترها. وتظنّ الربيع قد جاء في الخريف حين تكون الأرض مفروشة برقائق الذهب من صفرة الأوراق التي نثرها الخريف، كنّثار الدنانير على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الرائق اللون كأنه تماثيل في متحف فرعوني صُبّت من خالص العَسْجَد، ثم يأتي الشتاء فتخلع الأشجار ثيابها على حين يتدثّر الناس بالصوف، و «الحور» لم يبقَ منه إلاّ عيدان، فكأن «الحور» فتية أذاب جسومَهم الغرامُ فأضحوا من جَواه جلوداً على عظام. و «المشمشات» كأنهن معشوقات هجرَهنّ الأحبّة، و «الجوز» العاري يقف صابراً عظيماً في محنته كما كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون فلا يُرى إلاّ لابساً ثيابه، لا هو يلقيها عنه يضحك بالزهر إن أقبل الربيع ولا يأسى إن جاء الشتاء وبكت السماء، فهو الفيلسوف الذي لا يبالي من الحياة أفراحَها ولا أتراحها ولا يحسّ نِعَمها ولا نِقَمها. و «السواقي» وهنّ جَوارٍ من كل جهة إلى كل جهة، ساقية تجري عميقة بين الأعشاب لا يوصَل إليها ولا يُنال ماؤها وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر انحداراً لها صخب وهدير وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار، وصافية نقيّة وعكرة خبيثة، وسالكة طريقها قانعة بمجراها وكاسرة حدودَها عادية على غيرها

فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس؛ كل يعمل على شاكلته وكل مُولٍّ وجهته ساعٍ إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها.

والناس كالسواقي؛ ينزل ماؤها إلى الحضيض على أهون

ص: 286

سبيل ولكن لا يصل إلى المعالي إلاّ إنْ ضخّته مضخّات وبُذل فيه كبير النفقات. الناس كسواقي الغوطة، عميق النفس لا تدرك قرارته ولا تعرف حقيقته، وواضح بيّن ظاهرُه كباطنه وباطنُه كظاهره، وجيّاش صخّاب وصامت سَكوت، ونقيّ الطويّة وخبيث السريرة، ومنصف وظالم، وكبير وصغير

وكل يستمدّ من غيره ويمدّ سواه.

هذه هي الغوطة، إن رأيتها ففَتَنك جمالها وبهاؤها فقد فَتنَت مِن قبلك ملوكاً وقُوّاداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي لها مسرات. هذا، وقد وصفتها لك في الخريف، ولو رأيتها حين تهبّ عليها نسائم الربيع فتلبس حلّة بيضاء أو صفراء أو حمراء من الزهر، ويُترَع جوّها من زهرها العطر، إذن لرأيت جنة الدنيا وبهجة العمر" (1).

* * *

ولكن «الغوطة» التي قرأتَ وصفها لن تجد إن زرتَها الآن إلاّ نصفها، كانت حاضراً يُرى فصارت تاريخاً يُروى؛ لقد أكلَتها الدور الجديدة، أعني أقفاص الإسمنت التي تراكمت فصارت عمارات يركب بعضها ظهر بعض، ترتفع ارتفاع المنارات ويزدحم فيها الناس ازدحام السردين. فيا أسفي على دمشق، ويا حسرتا على أني لم أكُن شاعراً!

(1) ما بين الأقواس من مقالة «هذي دمشق» ، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعبر من نضالها» (مجاهد).

ص: 287

لقد سقى شعراؤنا بدموعهم أطلال الديار، بكوا الحفرة التي كانت حول الخيمة وآثار الموقد الذي كان لأهلها

جاؤوا لبقايا حياة فقيرة في صحراء، فخلّدوها بقصائد حوّلَتها في خيال من يقرؤها إلى جنّات مسحورة في حُلم فاتن، فأين شعراؤنا اليوم يبكون «الميزان» الذي كان نزهة المشتاق وملتقى العشاق ومجتمَع الرفاق، يوم كنا نشدّ إليه أحمالنا فنبسط البُسُط ونمدّ الموائد وننصب السَّمَاوَرات، و «المِزّة» بسهلها من ورائنا و «الرَّبوة» ومدخل واديها من أمامنا عن شمائلنا، و «قاسيون» أجمل الجبال (حاشا أُحُداً وحِراء) يواجهنا، تنام في حضنه أحياء «المهاجرين» و «الصالحية» و «ركن الدين» ، وتحت قدمَيه البساتين، أينما نظرت رأيت البساتين، وإلى أمامنا من بعيد قبّة النّسر ومنارات الأموي، أبهى المساجد وأقدمها وأعظمها (اللهمّ إلاّ الحرمين والأقصى الذي هو ثالثهما)، وتحت أرجلنا نهر «باناس» أصغر أبناء بردى وإلى جنبه أخوه «قَنَوات» ، وعلى سفح قاسيون أكبر الإخوة «يَزيد» وتحته «تُورا» ، وفي صدر الوادي «الشّاذِرْوان» .

أين هذه المغاني؟ لقد صار «الميزان» مستشفى المواساة. إنه يداوي الأجساد، ولكن ألم يكن الميزان يعالج بجماله النفوس فيكون منه دواؤها؟ وهل للنفوس شافٍ من أمراضها مثل الجمال؟ و «صدر الباز» الذي كنا نمشي إليه كل «صبحيّة» وكل «مَسَويّة» ، المرج الأخضر منبسط من حولنا وبردى يتوثّب من نشاطه جارياً بين أيدينا وقاسيون يطلّ علينا، نضع البطيخةَ في جانب النهر حتى تبرد وإبريقَ الشاي على النار حتى يسخن، ونأخذ بأطراف الحديث حتى نتسلّى. أين «صدر الباز» ؟ إنه المعرض الدولي

ص: 288

الدائم وملاعب كرة القدم. أخذوه منا وهو وقف إسلامي، مسجَّل في الدائرة العقارية محفوظة سيرته في صحف التاريخ!

ذهبَت دمشقُ التي عرفناها وجاءت دمشق أخرى ننكر منها أكثر ممّا نعرف، وأصاب الغوطة «شلل نصفي» عطّل جانبها الغربي كله فعالجوه بالبتر، فغدت الغوطة اليوم شقّ غوطة الأمس! كان النصفان كأنهما شقيقان فلم يبقَ إلاّ شِقّ واحد، فلا دمشق دمشق ولا الغوطة الغوطة.

فيا ليتني لم أقف اليوم عليها ويا ليتني مضيت قدماً إلى حديث القرية التي نُقلت إليها معلّماً في مدرستها! لقد أثارت هذه الوقفة أشجاني وجدّدَت أحزاني، وإن ضاق بالشباب يومه فرّ بالأمل إلى المستقبل، أما الشيخ فلا مهرب له إلاّ إلى الماضي.

فلنعُد إلى الماضي الذي كنت أتحدّث عنه، إلى يوم تلقّيت كتاب الوزارة بنقلي إلى سَقْبا، ومَن كان منا معلّماً في قرية فنُقل إلى دمشق كان كأنه نال الأماني، ومن اقترب منها فقد دنت منه الآمال. كنا كلّنا معلّمين في المدارس الابتدائية: أنا وسعيد الأفغاني وسليم الزِّرِكْلي وأنور العطّار وجميل سلطان وزكي المَحاسني، ومن كان قبلنا ممّن هم مشايخنا أو مثل مشايخنا: الشيخ بهجة البيطار (مؤسّس دار التوحيد) والشيخ زين العابدين التونسي وعبد الغني الباجِقْني والشيخ (الطبيب) رفيق السّباعي وشيخ القرّاء الشيخ عبد الله المنجّد والشيخ سعيد البُرهاني وحسني كنعان، ومن جاء بعدنا بقليل كمحمود مهدي الإسطنبولي وحكمة هاشم، ومن بعدهم كأمجد الطرابلسي، هؤلاء وأمثالهم

ص: 289

كانوا معلّمي الابتدائية. فهل في أساتذة الجامعات اليوم مثل هذه «المجموعة» ؟

وفي مصر كان المتخرجون في دار العلوم العليا يوم كنت طالباً فيها من خمس وخمسين سنة (سنة 1928) يُعيَّنون أولاً في المدارس الابتدائية، ولذلك قلت في إحدى حلقات برنامجي في الرائي إن عدد المدارس اليوم أكثر ولكن العلم فيها أقلّ، كنّا مثل البئر فوّهتها ضيقة ولكنها عميقة، فصرنا مثل الغدير واسع ولكنه ضحل.

وكانت سَقْبا إحدى قرى أربع متجاورات: حَمّورية التي التصقت بسَقبا يوم كنت معلّماً فيها (سنة 1932)، وجِسرين وفيها مزرعة أستاذنا كرد علي، وكفر بَطْنا، وسقبا. وإلى جوار جسرين يجري بردى وقد استردّ بعض شبابه واستعاد شيئاً من قوّته، وعاد عند «جسر الغيضة» غزير الماء سريع الجري، وهو غير نهر «قُلَيط» الذي تجتمع فيه المجاري فيُصلِح الزرع ولكنه يُفسِد الهواء، وإن كان -لكثرة مائه- أقلّ تلوثاً من أمثاله.

والقرى في الغوطة متوارية من الحياء وسط الأشجار، تتستّر بها حتى لا تُرى كالمخدَّرة الحيِيّة التي تخشى أن تلمحها عيون الرجال، فلا يبين منها إلاّ ذرى مآذنها. والمآذن أُحدِثت بعد عهد الرسول ‘ ولكنها صارت اليوم أمارة الإسلام في البلد الذي تقوم فيه، ولما غلب علينا الاهتمام بالمظهر أكثر من الجوهر بالغنا في التأنق في بنائها وزخرفتها ورفع ذُراها

وإن كان المؤذّن لا يصعد إليها بل يؤذّن بالمكبّر من وسط المسجد. ودخل المبشّرون، أعني

ص: 290

أنه دخل المكفّرون المنصّرون من هذا الباب، فأقاموا الكنائس الضخمة في أحياء المسلمين ليُوهِموا الناس أن لهم فيها قوة وجمعاً، والمسلمون نائمون أو أنهم لا يبالون.

* * *

وكانت داري في شارع بغداد يوم كان طريقاً خالياً وسط البساتين ما على حاشيته شيء من هذه العمارات التي تقف اليوم، فكان البصر يسرح منه إلى الجبل لا يحجزه شيء. فإذا وصلت إلى آخره من جهة الشرق وجدتَه يقطع طريق دوما الذي يقف على حدود الغوطة كشارع السِّيف (الكورنيش) الذي يقوم على شاطئ البحر. وهل تبدو الغوطة من الجبل إلاّ بحراً أمواجه هامات الشجر، والعالي منها كأنه سواري المراكب الماخرة فيه؟

هناك قرب باب توما، أحد أبواب دمشق السبعة (وقد بقي سالماً إلى الآن ستة منها)، هناك كانت تقف سيارات الغوطة. وهي من سيارات فورد الصغيرة، في مقدمتها المحرّك عليه غطاؤه، وعلى جانبَيها رفارف يصعد الراكب عليها، دواليبها رقيقة، حجمها ضئيل لا تتسع إلاّ لأربعة ركاب. لم تكُن هذه السيارات الفخمة المنظر الجميلة المظهر، ولكنك إن ضربتَها بجمع يدك وكنت قوياً أثّرَت ضربتك في غطائها الرقيق، على حين كانت السيارة الأولى متينة قوية. كأننا كلما ازددنا علماً ازددنا غِشّاً!

تقف حتى يجتمع الركّاب الأربعة، فربما طال وقوفك نصف ساعة وربما مشت بك بعد دقائق. وكان بين هذا الموقف وسَقبا

ص: 291

نحو سبعة أكيال، أي أقلّ ممّا بين الحرم في مكة ومنى، أو الحرم وجامعة أم القرى.

* * *

ص: 292