المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌العودة إلى دمشق

-58 -

‌العودة إلى دمشق

أُرخِيَ الستار وما انتهى الفصل، ورُفع القلم وما اكتمل، فأنا أَصِلُ اليوم ما انقطع في الحلقة الماضية.

تركتكم آخر يوم في السنة المدرسية، وهو 31 أيار (مايو) 1932، في عمارة كبيرة وسط صحراء منبسطة، كانت صدرَ النهار تعجّ بثلاثمئة تلميذ يَعْدون حولها، يملؤون الجو صخباً وضجّة ويُترِعونه حياة وبهجة، وكان فيها ثمانية من المعلّمين يمرحون ويمزحون، لا ينظرون إلى ما مضى من أيام العلم التي قضوها في كدّ وتعب بل إلى ما يُقبِل من أيام العطلة التي يأملون أن يُمضوها في راحة ومتعة.

أما التلاميذ فقد أخذوا «نتائجهم» وذهبوا، وأمّا المعلمون فقد تبادلوا سلام الوداع وتفرّقوا، منهم من ذهب إلى حمص ومن ركب إلى حماة ومن سلك طريق الشام أو طرابلس، راح كلٌّ إلى بلده، وبقيت أنا والمدير والبوّاب. وكان المدير يداورني لأذهب معه، وأنا عازم على البقاء أياماً وحدي أُعِدّ للامتحان (امتحان الحقوق) وأقرأ ما حملت معي من كتب، وتعبت معه حتى رضي

ص: 259

أن يدَعني فودّعني وانصرف. واستأذن البوابُ أن يذهب ولكن بعد أن أسمح له (!) أن يقوم بواجبه وألاّ أغضب من قيامه به، وكان «واجبه» أن يجمع أثاث المدرسة كله في غرفة كبيرة، يغلقها ويمشي.

ذهب الجميع وبقيَت غرف خالية عارية في دنيا سكت فيها كل صوت، فلا تسمع إلاّ الصمت، وسكنَت كل حركة فلا ترى إلاّ الجمود، والصحراء على هيئتها وهيبتها، والبلد بعيد وأنا وحدي. ولقد عرفت الوحدة من قبل وظننت أني تعودت عليها، ولكني أدركت اليوم أني كنت مخطئاً وأنه ما وُصِف الإنسان بأنه «حيوان ناطق» إلاّ لصعوبة الصمت والوحدة عليه. قرأت مرةً قصّة روسية نسيت لمن هي، أن حوذياً يسوق عربة أجرة مات ولده وضاق صدره عن احتمال الألم، فهو يريد أن ينفّس عن نفسه بالكلام عنه وإلاّ انفجر كما ينفجر مِرجل الماء المغليّ إذا أحكمتَ سدّه، فركب معه راكب فبدأ يحدّثه عن ولده وهو يستمع إليه مجاملة له وشفقة عليه، حتى بلغ غايته فدفع الأجرة ونزل، وركب آخر فكانت حاله مثل الأول، وثالث ورابع وسابع وثامن، لا يستمع قصّتَه أحدٌ ولا يشاركه حمل أساه أحد، فمرّ من فوق الجسر فترك العربة وألقى نفسه في النهر!

* * *

قعدت أقرأ قصة، وكانت -لسوء اختياري- قصة «آلام فرتر» التي تجعل المبتهج مغموماً والضاحك باكياً، والتي تُذهِب هي وأخواتها (رفائيل، وبول وفرجيني، وغادة الكاميليا، ومانون

ص: 260

ليسكو، وماجدولين، وغرازبيللا، وجوسلان، والأجنحة المتكسرة لجبران

) تُذهِب من الشابّ رجولته وتقتل مطامحه، وتحصر عالمه كله في فتاة واحدة يحدق إلى عينيها أو يجثو عند قدميها، لا يبتغي من الدنيا إلاّ عطفها ووصالها! على أنها (والحقّ أحقّ أن يُقال) أقلّ ضرراً من الأدب المكشوف والشعر الداعر، الذي يحول الشباب إلى قِطاط (1) في شهر شباط!

رميت القصة ولم أعُد أستطيع البقاء، ولو كان السفر ممكناً لسافرت، ولكن السيارة لا تمشي إلى حمص إلاّ مرة في اليوم ومشيها إلى حماة أقل، ولا بد من انتظار الغد. وكنت قد سمعت أن في البلد أقنية قديمة تُعَدّ بالعشرات محفورة من أيام الرومان وزاد فيها ووسّعها العرب، تمتدّ من جبال البلعاس إلى نهر العاصي، وأن قرب البلد على بُعد كيلين منها (أتكلم عن سنة 1932) عيناً اسمها العين الزرقاء، وعلى أكَمة عندها قلعة قديمة وأنقاض برج عالٍ وبئر جافة عميقة، فقلت: أمشي إليها فأُمضي ساعات من هذا النهار الطويل الثقيل. ولولا الحياء للحقت المدير و «استأنفت» الحكم الذي أصدرتُه على نفسي بالسجن مع النفي.

وفي السلمية آثار كثيرة لم يكن قد جرى (يومئذٍ) التنقيب عنها، لا سيما في المقبرة الرومانية في مكان كان يُدعى «ظهر المُغْر» (2)، وكان الناس يحملون منها قطعاً من الفخار والزجاج كانت يوماً جِراراً وكؤوساً. ولا يُطلَق اسم «الآثار» على ما مرّ

(1) جمع القط قطاط.

(2)

يريدون بالمغر المغارات، جمع مغارة.

ص: 261

عليه مئتان أو ثلاثمئة سنة، وإلاّ عُدّ نصف دمشق القديمة ونصف القاهرة من الأماكن الأثرية؛ الأثر هو ما مرّ عليه قرون طويلة أو كانت له دلالة تاريخية خاصّة.

أمضيت ليلة من أشدّ الليالي التي رأيتها في حياتي: ظلمةٌ ووحشة وصمت، والساعات تمرّ بطيئة كأن الدقيقة فيها ساعة، وقد انقطع تيّار الكهرباء فأوقدت مصباح الكاز (النفط). إن بقيت في الغرفة أحسست كأن جدرانها تتقارب وتتدانى حتى تُطبِق على صدري، وإن خرجت في الظلام حسبت كل ضوء أراه من بعيد أو أتوهّم أني رأيته، أحسبه عينَي ذئب أو ثعلب، وهي كثيرة في تلك الناحية. وإن لمسَت رجلي وأنا أمشي نبتةً جافّة ظننتُها عقرباً. والأرض، بل والمدرسة، ممتلئة بالعقارب. وإن حملت الفانوس خفت! لا تتعجبوا من قولي ««خفت» ، فإنه خوف العاقل لا خوف الجبان، وأنا لي عيوب جمّة ولكن ليس منها الجبن، والتفكير في الأخطار والابتعاد عنها ليس من الجبن. كنت أخاف لأن هذا الفانوس يُرى في تلك الفلاة من مسافة عشرة أكيال أو أكثر من كل جهة، ولعل في الجوار لصاً أو مجرماً يطمع بي، يراني وأنا لا أراه، فالعقل يقضي عليّ بأن أطفئه وأخوض ظلام الليل، فظلام الليل أهون من ظُلم البشر. ومشيت حتى تعبت ومللت فعدتُ، وطال الليل. وجعلت أذكر كل ما أحفظ من الشعر في الشكوى من طول الليالي، من ليل امرئ القيس ملك الشعراء (إن كان شوقي أميرَهم) ووليّ عهده النابغة، إلى آخر من أعرف من رعاياه. ثم رأيت أنّ أصدَقَه قول بشار:«لم يطُلْ ليلي ولكنْ لم أنَمْ» .

نعم، فالليل لا يطول ولا يقصر ولكن مقاييس الزمان عندنا

ص: 262

مختلّة، ساعاتنا كلها خَرِبة، وإلاّ فخبروني: كيف تكون ساعة العروس (أقصد العريس) في أول ليلة من شهر العسل ستين دقيقة، وساعة المحبوس في سجن الجبّارين يذوق فيها أفانين العذاب ستين دقيقة؟

لم يطل ليلي ولكن لم أنم، بل بقيت الليل كله أنظر من الشبّاك أتبصّر هل طلع الفجر، فلما رأيت بياض الأفق الشرقي وأيقنت أنه الفجر وأن موعد الفرج قد دنا، عبّأت كتبي في حقيبتي وألقيت فوقها ثيابي، وصلّيت الفجر وحملتها، وأغلقت باب المدرسة وأخذت طريقي إلى البلد. وكان موقف سيارة حمص بعيداً والحقيبة ثقيلة، ولكني لمّا بلغت أطراف البيوت ودخلت البلد كان قد طلع النهار، فوجدت من تلاميذي من حملها عني وسار بي حتى بلغت القهوة، فأكلت فيها ودعوت من معي وشربنا الشاي، حتى جاء موعد انطلاق السيارة التي كان ينتظرها المسافرون، فأكرموني فأركبوني جنب السائق، وودّعت من كان معي وسرت، أعني سارت بنا السيارة، وكان ذلك اليوم (وهو أول حزيران (يونيو) 1932) آخر عهدي بسلمية، لم أرَها بعده.

* * *

وصلنا إلى قرية أظن اسمها قرية عزّ الدين (أو اسماً يشبهه)، فركب معنا شيخ بعمامة لها عَذَبة طويلة ولحية بيضاء، فلما سمع السائقَ يدعوني بالطنطاوي هشّ لي وأقبل عليّ، ومدّ يديه يعانقني ويقول: يا بركات السيد البدوي، أهلاً وسهلاً بابن طنطا، هل أنت منها؟ قلت: جدي منها وأنا لا أعرفها. وانطلق يحدّثني من

ص: 263

فوق كتفي (لأنه ركب الصف الأول من مقاعد السيارة وأنا إلى جنب السائق) ويقصّ من كرامات السيد ما لا يقبله عقل ولا يُقرّه دين ويؤكد أن الشيخ عزّ الدين المدفون في هذه القرية من أتباعه، وكانت محنة ولكنها لم تطُل لأنه نزل بعد قليل.

ومررنا بمضارب بدو فدعونا إلى القهوة، واختلف الركاب ثم نزلوا، فقعدنا على بساط نظيف واستندنا إلى وسائد وضعوها لنا، وسقونا القهوة العربية المرة وثلثاها (كما هي العادة) من الهيل والثلث من البُنّ، وهي منشّطة لذيذة. بقينا عندهم أكثر النهار، وأرادونا على أن نتعشّى عندهم فاعتذرنا. وكان كرمهم الفطري وصفاء نفوسهم وصدق حديثهم قد نفض عنا التعب. ومشت بنا السيارة في سهول خضراء تارة وفي قفرة جرداء تارة، والأرض منبسطة من حولنا لا يحدّها إلا الأفق حيث ترى العينُ السماءَ قد التقت بالأرض، ولم نجد في مسيرتنا إلاّ مضارب البدو المنتشرين في تلك النواحي لأنه كان عام خير، وكانت المراعي كثيرة والنعم وفيرة، والجِمال تبدو أمام الشمس المصفرّة المائلة إلى الغياب كأنها تسبح في بحر من النور أو كأنها لوحة سينما كبيرة.

حتى إذا توارت بالحجاب وأُسدِلَ ستار الظلام بدت أنوار من بعيد، فقالوا هذه حمص. ونزلنا نستريح في «الروضة» ، وكانت روضة حقاً؛ بناء جميل حوله حديقة أنيقة فيها الموائد والمناضد المنصوبة حولها الكراسي المصفوفة، فجلسنا سويعة أكل فيها مَن أكل وشرب من شرب، وصلينا كلنا المغرب جماعة ثم افترقنا.

ص: 264

وركبت -مع ثلاثة يقصدون دمشق- سيارة صغيرة. واستأذنت أن أركب جنب السائق لأني كنت (ولا أزال) إذا ركبت وراء أصابني شيء من دُوار، أو توهّمت أنه أصابني. وكانوا كراماً فأذنوا لي. وما سرنا إلا قليلاً حتى بدأ السائق ينعس ويكاد رأسه يميل على مِقوَد السيارة، فنبّهناه فلم يتنبّه، وكان الطريق ضيّقاً وهو يصعد حتى يبلغ أعلى لبنان الشرقي، ثم يهبط وهو يلتوي ويدور، ومن غفل من السائقين وهو يقظان في النهار تعرّض للأخطار، فكيف بمن يسوق السيارة نعسانَ في سواد الليل؟ وكان معنا راكب كهل من حماة، أبيض الشعر وقور، ولكنه متين البنيان قوي الجسد كأنه مصارع من أصحاب الوزن الثقيل، وكانت له يد كفّها بعرض كفّيّ معاً، وهو يتكلم ببطء بالسرعة الإملائية، وهي تسمية ابتدعَتها محطة الشرق الأدنى في يافا قبل الحرب الثانية، تُلقى فيها النشرة الإخبارية جملة جملة لينقلها مُخبِرو الصحف.

فتوجّه إليه وقال له: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة والطريق خطر، وأنا لا أخاف على نفسي فأنا كهل، ولكن أنت شابّ ولك عيال، إلخ. وهو يقول: نعم، نعم، أمرك يا عمّ، أمرك. ولكنه يعود إلى ما كان فيه، ويخفق رأسه حتى يميل على المقود. فما كان من الكهل إلاّ أن طلب منه أن يقف السيارةَ دقيقة، فظنّ أنه يريد النزول لقضاء حاجة، فوقف والتفت إليه وقال: نعم؟ فلم يشعر إلا بهذه اليد تنزل عليه بضربة لو أصابت ثوراً لتَضَعْضَع ولو كانت بمصارع لهوى، وعاد يقول له بالسرعة الإملائية والصوت الخفيض واللهجة الحانية: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة

إلى آخر المحاضرة.

ص: 265

فبُهت وتحيّر: هل يغضب للضربة أم يرضى بالنصيحة؟ ولكن النوم طار من عينيه إلى آخر الطريق. ووصلنا بسلام.

* * *

وبلغت دمشق، وأحسست لمّا هبّت عليّ نسائمها كأني غريق خرج إلى الهواء. ولقد شرّقت من بعدُ وغرّبت ورأيت بلاداً لا أحصيها عدداً، فما رأيت فيها أجمل من دمشق. أفهي كذلك أم تجمُل في عينَيّ لأنها بلدي، وكل إنسان يؤثر بلده على سائر البلدان؟ لقد عرفت مَن ذهب إلى أميركا وعاش في أكبر مدنها واستمتع بمنتجات حضارتها ووسائل الترف فيها، فما أنسته نيويورك وناطحات السحاب فيها قريتَه ولا بيته المبنيّ من الخشب واللبِن في أزقّتها، وكان يحس أنه في أميركا غريب، نزيل في فندق، ما شعر بالاستقرار إلاّ لمّا وصل القرية وولج الدار. وهذي لعَمري من حكيمِ ما قدّر الله، وله الحكمة البالغة في كل ما قدّر؛ ولولا ذلك لاجتمع الناس كلهم في مواضع المال والجمال وخربت البلاد الفقيرة وأقفرت.

كنت أشكو في سلمية السكون الذي يشبه الموت والفراغ الذي يحكي العدم، فعدت إلى مثل ضجيج المعركة وزحمة الحشر، ورجعت إلى ما ابتعدت عنه واسترحت منه: خطب سياسية في الأموي عقب صلاة الجمعة، بعدها مظاهرات وهتافات ومصادمات بيننا وبين الشرطة، فإنْ حَمِي الوطيس دُعي الجند من السنغاليين وغيرهم أو نزلَت المصفّحات. ونستريح بعدها قليلاً ثم يُستأنف النضال.

ص: 266

والمدارس التي كنت أعلّم فيها: ولها عليّ حقوق ولي بها ارتباط، وهي مدارس أهلية عملها في الصيف أكثر من شغلها في الشتاء، لأن آباء التلاميذ لم يكونوا قد ألِفوا العطلة الصيفية وكانوا (أو كان أكثرهم) يظنّ أنها تُنسي التلميذ ما تعلّمه، لذلك كانوا يُدخلون أولادهم هذه المدارس الأهلية يَبقون فيها مدّة الصيف، فإذا انقضت العطلة وفُتحت مدارسهم «الأميرية» عادوا إليها. وكنت وأنا تلميذ أحد هؤلاء التلاميذ، فلما عدت الآن إلى دمشق رجعت إليها أعلّم فيها، في الأمينية والتجارية والجوهرية والكاملية، فكانت تعجّ بالتلاميذ وكانت تُقام لهم الحفلات، فأرجع إلى ما كنت فيه من قبل، أؤلّف لهم مسرحيات مدرسية يخرجها صديقي المحامي أحمد حلمي العلاف، وأعلّمهم أنا الإلقاء بأنواع اللهجات التي يقتضيها المقام: الاستفهام والتأنيب والغضب والتهديد والسخرية، وكيف يعبّر الوجه عن كل موقف. والذين كانوا يزورون المدرسة ويرونني أعلّمهم هذا كله يشهدون لي بالنجاح فيه، لكن لو سُئلت من أين تعلمته أنا لما دريت. وأخذت مرة مجموعة من الصور (لي) أعبّر فيها بوجهي عن هذه المواقف كلها على طريقة السينما الصامتة، وبقيَت عندي مدّة طويلة، حماقة من حماقات الشباب.

والثالثة: الصحف التي كنت أعمل فيها محترفاً، وعدت إلى الكتابة فيها. وكانت تصدر لي في بعض الأيام مقالتان في صحيفتين معاً، وكان من أهمّ الموضوعات التي كتبت فيها أني واليت الدعوة إلى الأدب القومي، أو ما يُدعى الآن «أدب الالتزام» ؛ لا الالتزام بمذهب سياسي ولا بمنهج حكومي، بل

ص: 267

بمصلحة الأمة، ومن أولى مصالحها المحافظة على دينها وعلى أخلاقها ومحاربة الأدب الرخو المائع أو المنحرف الزائغ، أدب الشهوات وأدب الشبهات. كتبت في ذلك سلسلة مقالات بدأَت بالرسالة التي طبعتُها رداً على أستاذنا (في كلية الآداب) شفيق جبري، وانتهت بالسؤال الذي وجّهتُه إلى «الرسالة» وسيأتي خبره.

والرابعة: العمل مع المشايخ والجمعيات الإسلامية. وقد عرفتم أن دراستي كانت مزدوجة، في المدارس النظامية على الأسلوب الحديث وفي حلقات المشايخ على طريقة الأزهر القديم؛ فقد جوّدت القرآن علي شيخ قرّاء الشام الشيخ محمد الحلواني وعلى الشيخ عبد الرحيم دبس وزيت وولده القارئ الفقيه الحنفي (تلميذ أبي) الشيخ عبد الوهاب، ودرست الفقه على المفتي الشيخ عطا الكَسْم والشيخ أبي الخير الميداني الذي قرأت عليه النحو أيضاً والصرف، والحديثَ والتفسير على الشيخ عبد الله العلمي والشيخ محمد بهجة البيطار، وقرأت على الشيخ صالح التونسي وصحبتُه مدّة طويلة. وممّن حضرت دروسه ولزمته حيناً المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسَني، وصِنْوه وقرينه السيد محمد بن جعفر الكتّاني صاحب «الرسالة المستطرَفة» التي أحصت من كتب الحديث ما لا يوجد مَحْصِيّاً في غيرها، والشيخ أمين سويد وكان يتفرد في المعقولات، والشيخ عبد القادر بدران صاحب «المدخل» وهو معروف هنا، والشيخ عبد القادر الإسكندراني، والشيخ الكافي، وكثيرون جداً ربما جاء ذكرهم. فلما عدت إلى دمشق بعد هذه الغيبة القصيرة جدّدتُ العهد بهم

ص: 268

(أعني بمن بقي منهم) وبمجالسهم.

أما الجمعيات الإسلامية فقد عرفتم أني لما ذهبت إلى مصر أول مرة سنة 1928 وشهدت مولد جمعية الشبان المسلمين أو قرب العهد بمولدها، وعرفت حسن البنّا وعبد السلام هارون ومحمود شاكر وعبد المنعم خلاف (وكنا كلنا يومئذ شباباً، رحم الله من ذهب للقائه ووفّق من بقي إلى إرضائه)، عرفتم أني عدت يومئذ وعملت على إنشاء جمعية الهداية الإسلامية التي توالت من بعدها الجمعيات، وأولها «التمدّن الإسلامي» التي أنشأها ولا يزال يقوم عليها الأستاذ أحمد مظهر العظمة والأستاذ محمد بن كمال الخطيب، يشاركهم حيناً الأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي.

* * *

وكان من أحداث ذلك الصيف أن مات حافظ إبراهيم، فأقيمَت له «حفلات» التأبين في كل بلد ورثاه كل ذي قلم وكل ذي لسان، ودمشقُ أخت العروبة وظئر الإسلام لم تقُل في تأبينه كلمة ولم يُقِم مجمعها حفلة. وانتظرت شهرين، فلما لم يتحرك المجمع كتبت في «ألف باء» في منتصف أيلول (سبتمبر) مقالة هزّته فحرّكَته، فأقام «حفلة التأبين». وكان ممّا قلت فيها: إذا مات حافظ فهل ماتت دمشق؟ وهل مات مجمعها ومات أدباؤها، فلا يذكرون -وهم أهل الأدب- أن حافظاً كان علَماً من أعلامه هوى، ولا يذكرون -وهم أهل الشام- أن حافظاً طوّق بلدهم من شعره قلائد الذهب، وأنه مدّ يده إليهم عن ستة عشر مليوناً من

ص: 269

الناس (وكان هذا عدد سكان مصر يومئذٍ على ما أظنّ) مصافحاً يقول لهم:

هذي يدي عن بني مصرٍ تصافحُكم

فصافحوها تُصافحْ نفسَها العرَبُ

فما الكِنانةُ إلاّ الشامُ عاجَ على

ربوعِها مِن بَنيها سادةٌ نُجُبُ

وقوله وقوله

(إلى أن قلت): ألم يبيّن أن الشام أخت مصر، أمّهما واحدة وأخوّتهما خالدة، باقية على الأيام رغم الخطوب الجِسام:

إنما الشامُ والكنانةُ صِنوانِ

برغمِ الخطوبِ عاشا الزّمانا

أمّكمْ أمُّنا وقد أرضعَتنا

مِن هُداها ونحنُ نأبى الفِطاما

ألم يضرب بكم الأمثال لأهل مصر

(إلى أن قلت): فاسمعوا قوله:

فرجالُ الشآمِ في كرةِ الأرضِ

يبارونَ في المسيرِ الغَماما

رَكِبوا البحرَ جاوزوا القطبَ فاتوا

موقعَ النيّرَينِ خاضوا الظلاما

يمتطونَ الخطوبَ في طلَبِ

العيشِ ويبرونَ للنضالِ السِّهاما

وبنو مصرَ في حِمى النيل صرعى

يرقُبونَ القضاءَ عاماً فعاما

(وأقول: كان ذلك يوم كان ابن مصر يجزع إن نُقلَت وظيفته إلى الفيوم فضلاً عن أسوان، فصار المصريون الآن يعملون فوق كل أرض وتحت كل كوكب، ومن عرف ما كانت عليه حالهم تعجّب وأُعجِبَ بما آل إليه مآلهم).

ص: 270

(إلى أن قلت): ألم يعرّج في شعره على العالَم الجديد، فيصف حال السوريين وراء البحار وكيف أقاموا لهم كياناً وبنوا لهم من المجد بنياناً، ولا عَلَم يجمعهم ولا أسطول يحميهم، ولا دولة تُعنى بهم:

بأرضِ كولُمْبَ أبطالٌ غطارِفةٌ

أُسْدٌ جياعٌ إذا ما وُوثِبوا وثَبوا

لم يحمِهم علَمٌ فيها ولا عَددٌ

سوى مضاءٍ تحامى وِردَهُ النُّوَبُ

أسطولُهم أملٌ في البحرِ مرتحِلٌ

وجيشُهم عملٌ في البَرِّ مُغتربُ

ما عابهم أنهم في الأرضِ قد نُثروا

فالشُّهْبُ مَنثورةٌ مُذْ كانتِ الشهُبُ

(أقول: وهذا الكلام وصف لأهل مصر الآن)

(إلى أن قلت): وهذا المجمع ماذا يصنع؟ أأقلّ من حفلة؟ حفلة تكون أمارة على حياته هو وهو حيّ ميت، لا أسفاً على موت حافظ وهو ميّت حيّ؟ أأقلّ من حفلة، وقد مرّ شهران على موت حافظ، ورثاه كل أديب له لسان وكل كاتب له قلم، وكان هو سيد مَن رثى فأجاد الرثاء، حتى تمنّى «الأمير» أن يكون قد مات قبله ليحظى بمرثيّة منه:

قد كنتُ أطمَعُ أن تقولَ رثائي

يا منصِفَ الموتى من الأحياءِ

وإن كانت جملة «تقول رثائي» كالآجرّة المضعضَعة في الجدار لا تعرف الاستقرار، وما سمعنا من العرب إلاّ «قال في رثائه» أو «قال يرثيه» ، وإن لم تكُن خطأً من شوقي، وما كان مثلي ليخطّئ مثلَ شوقي.

ولحافظ مَزيّة في مراثيه. إن الحياة مسرحية كبيرة، فمَن

ص: 271

أراد أن يصف لك فصلاً منها عرض عليك مشاهده ولخّص حواره وتسلسل مناظره ومقدرة ممثليه، منهم من يصف بعينيه فيريك الفصل كأنه «السينما الصامتة» التي كانت على أيامنا ونحن صغار، ومنهم مَن يصف بأذنيه فيُسمِعك الأصوات ويُبلغك الحوار، كأنك تسمع «الفصل» من الإذاعة، ومنهم من ينقلك إلى «السينما» فيُقعِدك في المقعد المريح في الشرفة المقابلة للوحة العرض، ترى وتسمع بعينيك وأذنيك لا بوصف الناقل، وتحكم بشعورك لا بشعور الناقد.

أما حافظ في مراثيه وفي وصفيّاته فإنه يُدخِلك فرقة التمثيل حتى تكون أنت ممّن يمثّل، ينطق ويتحرك لا يكتفي بأن يقرأ أو يسمع. اقرؤوا مرثيته سعداً، وأنا أروي ما أحفظ منها، لست أحفظها كلها وليس ديوانه قريباً مني لأرجع إليها. يُدخِلك النادي الذي سيخطب فيه سعد يوم كان سعد خطيب مصر، لا في براعة القول وحسن رصف الكلام، فإن خُطَبه إن قُرئت قراءة لم يدرك قارئُها براعتَها ولم يعلم فيمَ كان هذا التأثير لها. كان تأثيرها في بلاغتها، أعني البلاغة بمعناها عند أهلها وهو مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال وأن يخاطب المرء الناس على مقدار عقولهم ويقول لهم ما يفهمونه حتى يؤثّر فيهم. وكذلك كان سعد: لمّا عاد من المنفى في جزيرة سيشيل كان ينتظره عند المحطة في ميدان باب الحديد جماهير تملأ الميدان، وكان أكثرهم من الفلاحين تركوا قُراهم وجاؤوا مصر لاستقباله، لأنه كان رمز الشعب وكان الناطق بلسانه المحامي عن حقوقه. وكان في الناس -يومئذ- من يضع الوزراء والكُبَراء فوق والفلاّحين تحت، فكانت البلاغة كل البلاغة

ص: 272

في خطابهم ما قاله سعد، قال لهم:"إنكم جئتم لتكريمي وما أنا من الكبراء ولا من ذوي السلطان، ما أنا إلاّ فلاّح وابن فلاّح". تقرؤون هذه الجملة الآن وقد انطفأ بريقها وهمدَت شعلتها، ولكن الذين سمعوها من الفلاّحين فعلت فيهم فعل السحر ومشت في أعصابهم مَشْي الكهرباء. هذه هي مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال، هذي هي «البلاغة» .

أعود إلى حافظ في رثاء سعد: وضع السامعين «في الصورة» كما يُقال، أدخلهم المشهد حتى كأنهم فيه، ينتظرون سعداً فلا يرون سعداً، فقال: أين سعد؟ لِمَ لا يحضر وقد كان حاضراً دائماً في صدور المجالس، كما كان حاضراً في القلوب بحبهم له، وحاضراً في الأسماع بإصغائهم إليه:

أينَ سعدٌ؟ فذاكَ أوّلُ حفلٍ

غابَ عن صدرِهِ وعافَ الخِطابا

لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ

أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا

ثم راح يتلمّس لغيابه الأسباب: لعلّه قد عاقه عائق؟ فلننتظر. ولكن طال الغياب، أفيكون نائماً لم يسمع؟ أيكون غائباً لم يعلم؟ فاجهروا بالنداء، فإذا لم يُجِب فاعلموا أن المصاب قد حلّ والمحذور قد وقع:

لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ

أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا

علَّ أمراً أعاقهُ، علَّ خطباً

قد عراهُ، لقد أطالَ الغيابا

أيْ جنودَ الرئيسِ نادوا جَهاراً

فإذا لم يُجِبْ فشُقّوا الجيوبا

إنها النكبةُ التي كنتُ أخشى

...

ص: 273

وقصيدته في ذكرى الزعيم الشاب مصطفى كامل، أتلو عليكم ما أحفظه منها. لكن لا تقرؤوه قراءة، بل تصوّرا حافظاً بقامته المديدة وصوته الجهوريّ وإلقائه الرائع، تصوّروا أنكم تسمعونه منه وهو ينظر إلى الأمام كأنه يحاول أن يتعرف وجه حبيب وسط الزحام، فهو يحدّ النظر ويفتح العينين ويقول:

إني أرى، وفؤادي ليسَ يكذِبُني

روحاً يَحُفُّ بهِ الإكبارُ والعِظَمُ

أرى جَلالا، أرى نوراً، أرى مَلَكاً

أرى مُحَيّاً يحيّينا ويبتسمُ

يُلقي الجملة ويُعلي صوته في الثانية، ثم يزيده علواً حتى انطلقت أساريره إذ وجد ضالّته وعرف محبوبه:

الله أكبرُ، هذا الوجهُ أعرِفُه

... ...........................

فكأنهم قالوا: ومن هو؟ فقال:

...........................

هذا فتى النيلِ، هذا المُفرَدُ العلَمُ

غُضّوا العيونَ وحيّوهُ تحيّتَهُ

منَ القلوبِ إذا لم تُسعِدِ الكَلِمُ

وأقسِموا أن تذودوا عن مبادئِهِ

فنحنُ في موقفٍ يحلو به القَسَمُ

ثم تحوّل إلى الزعيم الراحل، كأنه حاضر وكأنه يخاطبه، فقال:

لبّيكَ نحنُ الأُلى حرّكتَ أنفسَهم

لمّا سكَنتَ ولمّا غالَكَ العَدَمُ

جئنا نؤدّي حساباً عن مواقفِنا

ونستعدُّ ونستعدي ونَحتكِمُ

وهل نسيتم موقفه من العدوان على طرابلس (في ليبيا) سنة 1912 لمّا هجم عليها الطليان، فكان شعره سلاحاً من أسلحة

ص: 274

المعركة وجندياً من جنود التحرير؟ أليس سلاحاً ماضياً قوله:

قد ملأنا البرَّ مِن أشلائهم

فدعوهم يَملؤوا الدّنيا كلاما

وقوله لمن يُعَدّ عندهم من رجال الدين وهو عون للمعتدين وحلف للسارقين الغاصبين، كما يفعل جمهور الشياطين الذين يُدْعَون الحاخامين:

باركَ المُطرانُ في أعمالِهم

فسَلوهُ: باركَ القومَ علاما؟

أبهذا جاءَهم إنجيلُهم

آمراً يُلقي على الأرضِ السلاما؟

* * *

وانقضى الصيف وجاء أوان «التشكيلات» ، أي تنقّلات المعلّمين التي يترقّبها كلّ معلّم ليعرف مصيره، فيتسابقون يوم صدورها إلى الصحف أو يزدحمون على أبواب وزارة المعارف. وكان نصيبي منها هذا الكتاب بإمضاء الوزير مظهر رسلان:

إلى حضرة السيد علي الطنطاوي المعلم في مدرسة سلمية المحترَم:

قرّرنا نقلكم إلى مثل وظيفتكم في مدرسة سَقْبا، فنرغب إليكم أن تباشروا وظيفتكم هذه حالاً والسلام عليكم.

دمشق في 29 أيلول 1932. وزير المعارف.

* * *

ص: 275