الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حث العقلاء على التحلي بمكارم الأخلاق
(1)
اعلموا - بارك الله فيكم - أن مكارم الأخلاق صفة الأنبياء والصديقين والصالحين، وأن الأخلاق السيئة هي الممحقات المهلكات التي تردي بصاحبها إلى أسفل الدرجات؛ لذلك بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وصالحها، فقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (2)
وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إلى حسن الخلق، وأخبر أن الأخلاق الحسنة هي من تمام إيمان العبد وكماله، فقال عليه
(1) أم أمامة الأثرية، موقع الإمام الآجري
(2)
أحمد 8595، والبخاري في الأدب المفرد 280 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد
الصلاة والسلام «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» (1) ، فلن يكمل إيمان العبد حتى يحسن خلقه.
فإن أراد العبد أن يصل إلى هذه الدرجة العالية وهي كمال الإيمان، فعليه أن يجتهد ويصرف همته في اكتساب كل خلق كريم، وأن يبعد عن كل خلق سيء مكروه؛ وعليه في ذلك أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان من أحسن الناس خلقاً، وأتقاهم لله وأعلمهم به.
فقد منَّ الله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بتوفيقه إلى مكارم الأخلاق فقال تعالى مثنيا عليه مظهراً نعمته لديه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم:4؛ وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه وهو سعد بن هشام قال: «يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ أَلَسْتَ
(1) أبو داود 4062،والترمذي 1082 وقال حسن صحيح، وكذا الألباني في صحيح أبي داود
تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ» . (1)
(وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات الحاثات على كل خلق جميل فكان له منها، أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا. فكان سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا. وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا، إلا أتم عشرة وأحسنها. فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي
(1) مسلم 1233
عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال) (1) .
فعلينا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونلزم مكارم الأخلاق، قال-عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب:21.
فمن لزم مكارم الأخلاق ومحاسنها، فإنه حريٌّ به أن يفوز ببيت في أعلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (2)
- «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ
(1) تفسير السعدي (تفسير سورة القلم)
(2)
أبو داود 4167، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود
الْفَمُ وَالْفَرْجُ» (1) ، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِهِ؛ فتقوى الله توجب له محبة الله تعالى وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
وإذا كان حسن الخلق يدخل صاحبه الجنة، فإنه أيضا يرفع منزلة العبد إلى درجة الصائم القائم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» (2)
فيا ترى ما هو السر في وصول من كانت أخلاقه حسنة إلى درجة من قائم الليل وصائم النهار؟
فالسر يكمن في أن صاحب الخلق الحسن أعطي هذا الفضل العظيم، لأن الصائم في النهار والمصلي في الليل يجاهدان أنفسهما في مخالفة شهواتهم؛ وأما من يحسن خلقه مع الناس مع اختلاف طبائعهم
(1) الترمذي 1927 وقال صحيح غريب وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، وابن ماجة 4236، وأحمد 8734
(2)
أبو داود 4165، وصححه الألباني في صحيح أبي داود
وأخلاقهم فكأنه يجاهد نفوساً كثيرة، فأدرك ما أدركه الصائم القائم، فاستويا في الدرجة.
وحريٌّ به أيضا أن يكون من أحب عباد الله إلى الله،:«قَالُوا: فَمَنْ أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ؟، قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» (1)
-ويكون كذلك من أحب الناس وأقربهم مجلساً من النبي-صلى الله عليه وسلم-يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» (2)
وحريٌّ به أيضا أن يثقل ميزانه يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام:«مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ» (3)
(1) الطبراني 473، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 432
(2)
الترمذي 1941 وقال حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(3)
الترمذي 1925وقال حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي
وأيضا مكارم الأخلاق تزيد في الأعمار وتعمِّر الديار، قال صلى الله عليه وسلم:«صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» (1)
فإذا عرفنا هذا الفضل العظيم والأجر الكبير الذي يناله من كانت أخلاقه حسنة، كان لزاماً علينا تزكية نفوسنا وتهذيب أخلاقنا، مصداقاً لقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} الشمس:9؛ وإهمال تهذيبها هو المراد من قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس: 10
وقبل أن نذكر كيفية ترويض النفس، وتهذيب أخلاقها، يحسن بنا أن نشير إلى سؤال مهم، وهو:
هل الأخلاق جبلِّية في الإنسان (أي غريزة وطبع فيه) أم أنها مكتسبة (يكتسبها بالتخلق والإقتداء بغيره) ؟
- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حقيقة الخلق، فذهب بعضهم إلى أنه غريزة، وذهب آخرون بأنه مكتسب.
(1) أحمد 24098، وصحح الألباني إسناده في الصحيحة 519
- والقول الكاشف للغطاء عن ذلك-والله أعلم-: أن من الخلق ما يكون في بعض الناس غريزة وطبعا جبلياً، ومنه ما يكون مكتسب بالتخلق وترويض النفس على محاسن الأخلاق.
- ودليل ذلك: قول النبي-صلى الله عليه وسلم لذاك الصحابي وهو-الأشج بن قيس-: «إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا قَالَ بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (1)
- ففي هذا دليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلة في الانسان أي أن الله خلقه وفطره عليها.
- قال الحافظ ابن حجر (2) : فَتَرْدِيده السُّؤَال وَتَقْرِيره عَلَيْهِ يُشْعِر بِأَنَّ فِي الْخُلُق مَا هُوَ جِبِلِيٌّ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَب. اهـ
(1) أبو داود 4548، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود
(2)
فتح الباري 10/459 ح 5575
-ومنها ما يكون كسبي يحصل بمجاهدة النفس وتهذيبها على الأخلاق الحسنة.
- ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ» (1)
- ونقل النووي (2) عن القاضي عياض قوله: (وَالصَّحِيح أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ غَرِيزَة، وَمِنْهُ مَا يُكْتَسَبُ بِالتَّخَلُّقِ وَالِاقْتِدَاء بِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ) .اهـ
وحاصل القول أن الأخلاق قابلة للتغيير، فلو كانت لا تقبل التغيير لبطلت المواعظ والوصايا والتأديبات؛ وكيف لا تقبل التغيير ونرى خلق البهيمة يمكن تغييره، فالوحوش تستأنس، والفرس تروّض وتنقاد، وكلب الصيد يعلَّم، وكل ذلك تغيير للأخلاق؛ إلا أن بعض
(1) الطبراتي في الكبير 1763،والخطيب في تاريخ بغداد 6 /442 - وحسن الألباني سنده في الصحيحة 342
(2)
شرح صحيح مسلم 15/79 ح 4285
النفوس سريعة الانقياد للصلاح، وبعضها مستصعبة، لأن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها.
بيان الطريقة العملية لإصلاح النفس وتهذيب أخلاقها:
مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها، مثال البدن في علاجه بمحو الأمراض عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه، وقد ذكر بعض العلماء بعض الطرق العملية لتهذيب الأخلاق وإصلاح النفس، اخترت منها طريقة قد لا تستصعبها النفس البشرية ولا تحتاج إلى كبير مجاهدة وعناء، وتكون بتوفيق الله تعالى أيسر من التفتيش عن مساوئ الأخلاق في النفس وإزالتها، وهي طريقة ذكرها ابن قيم الجوزية (1) قال:
(1) مدارج السالكين 2/313
(سألت يوماَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس وهو- جب القذر- كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره وكلما نبشت شيئا ظهر غيره، فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر قط، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله) اهـ
وعليه فكل من أراد تهذيب نفسه واكتساب الأخلاق الحسنة، فلا يشتغل بالبحث عن الأخلاق المذمومة الموجودة فيه، لأنه كلما بحث عن
خلق ذميم، ظهر له آخر، وهذا المسلك صعب على النفس وربما لا يوصله إلى الثمرة المرجوة؛ والطريق الأسلم هو أنه كلما عرض عليه خلق ذميم في حياته اليومية يجاهد نفسه في التخلّص منه في حينه، و «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ عز وجل» (1) كما قال عليه الصلاة والسلام
-مثال ذلك: لو أن مسلم رأى أن الله-عز وجل منَّ على أخيه المسلم بالبيت الواسع والمركب الهنيء، فعرض له في نفسه الحسد، فتمني زوالها عنه فذلك حرام وهو الحسد المذموم؛ فهنا مباشرة يجاهد نفسه بإزالته في حينه كما أشار ابن القيم عند سرده للجواب (فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك) ، فإن أزاله حمد الله على توفيقه لتزكية نفسه؛ وهكذا كلما عرض له خلق ذميم
(1) الطبراني في الكبير 15192، وابن حبان 4706 (ابن بلبان) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع
تنبيه
وأشير إلى أنه لا بد لتهذيب أخلاقنا وتحسينها، من الرجوع في ذلك إلى الشرع؛ " لأن تزكية النفوس مسلَّم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليماً وبياناً وإرشاداً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الجمعة:2
-وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} البقرة: 151