الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعقوب بن نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي ابن صدقة أبو يوسف تاج الدين التغلبي الدمشقي المعروف بابن سنى الدولة وهو خالي شقيق والدتي مولده بدمشق في السابع من جمادى الأولى سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من حنبل وغيره وكان من الرؤساء العدول تولى عدة مناصب وكان موصوفاً بمعرفة صناعة الكتابة وتوفي ببعلبك وهو ناظرها وما أضيف عليها من الأعمال وكانت وفاته في العشر الآخر من ذي الحجة ودفن في حجرة الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله روحه وكان تاج الدين سليم الصدر حسن الظن بالفقراء والصلحاء رحمه الله تعالى.
يعقوب بن
…
أبو يوسف شهاب الدين المعروف بابن الأنباري كان فاضلاً أديباً حسن النظم توفي في هذه السنة بحماة وقد جاوز سبعين سنة ومن شعره في الصفي بن الدجاجية وقد ولي الأهراء:
ألا قل لسيف ملوك الزمان
…
ومن هو إلب على من قسط
وكلت وأنت امرؤ حازم
…
إلى ابن الدجاجة رعى الحنط
وأنت العليم به أنه
…
إذا جاع وهو عليها لقط
السنة السادسة والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة الجبل.
وفي ثالث صفر قدم الأمير عز الدين الحلى من الحج فخرج
الملك الظاهر لتلقيه إلى البركة ثم توجه الحلى لزيارة القدس والخليل عليه السلام وعاد في سادس عشر ربيع الآخر فأعيدت إليه نيابة السلطنة بالديار المصرية.
وفي عاشر صفر عقد مجلس بين يدي الملك الظاهر للضياء بن الفقاعي بحضور الصاحب بهاء الدين وجرى فيه ما اقتضى صرف الضياء والحوطة عليه وأخذ خطه بجملة من المال ولم يزل يضرب إلى أن مات وأحصيت السياط التي ضربها في نوب متفرقة فكانت سبعة عشر الفاونيف وسبعمائة سوط.
وفيها وصل رسول المظفر شمس الدين يوسف صاحب اليمن إلى مصر ومعه فيل وحمار وحش معمد بأبيض وأسود وخيول وصيني ومسك وعنبر وغير ذلك من التحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط أنه يخطب له في بلاده فجلس الملك الظاهر بقلعة الجبل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول واستدعى الرسول وقبل الهدية وبعث في جواب الرسالة الأمير فخر الدين إياز المقزي وعلى يده خلع وسنجق وتقليد بالسلطنة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر إلى بركة الجب عازماً على قصد الشام وترك نائباً عنه للسلطنة الأمير بدر الدين الخازندار ورحل في رابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا بضيافة فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس العدة ليلاً وسار فصبح يافا فأحاط بها من كل جانب فهرب من كان بها إلى القلعة فملكت المدينة
وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وملكت القلعة في الثاني والعشرين منه وهدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس لما نزل الساحل بعد كسرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة وأصدرت كتب البشائر عن السلطان بفتحها فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر مضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي اسمعه الله من البشائر أجملها، ومن التهاني أشملها، ومن تحيات النصر أفضلها، ومن سور الإتحاف بالظفر منزلها، تعلن ببشرى بفتح حسن استفتاحه، وتساوى في الجلالة غرره وأوضاحه، وأتى بسملة لهذه الغزاة المباركة التي بها تتبرك المهارق، ومفتاحاً لمغلق الحصون التي إن فتحها الله فلا مغلق، وإن سهلها فلا عائق، وذاك لأن يافا كانت قد كثر عدوان من فيها، وحصل من إضرارهم ما لا يقدر أحد على تدارك تحيفاتها ولا تلافيها، وصارت لعكا يسر الله فتحها طليعة مكر، ومادة كفر، منها يمتارون من كل ممنوع، وربما يأمنون من خوف ويشبعون من جوع، ويتطلعون إلى دار الإسلام منها من وراء زجاجة، ويجعلونها لهم باباً يتوصلون منه عند الإجاحة إلى ما في نفوسهم من حاجة، فلما توجهنا هذه الوجهة المباركة، وتعوضنا فيها عن إنجاد الملوك بالملائكة حرفنا إليها العنان يسيراً، وعرجنا عليها تعريج مستروح ثم يستأنف مسيراً، وطرقناها بكرة يوم الأربعاء
العشرين من جمادى الآخرة فما مضى إلا بقدر ما جردت السيوف من الإغماد، أخذت المعاول في العويل على أهل الإلحاد، ونطقت ألسن الأعلام بالنصر المبين، وتلقى النصر رايتنا باليمين، وطفنا بها طواف المناطق بالخصور، والشفاه بالثغور، وإذا بأهلها يطلبون الأمان على النفوس خاصة وإنهم يبذلون لنا كل ما لهم من مال وعلال وسلاح وغير ذلك فأجبناهم إلى ذلك وما فتحوا الأبواب إلا والرجال قد فتحت النقوب، ولا جيبوا الأطواق إلا والسيوف قد فتقت الجيوب، ولا خرجوا من قلتها إلا والابطال عليها قد علت، ولا طلعوا منها إلا والأولياء إليها وما حصلوا خارجها إلا والمقاتلة بها قد حصلت وتسلمناها وقلعتها فتحاً قريباً، وتسنمناها مرتعاً مريعاً ومربعاً خصيباً، وسطرناها في الساعة التي قام لسان العلم قبل سان القلم على منبرها خطيباً، فيأخذ حظه من بشرى جاءت طليعة لما بعدها من البشائر، وأقبلت مقهمة بأن لا بد بعدها من فتوحات تتبع الأوائل منها الأواخر والله تعالى يوفقه في الموارد والمصادر، إن شاء الله تعالى.
فلما فرغ من هدم يافا رحل يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالباً للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر وظفر بكتاب من الفرنج الذين بعكا يتضمن أعلام النواب بالشقيف إن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظوا به وجدوا في تحصينه وينبهونهم على أماكن يخاف على الحصن منها إن أهملت فاستدعى ببعض من يكتب بالفرنجي
وأمره أن يكتب كتاباً يذكر فيه إمارات بينهم وبين أهل عكا استفادها من الكتاب ويحذر الكمندور المقيم بالشقيف من الوزير المقيم عنده ومن جماعة كانت اسماؤهم في الكتاب وكتاباً آخر إلى الوزير يحذره من الكمندور ويأمره إن احتاج إلى مال يأخذه من فلان وسمى شخصاً كان اسمه في الكتاب وتحيل في وصول الكتابين إليهم فلما وقفوا عليهما اختلفوا مع شدة الحصار بالزحف والمنجنيقات فالجأهم الخلف إلى أن أرسلوا إلى الملك الظاهر وقرروا تسليم الحصن وإن لا يقتل من فيه فتسلمه يوم الأحد تاسع عشرين شهر رجب وكان ملك الباشورة بالسيف في سادس وعشرين منه واصطنع الكمندور وكانت عدة من كان فيه أربعمائة وثمانين رجلاً واثنين وعشرين أخاً فأركبهم الجمال إلى صور وسير من معهم يحفظهم ممن يؤذيهم وأنشئت كتب البشائر إلى الأطراف فمنها كتاب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء كمال الدين أحمد بن العجمي رحمه الله مضمونه: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البشائر تحل به ربعاً، وتصنع لديه في الإبلاغ حسناً وتحسن صنعاً، وتسر بالإفهام والإلمام والإعلام له قلباً وبصراً وسمعاً، تعلمه بفتح أمست وجوه البشائر ببشره متهللة، وأسماع المنابر لوعيه متبتلة وفروض الجهاد به مؤداة ولكنها مشفوعة بالسيوف المسنونة والغزوات المنتفلة وهو فتح الشقيف الذي جاء بتناوب الإتحاف إلى القلوب، ويتناسب أنباؤه كالرمح أنبوب على
أنبوب، ويتعاقب مسراته إلى الإسلام كما تتعاقب الأنواء لنفع الثرى المكروب، وأقبل بعد فتح يافا كما تقبل البكر التي لا بد لها بعد سهولة الهداء من الامتناع عند الافتراع وتهادى تهادي الغيث الذي لا بد له عند نزوله من الرعد المرعج والبرق اللماع، كان نزولنا عليها في تاسع عشر شهر رجب المبارك سنة ست وستين وستمائة بعد أن سلكنا إليها في أوعار تتعثر بها ذيول الرياح، وهبطنا في أودية لا يأنس فيها إلا بمجاوبة الصدى لقعاقع السلاح، وصعدنا في جبال لا يرى الأشباح، منها إلا كالذر والذري إلا كالأشباح، وهذه القلعة من وجه هذه الشواهق بمكان الغرة، ومن كتابها بمنزلة الطرة، كأنها سمع تناجيه النجوم بأسرارها، أو راحة بما بسطته من أصابع شرفاتها وتلك البواشير منها بمنزلة سوارها، يكاد الطرف ينقلب عنها خاسئاً وهو حسير، وكل ذي جناح يغدو دون منالها يطير، قد أحكم بناؤها فلا أيدي المعاول لأطراف أسوارها مجاذبة، وحصن فناؤها فلا غير الغمائم لها مجاورة ولا غير الرعود لها مجاوبة قد تحصن بها من الكفر كل مستقتل، وتوطنها منهم كل جاهل يرجع في التحصن بها إلى منعتها وكيف لا وهو لها مستعمل، وقد انتخبهم الفرنج من بينهم انتخاب المناصل بسريع سهامه والمفاضل لبديع كلامه وحلوا منه ذروة بعيدة المنال، وتوقلوا صهوة لا تتخطى إليها الآمال، وكنا كما قد علم المجلس السامي أعزه الله قد سيرنا إليها العساكر الشامية تمسك
منها الخناق، وتأخذ منها بمجامع الأطواق، فخفت بها كما حفت الخواتم بالخناصر، أو كما حفت بالعيون الأهداب ودارت حولها سوراً ما له غير الخود من شرفات وغير نواهد الخيل من أبراج وغير حنايا السيوف من أبواب، وأحدقت بثغرها كما تحدق الشفاه بالثغور، وأطافت بها قبل إطافتنا كما يطوف البند قبل المنطقة بالخصور، وأقامت السمهرية ترمقهم بزرق عيونها والمشرفية، تتناعس لاستنامتهم بتغميض جفونها، وبقيت السنة الصناجق في أفواه غلفها صامتة لسماع الزحافات مصغية، وكواسر الآساد في آجامها من الرماح السمهرية مقعية، وصارت السهام في كنائنها تقلق، وأخشاب المجانيق لتفرق أجزائها تفرق، إلى أن بعثنا الله من فتحها إلى المقام المحمود، وانقضت مدة أرجائها في يد الكفر وما كان تأخيره إلا لأجل معدود، ونزلنا ربعها بالعساكر التي سيوفها مفاتيح الحصون، ورماحها أرشية المنون، فما نزلنا من ظهر جوادنا إلا على ظهر جبلها الذي حرته عن يمينه جنيبا، ولا ألقينا عصى
التسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى. لتسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت
حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين
تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى.
ثم رحل بعد أن رتب بها عسكراً في عاشر شهر شعبان منها
وبعث أكثر الأثقال إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها وذلك في رابع عشر الشهر ورحل إلى حصن الأكراد ونزل المرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فأعادها عليهم وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار ثم رحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى ثم رحل ليلاً وتقدم إلى العسكر بلبس العدة فنزل إنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن وجد معه شيء أخذ منه فجمع منه ما أمكن وفرق على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفاً وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من حلب وبلدها وكان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس وأنشئت كتب البشائر، فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر مضمونها: أدام الله سعادة المجلس السامي القضائي ولا برح يؤثر البشائر، حشاياً المنابر، ويجزي من السرور الهاجم عيون المحابر، ويسجد لها قلم الناظم والناثر، ويتلقاها ببشر إذا تأمل قادمه قال كم ترك الأول للآخر، هذه المكاتبة تتحدث بنعمة الله التي تهلل بها
وجه الإيمان، وهلل بها من أهله كل لسان، وجاءت بحمد الله حلوة المجتنى، حافة بالنصر من هنا ومن هنا، وذاك بفتح إنطاكية التي لم تتطرق إليها الحوادث والخطوب، ولا طرق حديث فتحها إلا سماع ولا هجس في القلوب، وادخرها الله لنا ليخصنا بفتحها الوجيز، ويجعلها باباً لما يليها من بلاد الكفر نلج منه بمشيئة الله وما ذلك على الله بعزيز، وهو أنا لما فرغنا من فتوحاتنا التي سبق بها الإعلام، وإشاراتنا التي خصت وحصت طرابلس الشام، ثنينا العنان إلى هذه الجهة فشاهدنا منها ما يروق النواظر، ورأينا مدينة يجتمع داخل سورها الإنس والوحش والطائر، للاستيطان والبادي والحاضر، يحف بها أسوار لا يقطعها الطائف في يوم مسيراً، ولا يدرك الناظر من أولها لها أخيراً، وبها رجال غدوا إليها من كل حدب ينسلون، ومن كل هضبة ينزلون، وفي ظلال كل مطهم يتقيلون، وكان نزولنا عليها في يوم الأربعاء غرة شهر رمضان المعظم فلم يكن إلا بقدر ما نزلنا إلا ورسلهم قد حضروا ليمسحوا أطراف الرضا، ويتقاضوا من العفوا حسن ما يقتضى، فما ألوى عليهم حلمنا ولا عرج، ولا نفس عنهم كربة ولا فرج، فزحفنا عليهم في يوم السبت بكرة وهو رابع الشهر، فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقد دخلت عليهم من أقطارها، وتسور العسكر المنصور من أسوارها، وامتدت ألسنة الصوارم وأسنة الرماح، وشهرت البيض الصفاح، وأريقت الدماء واستحيت النساء وغنمت الأموال، وجدلت الأبطال، ووجد العالم من التحف والنعم ما لا كان يمر في خلد ولا يخطر في بال، وكتابنا هذا واليد الإسلامية